شاهد فيلماً مصرياً ينتقد الفساد المالي والإداري أو اقرأ مقالاً، أو إن شئت زر مصر وتحدث مع المثقفين أو حتى الناس العاديين جداً (سائق التاكسي) - مثلاً- لترى أن تلك البلاد كغيرها من دول العالم بشكل عام ،والنامي بشكل خاص ،لا تخلو من اختلالات مالية وإدارية انعكست على حياة الناس ومعيشتهم؛ ولذا تراهم يسخطون على الحكومات وبشتى صور السخط، وينتقدون الفساد ويعرونه بشكل يجعلك تقف متعجباً وحائراً أمام تلك الديمقراطية التي ينعم بها الناس وكأنها الشئ الوحيد المتاح لهم، لأن سياسات تلك الدول قد أشغلها النظام العالمي الجديد بالديمقراطية وطرق بسطها للناس عن الاهتمام بالجوانب الاقتصادية والتنموية، أو لربما وجد المهضومون أن حرية التعبير هي الشيء الوحيد الذي يقدر كل واحد منهم أن ينعم به من دون عناء بعد أن فقد بعضهم مقومات العيش البسيطة، أو لربما أنها الشيء الوحيد الذي يمارسه العامة وطبقات الفقراء متميزين في ذلك عن الطبقات (المريّشة) التي (انتفخت) في ظل الوضع المالي والإداري القائم في تلك الدول النامية.فالناس في هذه البلاد يتحدثون بما يشاءون، مما آثار لدي الاستغراب، بيد أن استغرابي تضاعف عندما وجدت هؤلاء الناس صغيرهم وكبيرهم غنيهم وفقيرهم - في المقابل- يقدسون (مصر) ويحبونها حباً جماً، فقد أردكوا أن الفساد مهما تعاظمت شوكته وقوي عوده فإن مصر ليست السبب فيه ولا يمكن تحميلها المسئولية عن ذلك لأنها ليست الجلاد الذي صنع الفساد، ولذا جرى العرف السلوكي لدى كافة الناس أن من حقك أن تنتقد وتعري وتفضح وتسب وتنهش و(تستنكر) و و و ... ولكن بعيداً عن الأم العظيمة (مصر).. فحذار أن تخدش مصر بكلمة أو بحرف؛ فالجميع لن يقبل منك ذلك حتى لو كنت قِديساً أو إماماً أو نبياً مرسلاً أو ملكاً منزّلاً.. لم أجد قوماً يعشقون ويحبون ويهيمون ومتيمون ببلادهم مثل المصريين.غدوت ذات يوم من مسكني في (الدقي) قاصداً إحدى المكتبات، وكان الجو في ذلك الصباح ملوثاً إلى حد كبير بعوادم السيارات وغيرها من الملوثات، فقلت لسائق التاكسي: ما هذا التلوث البيئي الخطير في مصر؟ ورغم أن ذلك السائق لم يكن مثقفاً ولا عالماً لكنه كان مواطناً مصرياً يحب وطنه مهما حل به من بلاء- فقد أجابني عندما حس أن كلامي يمس مصر البلاد وليس النظام الإداري أو السلوك الشعبي الذي سبب التلوث فقال مبرراً تلك الحالة الجوية الغائمة: إن هذا بخار ماء (شبورة) وليس تلوث، ثم يبدو أنه راجع حساباته فقال مستدركا: صحيح أن القاهرة تعد في المرتبة الثانية عالمياً في التلوث البيئي، لكن ما تراه ليس تلوثاً، ثم قال منتقداً تلك المرتبة التي وصلت إليها القاهرة في التلوث: يبدو أن مسؤولينا مصممون على أن يجعلوا القاهرة في المرتبة الأولى. فقلت له ما حملك على أن تقول ذلك؟ فقام يحدثني عن جمال مصر وروعتها بنيلها وأهراماتها وطبيعتها الخلابة، فصورها لي وكأنها بحق وحقيق (أم الدنيا) أو جنة الله في الأرض، ثم أردف قائلاً إن مسئولية الحفاظ على هذه البلاد بهية وجميلة هي مسئولية الناس كلهم، وفي مقدمتهم الحكومة.ورغم سفراتي المحدودات إلى مصر وإقامتي في القاهرة لبعض الوقت إلا أنني لم أجد شخصا يستنقص من قيمة شخص آخر لأنه من منطقة كذا أو من محافظة كذا، فلم أجد تلك النظرة المناطقية، والسبب فيما يبدو لي أن المناطقية وتعيير الشخص بمنطقته إنما هو مساس بالمنطقة والتي هي جزء لا يتجزأ من العظيمة (مصر) التي تغلغل حبها في الأرواح قبل القلوب.كنت ذات يوم اشتري بعض السندوتشات، واستدعى ذلك أن أنتظر قليلاً بينما يتم تجهيزها، وكان بجانبي طفلان يبدوا أن أحدهما انتقل إلى الصف الرابع الإبتدائي فيما انتقل الآخر إلى الصف الدراسي الثالث، وفي هذا الموقف سمعت حواراً رائعاً ترك بصمة في قلبي، إذ كان الصغيران يتحدثان عن دراستهما فقال الأكبر للأصغر وهو يزهو متفاخراً كونه وصل إلى الصف الرابع وكأنه يستعرض ثقافته الوطنية التي غَرَست فيه منذ المهد حب مصر: هل تعرف الأناشيد التي ستأخذونها في الصف الرابع؟ ولكن الطفل الأصغر ظل صامتاً ينتظر بشوق الجواب من السائل، فإذا بالسائل يجيب: ستأخذون أنشودة كذا وأنشودة كذا، ومضى يعدد بعض الأناشيد التي تربي في النشء روح المواطنة وحب مصر أكثر من حب الحياة، عندها كادت العبرة أن تخنقني وأدركت بحق أن عظمة مصر تأتي من عظمة النظرة التي ينظر بها المصريون لبلدهم والتي تربوا عليها وتشربوها صغاراً، وتأكد لدي أن غرس قيم المواطنة الصالحة وحب الوطن إنما هو مسئولية تربوية يتكامل في القيام بها البيت والمدرسة والمجتمع.. وهو ما نجح فيه المصريون أيما نجاح حتى ترسخ حب الوطن في القلوب والعقول، وصارت مصر لدى الكافة أهم من النفس والمال والولد، فتغنى بها الصغار قبل الكبار، وما أجمل أن يتغنى أحباب الله بوطنهم.. فأين نحن اليمنيين من ذلك؟ ولماذا ينقم جيل الوحدة على الوحدة المباركة التي تعد بمثابة النجم الساطع في ليل التفرق والتشتت العربي؟ ومن السبب في ذلك؟ ومن المسؤول عن انتشار موجة الحقد والكراهية، وارتفاع نغمة المناطقية والانفصال في يمن الحكمة الإيمان؟ إنها مسئؤلية قانونية ( تقصيرية) قبل أن تكون جريمة (جنائية).. نعم مسؤولية تقصيرية يامن تفهمون ما هي المسئؤلية.. وسيحاككم التاريخ إن لم تصلحوا ما أفسدتم!!، فإن كنتم غير قادرين على ذلك فاتركوا الساحة لغيركم من الوطنيين الذين يحبون اليمن الموحد أعظم من الروح والولد.إننا افتقدنا الشيء الذي يتمتع به المصريون منذ زمن بعيد؟؟ فمن المسؤول عن ذلك؟ وهل من وقفة جادة تعيد لنا الأمل في أن نكون مثل إخواننا المصريين الذي يفرضون عليك - إن زرت بلدهم - أن تحب مصر من أعماقك لأنها عظيمة في عيون أبنائها فكانت كذلك واقعاً؟فمتى سيكون الولاء للوطن الكبير لا للقبيلة أو المنطقة أو الحزب أو المذهب؟؟ ومتى سنحب اليمن الموحد بقدر كرهنا للظلم والفساد؟ إنها أسئلة تنتظر جواباً عملياً من أبناء اليمن جميعاً ومن الحكومة والمؤسسات التربوية على وجه الخصوص، فلن نكون إذا لم تكن اليمن ووحدتها أول اهتماماتنا ومستودع حبنا..
عظيمة يا مصر.. وتحية لكل أبنائك المخلصين
أخبار متعلقة