قراءة للثقافة المجتمعية والتغيرات الفكرية
تـُشكِّل قضية الاغتراب كما تحدَّث عنها الكثير من العلماء واحدة من أهم القضايا التي تحاول معالجة عَلاقة الفرد بذاته ومحيطه المجتمعي والثقافي، فالإنسان الذي يعيش الحياة الحديثة بتعقيداتها الكبرى لابد أن يتعرض إلى عملية انتزاع عن ذاته تقوم بها المعطيات الحديثة للحياة، ومنها تلك القضايا المرتبطة بـ (التكنولوجيا) والتحضر والتي أثرت بشكل كبير على الفرد وعَلاقاته الاجتماعية التقليدية. ومع أن (التكنولوجيا) ومعطياتها قد عملت على خلق جديد للعَلاقات الاجتماعية بطريقة مستحدثة، إلا أنّ الإنسان ما زال في مقاومة شديدة لها، ولعل اغترابه عن معطيات ( التكنولوجيا) والتحضر وحنينه إلى مقومات الماضي بطريقة مشوِّهة في كثير من الأحيان يفسِّر الكيفية التي يمكن أن تبدو بها مظاهر اغتراب الإنسان في مجتمعات كثيرة. إنّ عَلاقة الفرد بحياته وفق المعطيات المعقدة التي نراها في زمن العولمة و(التكنولوجيا) وزمن المعرفة المنتشرة في الفضاء بحجم ذرات الهواء لا تقف عند حدٍ معيَّن بل تتفرع إلى أدق التفاصيل في حياة الفرد وعَلاقته بثقافته وخصوصاً في جانبها الفكري الذي يشكل محوراً مهماً في صناعة الفرد اجتماعياً، فالفرد بكونه جزءاً من المجتمع (الكيان) له عَلاقة معقدة مع الثقافة الكل التي تشكل المنتج الاجتماعي (الكل) حيث تكون القيم الثقافية المشتركة وتكون المعتقدات وتكون مفاهيم الحياة الاجتماعية والفنون والآداب التي يشترك في تعاطيها جميع أفراد المجتمع.[c1]الغربة في المصطلح الإسلامي[/c]مصطلح الغربة ليس جديداً على المسلمين في المعنى الذي يد ل على انحسار الإسلام وضعفه في آخر الزمان، كما حدَّث بذلك نبي الأمة عليه الصلاة والسلام، ولذلك فقد تمّ استخدام مصطلح الغربة في الإسلام بشكل كبير في العقود الماضية وجاء هذا الاستخدام في الزمان والمكان غير المناسبين، إلى درجة أنّ مؤلفات كثيرة ناقشت تلك المفاهيم في محاولة تفسير لما يجري في العالم الإسلامي اليوم عبر تساؤل يقول : هل ما يحدث للمسلمين تعبير عن غربة يعيشها الإسلام؟ [c1]وهل يستوجب ذلك إعادة الصفوف وترتيب الأوراق من خلال مخاطبة الثقافة السائدة في المجتمع.[/c]الحقيقة أنّ استخدام وتكريس مثل هذا المصطلح لم يكن مقنعاً استناداً إلى المعنى الحقيقي للحديث الذي جاء حول غربة الإسلام فحتى الشروط التي أوردتها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلّم لم تكن لتنطبق على المعطيات المحيطة بكل حذافيرها، ففي معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم : (إنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً)، يذكر الشيخ سلمان العودة في معنى الحديث ما نصه : ((إنّ الغربة الواردة في هذا الحديث هي جزء من الغربة التي أشرت إليها في المعنى الثاني من كون المرء على حال من الاستقامة العلمية والعملية، يقل موافقوه فيها، ويكثر مخالفوه وشانئوه، وإذا دعا الناس إلى ما هو عليه قلّ متبعوه، وهذا ما يؤكد قوله صلى الله عليه وسلَّم حين سُئل عن الغرباء : ((أناس صالحون، في أناس سوء كثيرين من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم))، وهذا وجه من وجوه الغربة، يتمثل في قلة المعين على الخير وقلة المستجيب لدعوة الله)) (8) .بهذا المعنى اختزلت الغربة من مستوى الأمة إلى مستوى الفرد. هذه الفكرة في تفسير الغربة بهذه الطريقة أسست للغربة الحقيقية التي نتجت بين الثقافة (الكل) والمجتمع (الكيان) ففقد الأفراد ثقتهم في ثقافتهم وفقد المجتمع ثقته في أفراده، ونمت بينهما هوة اغترابية جعلت الصورة الاجتماعية غير واضحة المعالم، فلم يُعد المجتمع المحلي هدفاً للتقويم والإصلاح لوحده، ولكن تداخلت المفاهيم وتمّ خلط الثقافات والمجتمعات وفاق صورة فكرية عجز المسلمون عن استيعابها.لم تكن القضية سهلة في محاولة دمج المسلم الشرقي بالمسلم الغربي ولكن الأجندة السياسية لكليهما كانت حاضرة في حال تمكن أحدهما من الحصول على دولة إسلامية مستقلة ينطلق من خلالها لغزو العالم، ويكفي مثال أفغانستان لشرح هذا التطور والصراع الذي نشأ بين المتحدين والذين كانوا يحاربون باسم الأمة، وكيف بدت ملامح الاغتراب الحقيقي بين الواقع والطموح الذي رسمه المجاهدون وعاشو غربته التي أنتجت القاعدة وغيرها.[c1]ويذكر الشيخ العودة أنّ الغربةَ المقصودة على ثلاثة أنواع :[/c](الأول) : غربة شرائع، بحيث تصبح بعض شرائع الإسلام غريبة كالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر....(الثاني) : غربة مكان، وهي أن يكون الدين غريباً في بلد من البلدان، ويكون أهله غرباء في ذلك البلد، بينما هم في بلد آخر أعزة ظاهرون، فالغربة تكون في مكان دون مكان.(الثالث) : غربة زمان، وهي الغربة المستحكمة المطبقة على الأرض كلها، بحيث يغدو الدين غريباً في زمن من الأزمنة، في بقاع الأرض كلها كما حدث قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلّم. (9)إنّ أحاديث الغربة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليس فيها شك أو مساءلة في هذا الموضع فقد صدرت عمن قال عنه الله سبحانه وتعالى إنّه لا ينطق عن الهوى، ولكن السؤال الذي أطرحه هنا: هل يمكن اعتبار هذا الزمن زمن غربة للإسلام؟ بينما توجد دول تقيم الشريعة الإسلامية وتطبقها علناً، بالإضافة إلى كم بشري مسلم يمثل ربع سكان هذه الأرض من المسلمين. إنّ تعرُّض الثقافة المحلية والإقليمية لمثل هذا الفصل عن واقعها وإدخالها في غربة إجبارية هو الذي أسهم في غربة حقيقية حدثت فعلياً وجعل المجتمع المسلم يقع في أزمة تحديد مكانها على الواقع ومعرفة متطلباته وظروفه، فالمجتمع الذي يتعرض إلى تغريب عن واقعه باستخدام التأثير على الثقافة وأدواتها المتاحة من خلال تهديدها ببعدها عن معتقداتها سوف يؤسس لعَلاقة منفصلة بين الأفراد ومنتجات ثقافتهم التي اعتادوا عليها وعلى مساراتها الفكرية دون تدخل من إضافات تستخدم وتعسف التراث الديني لمصلحة الفكر.[c1]انتحار الثقافة المغتربة بفعل أفرادها (الإرهاب مثالاً) الإرهاب تعبير عن انتحار للثقافة المغتربة عن ذاتها[/c]المهتمون في علم الاجتماع يعرفون تلك الدراسة التي قام بها عالم الاجتماع (دوركايم) والتي خرج منها بتفسيرات مختلفة لظاهرة الانتحار، والتي توصل فيها إلى نوع يطلق عليه الانتحار (الايثاري)، ((وهو يحدث كما يقول (دور كايم) عندما يكون المرء في حالة تكامل استثنائية مع مجتمعه، أي عندما تكون الروابط الاجتماعية شديدة القوة وتغلب قيم المجتمع على قيم الفرد. وفي مثل هذه الحالة يتخذ الانتحار طابع التضحية من أجل المصلحة العليا)) (10).هذا التعريف يجعلنا نحتمل أن تكون الثقافة هي أيضاً عرضة لهذا النوع من الانتحار عبر أفرادها، الثقافة التي تتخذ هي وأفرادها مكاناً قصيا من العالم تكون عرضة لفقدان المعايير، وتكون عرضة لاضطراب في فهمها للواقع وإذا كنا قد أدركنا أنّ الثقافة (الكل) يمكن أن تغترب عن المجتمع (الكيان) فهذا يعطينا الحق في تفسير مسيرة هذه الثقافة بعد أن أصبحت تغترب بالمجتمع عبر استخدام الثقافة الجديدة التي يطلقها مؤسسو فكرة الاغتراب في المجتمع.ولعل الأحداث السياسية والتاريخية والفكر المتشدد بجميع أشكاله يعُد المسؤول الأول عن نشوء هذه الغربة التي يجب أن نوضحها هنا بأنّها حمل المجتمع على اتباع مقومات ثقافية جديدة تمّ إيهام المجتمع بافتقاده إلى مكونات الحياة المتوازنة وأنّه أصبح عرضة هو وثقافته إلى الهلاك ما لم يستجب لجرعات التشدد التي تقترحها مراكز القوى.لقد خلق هذا الاتصال الذي خلقته الثقافة المغتربة نوعاً من الأفراد الذين تمّ تأميم فكرهم، ونتيجة للمتطلبات المتعددة لثقافة التشدد أصبح الفرد معزولاً عن واقعه عبر تصور خاطئ للحياة يعينه على ذلك الثقافة السائدة، والخطاب الثقافي المتكرر عبر الوسائل الإعلامية المحيطة وهذا ما أنتج أفراداً لديهم الاستعداد للتضحية في سبيل المجتمع وثقافته الجديدة، كما يؤكد ذلك (دور كايم) عبر تعريفه للانتحار (الإيثاري).وإذا كان الإرهاب يذهب ضحيته فئات تقدم نفسها للمجتمع ولديها الاستعداد للموت من أجل مجتمع وثقافة مغتربة عن واقعها، فإنّ الإرهاب هو شكل من الانتحار الإيثاري الذي يجعل الإصرار حتمياً بين المنتحرين وأن ما يقدمون عليه لا يقبل النقاش، فكل المجتمعات وكل الثقافات تعمل ضدهم، ولذلك فإنّ عليهم أن يقدموا أنفسهم للتضحية من أجل هذه الثقافة التي يعتقدونها، والتي لن تحقق الانتصار إلا بموت الكثير من أتباعها، هكذا عملت الإيديولوجيات لفرض حالات الانتحار بين أفرادها الذين سمّتهم المجاهدين.الوهم بعدم الاغتراب أكبر المعضلات [c1]السلوك المضطرب الذي يميز مجموعة أفراد في ثقافة بعينها تعبير عن ثقافة مغتربة عن ذاتها![/c]إنّ اعتقاد المجتمع والثقافة أنّها لا تتعرض للاغتراب وأنّ ما يجري فيها يعتبر أمراً طبيعياً لهو أكبر خطورة من تأسيس الغربة نفسها في أروقة المجتمع، فإذا وصل المجتمع إلى هذه المرحلة يصبح من الصعب استئصال هذه الغربة.((لذلك لا يستبعد فروم في معالجته لقضية الاغتراب عن الذات إمكانية الوهم ـ أيضاً ـ فهو يرى أنّ كثيراً من الناس يعيشون تحت وهم أنّهم يتبعون أفكارهم ومشاعرهم وأنهم متفردون، وأنّهم توصلوا إلى آرائهم نتيجة لتفكيرهم، ولكن الحقيقة أنّهم يفكرون ويشعرون من خلال السلطات المجهولة كسلطة الحس المشترك والرأي العام)) (11). المجتمع الذي يغترب أمام ثقافته هو نفسه الإنسان الذي يغترب أمام نفسه. فإذا صنع المجتمع من ثقافته المغتربة أداة يخضع لها فهو يعبِّر عن ذاته المغتربة، وهذا ما يجعل مهمة الفهم صعبة إذ لا يمكن أن نفهم ببساطة إصرار المجتمع المغترب عن ثقافته على تكريس هذه الغربة، بل نجد أنّ المجتمع يعترف بعدم غربته بالأدلة القاطعة، وإذا ما استعرضت مكوناته الثقافية وأحدثت مقارنةً تاريخية لهذا المجتمع وجدت أنّ مكوِّنات ثقافته قد اختفى أكثر من نصفها بفعل الزمن وتأثير الاغتراب، ولذلك يظل الشعور الجمعي مختلفاً مع الواقع حيث تتناقض الثقافة مع مجتمعها وتفرض عليه الكثير من مقومات حياة جديدة وخصوصاً تلك الحياة التي تضع الأيديولوجيا عنوان ذلك المجتمع ومكونه الرئيس.((إنّ ما يدعو إلى ضرورة الاهتمام بالدوافع اللاشعورية ـ للمجتمع والأفراد ـ في العصر الحاضر، هو أنّ مجتمعنا الحديث يساعد الفرد على كبت الشك والقلق والسأم، وكل ما يتعارض مع الامتثال للمجتمع. فالإنسان الحديث يعيش تحت وهم أنّه يفعل ما يريد، وأنّ أفعاله هي أفعاله، وأنّ شعوره هو شعوره، وأنّ فكره هو فكره، ولكن الواقع أنّه يفعل ويفكر ويشعر بما هو مفروض أن يفعله أو يفكر فيه أو يشعر به، إنّه ليس إلا أداة للمجتمع وللآخرين، إنّه آلة ميتة وبلا شعور)) (12).[c1]أساليب اغتراب الإنسان عن ذاته [/c](لثقافة والمجتمع مثالاً) ((إنّ الأساليب التي عن طريقها يهرب الإنسان من حريته هي نفسها الأساليب التي تؤدي به إلى الاغتراب عن ذاته)) (13)، وكذلك يمكن القول عن الثقافة والمجتمع، فالثقافة التي تتنازل عن مقوماتها الحقيقية عبر قبول وسائل التعديل المزيفة التي تضعها الأيديولوجيا تغترب عن ذاتها وتسلِّم مفاتيحها لمنهجية أخرى غير التي اعتادت عليها ومن أبرز هذه الأساليب التي تؤدي إلى ذلك :الامتثال أو الخضوع للحشد : ((الإنسان الحديث يهرب من وحدته وعزلته إلى الامتثال، إذ أنّه يشعر بالأمان كلما ازداد تماثله مع الآخرين إنّ هدفه الأسمى أن يلقى الاستحسان من الآخرين، وخوفه الرئيس هو ألا يصادف هذا الاستحسان، وأن يكون مختلفاً..... فكل انحراف عن النموذج أو أي نقد يثير الخوف وعدم الأمان.. فالفرد إنّما يعتمد على رضا الآخرين مثلما يعتمد مدمن المخدر على المخدرات)) (14). هذا الامتثال ـ وبهذه الطريقة ـ للإنسان الحديث هو المحرك الرئيس والمشجع للثقافة التي تفقد توازنها بأن تكون عرضة للتغيير ويكون أفرادها أدوات جاهزة للتشكيل.الامتثال لا يحدث نتيجة لطلب واضح للتصرف بطريقة معيّنة ـ كما يقول بذلك علماء النفس ـ وهذا ما يجعل الثقافة التي تسودها ظواهر التشدد والتعصب مهما كان نوعه تنفي دائماً عن نفسها أنّها تملي على أفرادها أفعالاً بعينها ولكنها تؤكد أنّ الأفراد يمتثلون لها بطريقة مناسبة تبدو عفوية أكثر منها موجهة.إنّ ظاهرة الإرهاب التي ظهرت هي في حقيقتها امتثال مباشر لمعطيات التشدد والتطرف الذي تعيشه ثقافة بعينها.وظهور الغربة ليس نتيجة للتطور الذي يحدث في البشرية وتصنعه الحضارة، إنّ الغربة تشكيل جديد للثقافة وللذات بشكل سلبي يفقدها توازنها ويفقدها مقوماتها الأساسية ويجعلها تنساق أمام تشكيل جديد يفرضه الرأي المتسلط في المجتمع ويراقب تنفيذه، وهذا يحدث فقط في المجتمعات التي تجعل الثقافة ميداناً مفتوحاً للراغبين في تسويق تجاربهم الفكرية.[c1]عندما لا تعبِّر الثقافة عن نفسها تغترب[/c]ليس من السهولة فهم الكيفية التي يحدث فيها اغتراب الثقافة (الكل) عن المجتمع (الكيان) فكلاهما يستجيب تلقائياً للعناصر الخارجية والداخلية بطريقة غير مفهومة وغير قابلة للقياس العقلي، فما لم يكن هناك تصور واضح لتلك المقومات التي صنعت هذه الغربة فقد تتضاعف الأسباب والمسببات التي تحدث الاغتراب.الإنسان يمكن أن يغترب عن ذاته لظروف محيطة به تؤثر في تشكيل عَلاقته بالواقع الذي يتفاعل معه، ويتمثل اغتراب الفرد بعزلةٍ وتباطؤ شديدين في عَلاقاته مع معطيات الحياة قد تصل أحياناً إلى العزلة الفعلية لذلك الفرد عن الواقع.في كثيرٍ من ممارسات الغربة التي قد يُصاب بها الفرد تعكسُ واقعاً غير حقيقي، فالكثير من الأفراد يبدو متفاعلاً مع المجتمع ظاهرياً، ولكنه داخلياً يشعر بغربةٍ حقيقية تجعله عرضة للانهيار والانحراف والاستعداد للإصابة بمتغيرات نفسية وصحية.الثقافة يمكن أن تغترب عن ذاتها المتمثلة في المجتمع وتقع بذلك تحت تأثير المجتمع (الكيان) وتغترب الثقافة عن مجتمعها عندما تمنح الآخرين حرية الانتقاء والتصنيف من مكوناتها وعندما يمارس الأفراد تدجين الثقافة بمقومات غير طبيعية في تكوينها. الثقافة يمكن أن تنهار وتغترب عن المجتمع لمجرد ضخ قيم وممارسات غير قابلة للتكيف وغير قابلة للحوار والنقاش والنقد. والسبب أنّ الثقافة المتطرفة لا يمكن أن تعيش لفترات طويلة وبحسب كمية التطرف ومنهجيته يتحدد عمر ثقافة ما وعلى الجانب الآخر فكلما كانت الثقافة قابلة للتكيف والذهاب إلى منطقة الوسط في تحديد معاييرها وقيمها كانت أطول عمراً في البقاء وثباتاً في تراثها وتاريخها.الثقافة بشكلها وتكوينها أقوى بكثيرٍ من المجتمع، كما أنّ ذات الفرد أكثر أثراً عليها من غيره، ولكن يظل المجتمع هو الذي يمنح الآخرين حرية التشكيل في ثقافته الحية، ويظل المجتمع مسؤولاً عن كل ما يحدث لثقافته من اختطاف وتغيير بغض النظر عن كيفية المسؤولية ومستوى توزيعها بين أطراف المجتمع.إنّ ما يعانيه مجتمعنا وغيره من المجتمعات من ضعف الثقافة في التعبير عن نفسها بشكل طبيعي وانحسار المجتمع خلفها جاء نتيجة طبيعية للتكوين الذي ظهرت به الثقافة خلال العقود الماضية والذي اختزل مقومات الثقافة الحقيقية المتوازنة وحولها إلى مقومات غابت عنها عوامل التكيف وفرضت مدلولات الأمر والنهي أكثر من مدلولات الاختيار من الثقافة وما يناسب منها للفرد والمجتمع.لقد تمّ وبفعل اختزال مقومات الثقافة بناء ثقافة تفتقد إلى مقومات التعبير الحُر عن نفسها ، بل أصبحت الثقافة تبحث عن مرجعها في أروقة المجتمع والمفترض أن يبحث المجتمع عن مرجعيته في دهاليز الثقافة.إنّ اغتراب الثقافة هو رمز لاحتلالها من قبل الأفكار أو الأفراد الذين يسيطرون على ذلك المجتمع، ولذلك فإنّ كل محاولة لتخليصها من ذلك يتطلب إعادة الثقة إليها بنفسها ومنح أفراد المجتمع مساحة واسعة للحديث عن ثقافتهم ومجتمعهم بشكل إيجابي.لقد فرضت العقود الماضية احتراماً بلا حدود للأفراد والأفكار وأصبحت الثقافة التي لا تعرف الحدود الضيقة تعيش في ذات الحدود حتى أنّها لم تعد قادرة على توجيه ذاتها ونتج عن ذلك ازدواجية المعايير وأصبحت الثقافة التي تؤدي دوراً في تحديد شخصية الفرد وسلوكه نوعاً من الطقوس التي تحترم من أجل المواقف الاجتماعية ومعايير مستجدة وليس من أجل الفرد. بمعنى آخر لم تعد الثقافة مصدر إشعاع للمجتمع فكل احتمالات التغيير والتطور لا تجري بموافقة الثقافة، ولكن أصبحت الأوامر والنواهي الصادرة من فئات أو مجموعات على شكل تعاليم ملزمة هي التي تحدد ماذا يُراد لتلك الثقافة ومجتمعها.إنّ من النتائج المؤلمة لاغتراب الثقافة عن مجتمعها أن يقوم المجتمع بتصديق الحالة الزائفة التي يعيشها، ومن ثمّ يصدق أنّ هذا النموذج الذي يحياه هو النموذج المثالي ولذلك يصعب إخراجه أو تغيير مفاهيمه.إنّ الثقافة المعتدلة هي الثقافة التي تستوعب المجتمع بجميع فئاته وأشكاله المحتملة، وأن يكون الإطار الاجتماعي الثقافي هو المرجعية لتحقيق التوازن الاجتماعي، أما سوى ذلك فسوف تغترب الثقافة (الكل) عن المجتمع (الكيان) وسوف ينتمي إلى هذه الثقافة أفراد تنتزع منهم معايير ثقافتهم فتخرج تصرفاتهم لا تمت إلى المجتمع بصلة حضارية أو ثقافية. ويمكننا رصد بعض أهم الأسباب التي تؤدي إلى اغتراب الثقافة عن مجتمعها :- السماح لانتشار الأفكار التي تقوم على مبدأ التبعية العمياء.- الاعتقاد بملكية مطلقة للحقائق والأفكار وأنها ملك لفئة من المجتمع وليس للجميع.- إسهام المجتمع وأبنيته السياسية أو الاقتصادية بعدم معارضة الثقافة التي تتعرض لاختراق فكري.- اعتماد التاريخ كمصدر لتحقيق التكامل الثقافي والاجتماعي مع عدم مراعاة الفوارق الزمنية في تشكيل العصور.- السماح للثقافة المغتربة ببناء سلطة اجتماعية غير مبررة بل ليست شرعية.- إلغاء فكرة الحوار والتقارب مع الثقافات الأخرى أفراداً وأفكاراً بحجة فكرية غير دقيقة والتفرد بالحق.[c1]المراجع :[/c]8 ـ 9 ـ العودة : سلمان بن فهد 1426هـ : الغرباء الأولون، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى الإصدار الثاني. ص 46.10 ـ غدنز، أنتوني، 2005 : علم الاجتماع (ترجمة فايز الصياغ)، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية (ص 67).11 ـ 12 ـ حماد، حسن محمد حسن 1995م، الاغتراب عند إيرك فروم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع . الطبعة الأولى (ص 71 ـ 127).13 ـ 14 ـ حماد، حسن محمد حسن 1995م، الاغتراب عند إيرك فروم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع . الطبعة الأولى ص 91 ـ 127.[c1]* كاتب سعودي[/c]