يقيناً ان سؤال الوحدة اليمنية هو سؤال معاصر بكل المقاييس إذ إرتبط بإشكاليات الهوية الوطنية في العصر الحديث ، بما هو عصر الرأسمالية والثورة الصناعية والكشوفات الجغرافية ونشوء الدول القومية وظهور الإستعمار كأداة للسيطرة على الأسواق وطرق الملاحة الدولية ، وماترتب على ذلك من صراع على النفوذ والمصالح القومية بين الدول الإستعمارية من جهة، وصراع بين هذه الدول وحركات التحرر الوطني من جهة أخرى.بمعنى أن الهوية الوطنية لم تكن محركاً لأحداث التاريخ الإسلامي وصراعاته الداخلية في عصور اقتصاد الخراج ، حيث كانت الهوية الإسلامية تجمع المسلمين في دولة الخلافة ، فيما كان الصراع على السلطة والثروة هو المحرك الرئيسي للصراع على الأراضي والحروب الداخلية بين الإقطاعيين وملاًك الأراضي ، والتي أسفرت عن نشوء دول ملوك الطوائف وسلاطين العشائر والقبائل على أطراف دولة الخلافة الإسلامية من المغرب العربي غرباً ، الى مصروالشام شمالاً، ومن اليمن جنوباً الى بلاد فارس وماوراء النهرين شرقاً.كانت تلك الدول والممالك والسلطنات والمشيخات تؤسس شرعيتها على معادلة الدين والآيديولوجيا ، فهي من ناحية تتقاسم الهوية الإسلامية والإيمان بالدين الإسلامي مع مركز دولة الخلافة وبقية دول ملوك الطوائف والعشائر ، فيما تستخدم من ناحية أخرى ايديولوجيا دينية مذهبية لإضفاء الشرعية والتميز على استقلالها ! تأسيساً على ذلك ، يمكن القول إن بروز ظاهرة الآيديولوجيا في سؤال الوحدة اليمنية المعاصر يرجع إلى وجود دولتين مستقلتين تقاسمتا الهوية اليمنية منذ أواخر الستينا ت غداة استقلال الشطر الجنوبي من الوطن في الثلاثين من نوفمبر 1967م، حتى 22 مايو 1990م . وقد ارتبط ظهور تلك الدولتين بدخول اليمن مرحلة خطيرة من الاستقطابات الداخلية والخارجية ، والصراعات السياسية والحروب الأهلية والمواجهات المسلحة الشطرية التي ألحقت ضرراً بليغاً بالمصالح العليا لشعبنا اليمني، وأفسحت المجال لقيام كل من الدولتين بتقنين عدد من الإجراءات والضوابط والقيود التي تمس الحريات العامة والحقوق المدنية للمواطنين وتصادر حرية تنقل الأفراد و المنتجات الوطنية والمطبوعات والصحف والمجلات والكتب اليمنية بين الشطرين ، فيما جرى بصورة متبادلة إحاطة هذه الأوضاع الشاذة بمناخ متوتر اتسم بالنزوع نحو إضفاء الطابع الأيديولوجي الصرف على التمايزات بين الشطرين. في هذا السياق ظهرت تصورات دوغمائية وغير واقعية لتحقيق الوحدة من مواقع التفكير القديم ، واشتركت هذه التصورات والمفاهيم في إنتاج ثقافة سياسية مشوهة زعمت بوجود نظامين اجتماعيين متمايزين ومتوازيين لا يمكن أن يلتقيا إلا بتكريس أحدهما ، ونشرت الأوهام حول ضرورة العمل من أجل إنضاج الشروط التي تمكن كل نظام من نفي الآخر وإلغائه . لم يكن هذا التفكير الذي عمل على تعريف الوحدة بواسطة نفيها وتكريس التشطبر قبل قيام الجمهورية اليمنية حكراً على شطر واحد دون الآخر. بل أنه كان سمة مشتركة للتفكير السياسي القديم في كل من الشطرين إزاء قضية وحدة الوطن .. ولدى تصميم كل من الكيانين – الدولتين – لمخطط الأدوات والطرائق التنظيمية والسياسية والاقتصادية اللازمة لبلوغ هذا الهدف بشكل منفرد، لم يسلما معاً من مثالب نزعات الاحتكار والإلغاء والانفراد والتجريبية وتعسف الحقائق ، وما رافقها من تناقضات ومواجهات دورية طالت الأمن والاستقرار في الشطرين معاً ، وفي كل منهما على حد ة أيضاً .. فقد عانى الشطر الجنوبي من الصراعات الداخلية على السلطة حتى منتصف الثمانينات ، فيما عانى الشطر الشمالي من صراعات مماثلة حتى مطلع الثمانينات . وبين هذا وذاك .. تدفقت المفاهيم النظرية والتصورات السياسية والآيديولوجية المتناظرة والمتناقضة ، لتؤسس وعياً مشوهاً يفتقر إلى شروط المعرفة المعاصرة لواقع التجزئة في الظروف الوطنية والعالمية الجديدة والمتغيرة ، ويتجاهل تحت ضغط سلطة التجزئة والصراع الداخلي على السلطة ضرورة إغناء وتطوير شروط المعرفة لوعي الوحدة اليمنية الذي صاغه الخطاب السياسي الوحدوي للحركة الوطنية اليمنية المعاصرة ، وكان له دور هام في تشكيل الوعي الوطني المعاصر للشعب اليمني سواءً في مرحلة استيقاظه الأولى، أو في مرحلة نهوضه وتبلوره بعد قيام ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر . كان تعاطي هذه الأنماط من المفاهيم النظرية والتصورات السياسية و الآيديولوجية يتم في ظل نقص حاد لأدوات التحليل المعرفي ، الأمر الذي جعل التأثير السلبي لهذا التعاطي غير محصور في حدود تسطيح الوعي النظري ، بل امتد ليشمل تراكماً طويلاً من العمليات السلبية على مستوى الوعي ، تمخضت عنها ولادة مشوهة لفكر سياسي ينطوي على أزمة عقل وأزمة ثقافة في آن واحد عند الإجابة عن سؤال الوحدة اليمنية. ولعل هذه الأزمة تندرج ضمن إشكاليات أساليب التلقين الذي عانى منه طويلاً وعينا الأيديولوجي من جراء تعطيل أو تسطيح دور العقل كأداة للتفكير. إن قولنا بوجود أزمة عقل .. وأزمة ثقافة في الحياة الفكرية والسياسية التي شهدت تعاطي تلك المفاهيم والتصورات والشعارات ، ينطلق من الفرضية التي تقول بأن للفكر جانبين .. أولهما أن الفكر محتوى ، وثانيهما أنه أيضاً أداة .. بمعنى انه عقل يقوم بإنتاج المفاهيم والتصورات ومختلف أشكال التفكير والوعي . أما المعادل الموضوعي الذي يربط بين جانبي الفكر، فهو البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية التي ينتمي اليها ..لأن عملية التفكير تتم داخل ثقافة سياسية معينة وبواسطتها .. أي التفكير بواسطة مرجع معرفي من أبرز محدداته موقف الإنسان في المجتمع ونظرته إلى العالم والمستقبل!! قطعاً كان هناك ما يشبه الفراغ الثقافي الذي كرسته عوامل عديدة من بينها ضعف مستوى تطور الثقافة الوطنية والإنتاج الثقافي اليمني، بالإضافة إلى ما كانت تعانيه الثقافة العربية عموماً في السبعينات من تشوهات واختلالات ، ولعل هذا الوضع كان سبباً في أن يكون التفكير مغترباً عن تربته الثقافية وإشكالياتها ، ومفتقراً إلى مرجعيته المعرفية التي لا يمكن أن تتوافر إلا على خلفية من الثقافة الرفيعة .. وكانت النتيجة الموضوعية لذلك هي اغتراب محتوى التفكير عن الحياة الواقعية الملموسة ، وانحصاره في دائرة التأملات والأحلام والأوهام الآيديولوجية المجردة . وفي تقديري إن تزامن ظهور الدولتين اليمنيتين الشطريتين السابقتين مع دخول سؤال الوحدة اليمنية دائرة (( أوهام الآيديولوجيا )) لم يسهم فقط في محاصرة هذا السؤال وتكبيله بقيود الإيديولوجيا ، بل أن هذا التزامن أدى إلى إفراغ سؤال الوحدة من أي مضمون تاريخي معاصر، على الرغم مما قد يتصوره المرء ظاهرياً .. لأن سؤال الوحدة دخل على يد الآيديولوجيا مأزقه المحتوم في كل من الدولتين الشطريتين قبل قيام الجمهورية اليمنية يوم 22 مايو 1990 م ، حيث ساد الاعتقاد بأن الحقيقة يحتكرها كل منهما منفرداً ، وينفيها كل من منهما عن الآخر منفرداً أيضاً ! هكذا تولّى الخطاب السياسي والآيديولوجي القديم في أواخر الستينات وخلال السبعينات والثمانيات وظيفة تبرير وجود (( نظامين اجتماعيين متمايزين ، ذوي اتجاهين مختلفين في التطور )) ، أو تبرير وجود نظام يجد هويته في الدين مقابل نظام مارق تخلى عن الهوية الدينية وخرج عن الملة ، بحسب ذلك الخطاب . وهكذا أيضاً كانت التجزئة تقوم بتعريف الوحدة وتعريف شروط قيامها.. كما أصبحت التجزئة أيضاً هي التي تقوم بتوظيف المفهوم الآيديولوجي للوحدة بهدف خلق نقيضه، أي تبرير وتكريس الدولة الشطرية .. بيد أن ذلك الخطاب لم يكن قادراً على إعادة تعريف الثقافة الوطنية التي شكلت رافعاً قوياً للخطاب السياسي الوطني الشعبي الوحدوي في مواجهة هيمنة الآيديولوجيا على سؤال الوحدة.[c1]* عن/صحيفة (26سبتمبر)[/c]
|
فكر
سؤال الوحدة في أزمنة متغيرة
أخبار متعلقة