ما بعد حرب لبنان
بغض النظر عما ستسفر عنه حرب تكسير العظام التي تشنها إسرائيل ضد لبنان بأكمله وليس ضد حزب اله فقط، المؤكد أن الوضع بعد انتهاء هذه الحرب سيختلف كثيراً عما كان عليه قبلها، ليس على الجبهة اللبنانية الجنوبية وحسب، لكن أيضاً على صعيد الداخل اللبناني من جهة، وعلى صعيد التوازن الإقليمي في المنطقة من جهة أخرى.من هنا، على المراقب ألا يقف عند حدود استقراء ما ستؤول إليه الأزمة الراهنة، وإنما عليه أن يبحث فيما وراء الأزمة وما بعدها من تداعيات ونتائج ربما لا يظهر بعضها قريباً لكن على المديَين المتوسط والبعيد.بيد أن هذا يستلزم بدوره الوقوف على ما كشفت عنه الأزمة الراهنة من دلالات ومعان لجهة التحالفات والتفاعلات الجارية بين أطرافها. وما يعنينا ليس ما بين الأطراف المتصارعة، فالصورة بينها واضحة إلى حد كبير، فعلى سبيل المثال من السهولة بمكان الحديث عن أهداف وتوقعات كل من إسرائيل وحزب الله وطريقة إدارتهما للأزمة ورؤية كل طرف منهما للآخر. إلا أن الأهم هو العلاقات والتفاعلات الجارية بين الأطراف المتعاونة أو التي يمكن الحديث عن صفقات وتحالفات بينها سواء مثل تلك القائمة من قبل، كما هو حال سوريا وإيران، أو تلك التي ربما تكون قد استجدت أو أعيد إحياؤها كما بين إيران وبعض الفصائل الفلسطينية، أو بين تلك الأخيرة وسوريا.من أبرز ما كشفت عنه الأزمة أو بالأحرى الحرب الدائرة، أن المحاور والتحالفات التي أبرمتها إيران في أوقات سابقة ولم تنعكس كثيراً في علاقاتها أو سياساتها الإقليمية بشكل واضح، تلك التحالفات لم تنته ولم تكن طهران قد تخلت عنها أو ألغتها، وكل ما في الأمر أن ثمة توقيتات مناسبة لكل خطوة وثمة مراحل ملائمة لتفعيل خطوط معينة ربما كانت مجمدة أو معلقة لفترات طويلة. والأمر ينطبق هنا بوضوح على علاقات إيران ببعض الفصائل الفلسطينية التي كانت طهران قد خففت روابطها معها في الأعوام الأخيرة خصوصاً منذ نشوب أزمة الملف النووي الإيراني، باستثناء الدعم المالي الذي أعلنت إيران عن تقديمه لحكومة حماس مؤخراً. بيد أن أزمة اختطاف الجندي الإسرائيلي في فلسطين كشفت عن تنسيق عالي المستوى بين طهران والفصائل الفلسطينية. وهو ما ينطبق أيضاً على العلاقة بين سوريا وتلك الفصائل، فمعروف أن دمشق رفعت أيديها إلى حد بعيد عن دعم واستضافة الفصائل الفلسطينية العشر التي لا تزال تتبنى منهج الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، بل أعلنت سوريا غير مرة أن بعض المكاتب التمثيلية لتلك الفصائل في دمشق لم تعد سوى مكاتب شكلية ولا تعكس علاقات أو روابطفعلية بين الجانبين، وذلك في سياق إدارة سوريا للعلاقة مع الولايات المتحدة ومواجهة الضغوط التي مارستها إدارة بوش ضد دمشق في الأعوام الثلاثة الأخيرة.في مستوى آخر، كشفت التطورات المتلاحقة في الأزمة بين حزب الله وإسرائيل، أن بعض التحالفات التي تمت داخل لبنان تجاوزت التوقعات، والمقصود هنا على وجه الخصوص التحالف الذي أعلن قبل ستة أشهر تقريباً بين حزب الله والتيار الوطني الحر بقيادة ميشيل عون، فذلك التحالف الذي أعلن عنه في وثيقة مكتوبة وقعت في 6 فبراير الماضي، قوبل بتوقعات من مراقبين وساسة لبنانيين بأنه لن يستمر وأنه تحالف تكتيكي مرحلي سرعان ما ينهار أو يتقوض تحت وطأة التباينات العقيدية والاختلافات السياسية الإستراتيجية بين الجانبين. وجاءت الأزمة الأخيرة لتكشف عن مدى قوة وعمق هذا التحالف وتعكس بصورة واضحة -بل ربما مفاجئة- أنه كان خطوة مدروسة ولم يكن مجرد تكتيك أو صفقة مرحلية جزئية.هذا فيما يتصل بما كشفت عنه الأزمة من تحالفات قائمة أو أعيد إحياؤها، غير أن هناك تبدلات وتحولات في بعض التحالفات التي كانت قائمة، فعلى المستوى اللبناني الداخلي تعرض ما سمي بتحالف قوى 14 مارس إلى ضربة قاصمة من خلال الأزمة الراهنة وطريقة إدارتها، فمن ناحية لم يكن للفصيل الرئيس في التحالف (تيار الحريري) التأثير الطاغي والحضور الفعال المؤثر بل الحاسم أحياناً كما كان الحال قبل غياب رفيق الحريري عن الساحة. الأمر الذي سيؤثر لا شك على ثقل ودور تيار الحريري ليس في الداخل اللبناني وحسب، بل أيضاً على المستوى الخارجي وتحديداً في النطاق العربي خصوصاً أن الحريري الابن قام بجولة عربية عاجلة فور مبادرة إسرائيل بالتصعيد ضد حزب الله ولبنان، ولم تسفر الجولة عن نتائج تذكر، ورغم أن هذا الإخفاق ربما يعود في جانب مهم منه للجانب العربي والقيود المفروضة عليه في التعاطي مع الأزمة، لكن في النهاية يُحسب على الحريري الابن أن جولته لم تحقق الهدف المطلوب، وهو ما ينطبق بدوره على الدولة اللبنانية أو بشكل أكثر تحديداً الحكومة اللبنانية التي جاءت مواقفها مخيبة لآمال كثير من اللبنانيين والعرب، ولم تكتف بإنكار علمها بالعملية التي قام بها حزب الله، والتنصل منها، بل أكدت هذا التنصل أكثر من مرة ثم عاد السنيورة من واشنطن دون نتائج تذكر عدا حصوله على وعد من بوش 'ببذل جهد لحث إسرائيل على محاولة تجنب إنزال أضرار بالغة بالمدنيين'!على جانب آخر، من شأن الحرب الدائرة حالياً من جانب إسرائيل ضد كل ما هو لبناني، أن تعيد تشكيل وترتيب التحالفات العربية، فبعد أن كان المثلث المصري-السعودي-السوري هو مثلث القوة الرئيس والأكثر محورية في النظام العربي، فإن مرحلة ما بعد الأزمة ستدشن تحالفاً جديداً يدخل فيه الأردن ضلعاً ثالثاً بدلاً من سوريا. واقع الحال أن الخروج السوري من ثلث القوة العربي ليس وليد الأزمة الراهنة، بل بدأ هذا الخروج فعلياً قبل ثلاث سنوات تقريباً مع انفراد دمشق وإصرارها على قرار التمديد للرئيس اللبناني إميل لحود، وما صاحب هذه الخطوة من تداعيات وسلبيات على التعامل الدولي مع سوريا وصدور القرار 1559. ثم جاءت عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري ضربة قاصمة للدور السوري في لبنان ولمدى القبول والتوافق التي تحظى بها السياسة السورية ليس تجاه لبنان وحسب، بل أيضاً تجاه ملفات أخرى عربية وإقليمية. وساهم في مزيد من التراجع لدور دمشق الإقليمي توالي الاختلافات في مواقفها عن مواقف عربية أخرى فيما يتصل بالملفات المهمة عربياً خصوصاً ملف إدارة الصراع مع إسرائيل بمختلف مساراته، والموقف العربي من تطورات الاحتلال الأمريكي للعراق والوضع الداخلي هناك. وهي الاختلافات التي تجسدت بوضوح في المحافل العربية بصفة خاصة مثل القمم والمؤتمرات الوزارية العربية. وقد مثلت هذه الخبرة السابقة على الصدام الأخير بين إسرائيل وحزب الله، مثلت بيئة مواتية لاستكمال استبعاد سوريا من مثلث القوة العربي ودخول الأردن مكانها.في المقابل، يبدو التحالف الإيراني- السوري مرشحاً بقوة للتفعيل بل ربما مزيد من التطوير في أبعاده، وتجدر الإشارة هنا إلى ما حدث بشان الجندي الإسرائيلي المخطوف في فلسطين، حيث أخفقت جهود التوصل لصفقة للإفراج عنه مقابل إطلاق أسرى فلسطينيين، بعد أن كانت تلك الجهود قد اكتملت ووافقت حركة حماس بالفعل على إتمامها. ثم مبادرة حزب الله للدخول على خط الأزمة وفتح جبهة أخرى ضد إسرائيل بخطف جنديَيْن آخرين. فمن الصعوبة بمكان عدم الربط بين إفشال الصفقة مع الفلسطينيين وتفجير الموقف من جانب حزب الله. الأمر الذي لم يكن ليتم دون تنسيق عالي المستوى وربما تنسيق مسبق بين طهران ودمشق. كما ينبغي هنا تذكر الخطوة التي قامت بها الدولتان قبل شهرين وهي تطوير التعاون العسكري والاستراتيجي بينهما، فيما بدا رسالة واضحة لكافة الأطراف بأن انحسار التحالف بينهما ليس وارداً وأن انشغال إيران بالملف النووي، وانهماك سوريا في مواجهة أعباء علاقتها مع لبنان، لا يعنيان بالمرة تراجع البعد الثنائي في العلاقات. بل جاءت التطورات الأخيرة لتؤكد أن العكس هو الصحيح وأن المحور الإيراني- السوري لم يأفل.نحن إذن أمام مجموعة من التحالفات والمحاور الجديدة في المنطقة، بعضها إقليمي بين دول، وبعضها داخلي بين قوى وتيارات داخل لبنان تحديداً. كما أننا أمام تحالفات ومحاور أخرى متجددة تجد مغذياتها في التطورات الجارية، ومن غير المعلوم حتى الآن، ما إذا كانت تلك المحاور الجديدة والمتجددة ستعيد تشكيل الخريطة الإقليمية للمنطقة، أم أن تلك المحاور والتحالفات هي المرشحة للتغير مع تغير المعطيات وتبدل الأوضاع.