أضواء
في القاهرة تبدو الظواهر اللافتة للنظر أكثر، وإيقاع الضجيج السياسي والثقافي أعلى من أي مكان آخر في العالم العربي، ومن يركز قليلا يظفر بجملة وافرة من الملاحظات، لا عجب فمصر ولادة. بعيدا عن معارك المعارضة، بكل الوانها، مع الحكومة، وهي معارك تجد طريقها إلى الصحف الكثيرة صباح كل يوم، يلفت النظر بروز أصوات مصرية خارج الأصوات المعتادة، بقضاياهم المعتادة عن: الدور المصري الإقليمي، والعدو الإسرائيلي، ومستقبل المنطقة... وبقية «الكلام الكبير ده».أصوات يغلب عليها طابع الشبابية من خلال طريقة التعبير عن الهموم، وأسلوب السرد السريع، باعتماد لغة تعبير تقع بين منزلتي الفصحى الرسمية والعامية الخفيفة الوزن، لغة تتقمص المحكية ولكن بمضامين ذكية وعميقة في كثير من الأحيان، ويكمل ذلك منابر النشر التي يقصدها هؤلاء الشبان والشابات، وهي مدونات الانترنت «البلوغز»، وطور بعضهم مواقع غنية حافلة بالمحتوى الرشيق والمتجدد، من خلال إضافة مقاطع صوتية وفيديو، واعتماد جملة من مديري المحتوى الصحافي، بل وسعت بعض دور النشر المرموقة في مصر، مثل دار الشروق، إلى تحويل بعض هذه النصوص على المدونات إلى كتب تحقق أفضل المبيعات، كما جرى مع كتاب فتاة مصرية تعمل في الصيدلة خارج مدينة القاهرة، قررت أن تعالج مشكلة الزواج وتعقد سبله المرضي عنها لدى الفتاة المصرية، وعلى الطريقة المصرية الظريفة، سمت الفتاة وهي، غادة عبد العال، مدونتها باسم : «عايزه اتجوز» ثم والت النشر، وأخيرا خرج الكتاب بهذا الاسم الساخر، وطبع في ظرف سنة واحدة أربع طبعات. حديثنا ليس عن مدونات الشباب المصري، بل عن هذه الصور واللوحات التي تحفل بها القاهرة، وهي مؤشر حساس ينبئ عما يجري بعيدا عن الأنظار الكليلة أو الرسمية. في بعض هذه المدونات خرج شاب ذكي ويتمتع، كأغلب المصريين، بروح السخرية والدعابة، بمادة صوتية سجل فيها ملاحظة غاية في الذكاء، وهي أن كثيرا من المصريين يحاول الالتصاق بأي ذريعة أو نص ديني يروج فيه لخدماته أو لسلعته، بداية من المرشح النيابي الذي يحشو اليافطات الدعائية في حملته الانتخابية بالآيات القرآنية أو الأحاديث أو المأثورات التراثية، مناسبة للمقام، أو غير مناسبة، وصولا إلى بائعي البطاطا وعربات الكنافة في الشوارع، ليدخل الجميع في جو هذا التنافس على وضع النصوص الدينية التي تجلب اهتمام الزبائن، وتضفي مسحة من القداسة والعصمة السماوية على البضاعة، حتى أن صاحب محل الحلاقة لم يتأخر بدوره عن الدخول في هذه المعمعة، وتفتق الإبداع عنده عن شيء لم يسبق إليه، حيث كتب على لوحة محله الصغير هذه الآية القرآنية : «نحن نقص عليك أحسن القصص» واضعا صورة المقص بجوار النص المقدس، رغم انه لا علاقة البتة بين القصص القرآنية، بمعنى الأخبار والحكايات، ومعنى القصص التي ذهب إليها ذهن الحلاق! وآخر صاحب محل بقالة أراد أن يؤكد عدم قبوله لتسليف الزبائن والبيع بالدين، ورغم انه كتب على اللوحة: «السلف ممنوع والرجاء عدم الإحراج» إلا أنه لم يكتف بذلك بل اتبع هذا التحذير بوضع الآية القرآنية: «ادفع بالتي هي أحسن». والثالث كان هو الأكثر واقعية، وهو صاحب محل كشري رديء وفاقد لكل مواصفات الإغراء من ناحية النظافة وحسن العرض، بدليل طنين الذباب المزعج فوق أكوام الكشري، إلا أنه لم يعدم الحيلة فكتب فوق اللوح الزجاجي الملوث: «أقبل ولا تخف إنك من الآمنين»... وهكذا . هذا كله يدل على أن الإحساس الديني لدى المصري، شأنه شأن كثير من المجتمعات العربية، عال وعميق، وهو ما يجده البعض جسرا مباشرا إلى جيوب ونفوس الناس، هذا الشعور الديني العميق الذي هو مميز لإنسان هذه المنطقة، إن تم تحصينه من التوظيف والاستغلال يصبح في كثير من الأحيان نقطة ضعف وابتزازا عاطفيا واقتصاديا.. وسياسيا أيضا. لو أردنا الابتعاد قليلا عن أساليب «الغلابا» من الحلاقين والبقالين وباعة الكشري، في توظيف العامل الديني من أجل المصلحة، سنجد نفس هذه الأساليب ولكن بطرق أمهر وأكثر ضررا في مجالات أخرى، مجالات تتصل بتدبير شؤون الحيز العام لحياة الناس، وكلنا يعرف كيف طارت مدخرات كثير من المساهمين في شركات توظيف أموال وهمية، كل ما باعته على الجمهور شعارات دينية عن التوظيف الحلال والإدارة النقية للأموال، مع شيء من الغموض الايجابي، لتنهال نقود المساهمين عليهم، مدفوعين بحلم الثراء «الحلال»، بدون أن يكلف الحالمون أنفسهم حتى بالبحث والسؤال ليعرفوا إن كان هذا الحلال الذي يتحدثون عنه قد يصبح اكبر حرام إذا كان فيه إضاعة للمال وضرب للاقتصاد، ومتاجرة بالشعارات الدينية، بل ولم يكلفوا أنفسهم بسؤال فقهاء آخرين أو خبراء ممن كانوا متحمسين في الدفاع عن هذا النوع من الاقتصاد المؤسلم، الذي ثبت لهم بعد حين انه لا يختلف كثيرا عن آليات الاقتصاد التقليدي إلا بإضافة بعض المحسنات اللفظية، وبعض الالتفافات في مسميات العمليات، ولكن الأمر كله محاط بهالة من العصمة والإرهاب النفسي لكل من يتجرأ بالنقد أو المساءلة بحجة أنه يعادي المقدس الاقتصادي. وقل نفس الأمر عما يسمى بـ «الإعلام الإسلامي» الذي انفجر مؤخرا، وهو في الحقيقة ليس إلا ترويجا لبرامج حزبية وتثقيفا موجها للجماهير يجهزها للاصطفاف خلف توجهات الأحزاب أو التيارات التي تصف نفسها بالإسلامية وتريد سوق المجتمع كله، حسب وصفتها المقدسة للحياة المثالية، وأنت لو دققت النظر أكثر لوجدت أن الدافع الخفي لقياصرة هذا النوع من الإعلام «النظيف» ـ على غرار «المال النظيف» لصاحب الحزب الإلهي! ـ هو عدم خروج المجتمعات عن قبضة هؤلاء الموجهين الحركيين، ففي نهاية الأمر من يريد التخلي عن متعة التفرج على الجماهير وهي تمضي خلفه، ومن يتسامح مع من يريد إسماع هذه الجماهير أصواتا أخرى، وقديما قال الشاعر العربي مفاخرا : ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا ! المثير أن كثيرا من هذه القنوات او الوسائل، التي تصف نفسها بالإسلامية وتهجو كل من عداها واصمة إياهم بصفات القبح من انحلال وميوعة وإغراق في الترفيه، ها هي تستعير صيغ هذه القنوات وأساليبها لكن بدمغة إسلامية، على طريقة الحلاق القاهري أو صاحب الكشري، وصرنا نرى الـ «فيديو كليب الإسلامي» و«الراب الإسلامي» و«الكرتون الإسلامي المدبلج». أما في السياسة، يا سيدي، فيبدو الحال أعظم من هذا، وأدهى وأمر. الأمر كله، في كل المجالات، ليس إلا لعبة متعددة الأطراف.. الجمهور يركض خلف بائع الشعارات المقدسة، والبائع حتى لو لم يرد، يجاري هذا الجمهور بوضع المزيد من الشعارات والأصباغ المقدسة، وحجته أنه لا يقدر على تغيير طباع وأمزجة الناس «فهذه هي مجتمعاتنا، فهل نجلب أناسا من المريخ ؟» هكذا يقول الباعة... كل الباعة، و«بين حانا ومانا ضاعت لحانا». لا مهرب من هذه اللعبة إلا بكسر هذه الحلقة المفرغة، وأن يميز الجميع بين دائرة المقدس الضيقة، ودائرة المدنس الضيقة أيضا، وتبقى الحركة في الدائرة الأوسع، دائرة التجريب والاكتشاف، التي تقوم على نزع أي افتراض مسبق بالتقديس أو التدنيس.. الغريب أن هذه الدائرة هي الأصغر حتى لا تكاد ترى بالعين المجردة ! [c1]* صحيفة ( الشرق الأوسط) اللندنية[/c]