صورة لعدن القديمة
محمد زكريافي مسجد الحسين الأهدل القابع في عدن القديمة ( كريتر ) الضاربة جذورها في أعماق تاريخ اليمن الإسلامي البالغ من العمر أكثر من خمسمائة عام ، يرقد الفقيه الصوفي بدر الدين الحسين بن الصديق بن الأهدل . وعلى الرغم من شهرته العريضة في عدن بصورة خاصة واليمن بصورة عامة مازال تاريخه يشوبه الكثير من الغموض وكل الذي نعرفه ويعرفه الآخرون أنه من أولياء الله الصالحين ولكننا لا نعلم على وجه الدقة دوره في الفكر الصوفي اليمني ؟ وإذا كان له دور واضح في هذا المجال الفكري ، فإنه من الضرورة بمكان أنّ يكون له مصنفات توضح آراءه وأفكاره لمريديه، وأتباعه ، وكما يقولون إنّ الكتاب وعاء الفكر ؟ . وربما كانت لديه بعض المصنفات أو الأوراق الذي كتبها عن أسلوب تفكيره في التصوف ، ونظرته للحياة والناس ولكن من المرجح أن نيران النسيان ، قد التهمتها لأننا لم نعثر على شيء له قيمة يهدينا و يقودنا إلى كتبه أو كتيباته الصغيرة أو أوراقه القليلة . ونحاول هنا قدر الإمكان أن نقرب الصورة التي كانت عليها الأجواء الثقافية التي كانت سائدة في عصره وعصر بعض كبار شيوخ الصوفية الكبار اليمن. [c1]الحسين بن الصديق بن الأهدل[/c]يقول صاحب كتاب تاريخ النور السافر عن خيار القرن العاشر في ترجمة الشيخ الحسين الأهدل: " في سنة 903هـ ( 1498م ) توفي الشريف الفقيه الصوفي الأديب الحافظ المُحدث البارع في أشتات العلوم بدر الدين الحسين بن الصديق بن الحسين بن عبد الرحمن الأهدل ودفن ببندر عدن . وكان مولده في ربيع الثاني سنة 805هـ ( 1403م ) في أبيات حسين ـــ قرية من قرى وادي تهامة ـــ ونشأ بها وبنواحيها ، واشتغل بها بالفقه على الفقيهين أبي بكر بن قيعص ، وأبي القسم بن عمر بن مطير ، ثم انتقل إلى المراوعة واشتغل بها على الفقيه أبي بكر بن أبي القسم، ثم دخل زبيد 868هـ ( 1464م ) ، فاشتغل في الفقه على عمر الفتى وغيره وفي الأدب على ابن الزين الشرجبي ، وحج سنة 872هـ ( 1468م ) " . وتصمت المراجع التاريخية عن ذكر والد الحسين هل كان عالماً كبيراً أو فقهياً نابغاً ولكن يبدو أنّ والده كان يحب ويحترم العلم ولذلك ترك ابنه يخوض ساحة العلوم والمعرفة ليصير عالماً جليلاً ذو شأن في اليمن . [c1]عدن قبلة الصوفية[/c]ولقد ذكر صاحب النور السافر أنّ الحسين بن الأهدل من قرية أبيات حسين وهي من قرى وادي زبيد ـــ كما قلنا سابقاً ـــ , والمعروف أنّ تهامة ، كانت تموج موجاً بالصوفية والمتصوفة ، ولسنا نبالغ إذا قلنا أنّ الصوفية في تهامة ، كانت لها شأن عظيم والكثير من أقطاب شيوخ الصوفية كانوا من تهامة الذين ساحوا في العديد من مناطق اليمن ونشروا بها الكثير من القيم والمُثل الصوفية وعلى وجه التحديد في مدينة عدن التي كانت قبلة شيوخ الصوفية . وعندما كانت تشتد وطأة ظلم الحكام على شيوخ الصوفية ، كانوا يفرون إلى عدن ، مثلما حدث في عهد عبد النبي بن علي بن مهدي الذي نكل بكبار شيوخ الصوفية وأعمل السيف فيهم . وعلى أي حال كان هؤلاء كبار شيوخ الصوفية الفارين من ظلم الأمراء ، والسلاطين والملوك يجدون في أحضانها الملجأ والملاذ يلوذون بها من الفتن والقلاقل والاضطرابات التي كانت تحدث في مسقط رأسهم بين حين وآخر من جراء ظلم الحكام كما حدث في عهد عبد النبي بن مهدي ـــ كما أسلفنا ـــ والذي تم الإطاحة به وبدولته في عهد الملك توران شاه الأيوبي سنة 569 هـ / 1174م والذي أسس في اليمن الدولة الأيوبية ( 569 ـــ 627 هـ / 1173 ـــ 1229م) والذي امتد حكمها فيها مدة أكثر من خمسين عاماً . [c1]عدن مدينة منفتحة[/c] والحقيقة أنّ هناك عاملاً هاماً أخر جعل العديد من شيوخ الصوفية أمثال بدر الدين بن الحسين بن الصديق بن الأهدل يستقروا في عدن بسبب أنّ عدناً كانت مدينة مفتوحة منفتحة على ثقافات الآخرين ، فمثلما كانت تأتيها السلع والبضائع من كل مكان من بقاع العالم ، فكانت تأتيها التيارات الصوفية المختلفة والمتنوعة من تلك الأصقاع . فكانت السفن تحمل على متنها البضائع المتنوعة ، كانت أيضاً تحمل الأفكار والآراء الصوفية المتباينة مما أكسبت مدينة عدن تسامحاً كبيراً في حرية الفكر أي أنها لم تكن مدينة منغلقة أو معزولة عمّا يدور من حولها من مشارب فكرية مختلفة ومنها الفكر الصوفي والذي نحن بصدد الحديث عنه . [c1]الصوفية وإمارة بني زريع[/c] والجدير ذكره كانت عدن في تلك الفترة التاريخية كان يحكمها بني زريع ( 532 ـــ 569هـ / 1137 ـــ 1173م ) الذين أمتد حكمهم تقريباً 37عاماً كما الذي فر إليها الكثير من مشايخ الصوفية من زبيد ـــ والذي كان يحكمها ـــ كما قلنا سابقاً ــــ عبد النبي بن على بن مهدي ـــ.والجدير بالذكر أنّ بني زريع كانوا على المذهب الإسماعيلي الذي كان المذهب الرسمي للدولة الفاطمية في مصر ، فكانوا امتداداً لمذهبهم الإسماعيلي في عدن مثلما كانت الدولة الصليحية امتداداً لنفوذهم الروحي في اليمن بصورة عامة ، وكانوا على علاقة وطيدة مع خلفائها الفاطميين وخاصة بعد وفاة الملكة سيدة بنت أحمد الصليحي أخر أعظم ملوك الدولة الصليحية المتوفاة سنة ( 532 هـ / 1138م )ً . [c1]سياستهم مع الصوفية [/c]والمعروف أنّ المذهب الإسماعيلي كان في عداء صريح مع الصوفية وشيوخه . ولكن أمراء بني زريع أدركوا حقيقة الأمر أنهم نقطة في محيط أهل السُنة ولذلك عليهم أنّ يتماشوا مع هؤلاء السُنة الذي كان الكثير منهم يؤيد الطوائف الصوفية ولذلك لم يجد بني زريع أية غضاضة في وجودها في إمارة عدن . ومن المحتمل أيضاً أنّ أمراء بني زريع ، قد شجعوا الطرق الصوفية المختلفة والمتنوعة المشارب والاتجاهات في عدن ليكسبوا ود أهل عدن على تباين فئاتهم الاجتماعية لغرض تثبيت حكمهم في الإمارة . وهذا ما دفع بكبار شيوخ صوفية تهامة وتحديداً متصوفة زبيد إلى الفرار إلى عدن والنجاة بأرواحهم عندما وجدوا الطمأنينة والأمان في ظل بني زريع عندما اشتدت وطأة مطاردة ابن مهدي لهم بعد أنّ سجن ، وشرد ، وعذب ، وقتل الكثير منهم . ويقال أنّ عبد النبي ابن مهدي كان على مذهب الخوارج ولكن لا توجد لدينا دلائل وبراهين تثبت ذلك ، وربما كان ذلك من أقوال مناوئيه . ومن المحتمل أنّ ابن المهدي قد أوجس خيفة في نفسه من كبار شيوخ الصوفية من أجل الحفاظ على سلطانه وصولجانه ونفوذه السياسي في إمارته بزبيد فعمد على تصفية العديد من شيوخ الصوفية لأنهم كانوا قوة لا يستهان بهم بسبب الأتباع والمريدين الذين كانوا يلتفون حولهم ، ويقفون بجانبهم ، ويأتمرون بأمرهم . فقد ينشروا الاضطرابات والقلاقل في إمارته ، فعمل على كسر شوكتهم والقضاء على نفوذهم , وكانت تلك أيضاً رسالة واضحة لخصومه الآخرين بأنه على استعداد في استعمال القوة والعنف الشديدين ضد من يحاول أنّ يمس إمارته الجديدة بسوء والعمل على سحب بساط السلطة والحكم والصولجان من تحت قدميه .[c1]موسوعة علمية[/c]ونعود مرة أخرى إلى الحسين بن الصديق بن الأهدل ، فقد وصفه محيي الدين عبد القادر العيدروس بأنه كان من الأشراف الذين يعود نسبهم إلى الرسول ـــ صلى عليه وسلم ـــ من ناحية ونعته بالصوفي والفقيه والأديب كل تلك الصفات تعطينا فكرة واضحة عن شخصيته العلمية بأنه كان رجل علم ومعرفة وتلك الصفات من الضرورة تساعدنا على رسم صورته العملية بأنه كان من النوع الجاد الذي ليس له نصيب في الهزل ، وأنه كان يمتلك موهبة في الأدب ولكن لم يوضح لنا العيدروس هل كان بليغاً في النثر أو كان يقرض الشعر ولكن من المرجح أنّ العديد من شيوخ الصوفية الكبار كانت لديهم موهبة الشعر ، وكثيراً ما كانوا يوجهون حديثهم شعراً إلى ملوك عصرهم وذكر أيضا أنه كان أديباً وفقيهاً فهل كانت لديه مصنفات متنوعة سواء في الأدب بشقيه النثري والشعري أو في العلوم الدينية المختلفة ؟ . والجدير ذكره كان شيوخ الصوفية الأشمل الأغلب منهم كانوا موسوعة علمية ، فكانوا أدباء، وشعراء ، وعلماء ، وفقهاء. فكانوا في كل بحر من بحور العلوم والمعرفة يخوضون فيه . [c1]عدن والثقافة الصوفية[/c]ولقد دخل الحسين بن الصديق بن الأهدل ثغر عدن وهو في سن 63عاماً وعاش في عدن لمدة 35سنة أي أنه توفى في سن مرتفع عن عمر ناهز 98سنة أي قارب المئة عام . وفي تلك الفترة الذي قضاها في رحاب عدن ، بات من كبار أقطاب شيوخ الصوفية في عدن بصفة خاصة واليمن بصفة عامة ، وكان من الطبيعي أنّ يلتف حوله الكثير والكثير جداً من الأتباع والمريدين وهذا ما جعله مهيب بين الوجهاء ، والأمراء ، والحكام فيحسبون له ألف حساب . والحقيقة أنّ الصوفية صار الانتساب إليها تعطي لصاحبها الحماية ، والحصانة و القوة والنفوذ حينذاك أو بتعبير آخر أنّ الثقافة الصوفية سادت المجتمع اليمني وخاصة في تهامة ، وسواحلها ، وثغر عدن. وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور عبد الرحمن الشجاع : " فقد صار الانتساب إلى للتصوف جزءاً من شخصية الأمراء والوجهاء والعلماء "وكيفما كان الأمر , فقد فطبقت شهرة الصوفي الكبير الشيخ الحسين بن الصديق أبن الأهدل الآفاق في كل مكان من اليمن . والحقيقة أنّ المدة الطويلة الذي قضاها في عدن لم تذكر المراجع التاريخية الأحداث الجسام التي وقعت في أيامه ويبدو أنها كانت أيام خالية من الاضطرابات ، والقلاقل ، والفتن من جهة ومن جهة أخرى ولم يحدثنا التاريخ عن مناقبه ومآثره العلمية في تلك الفترة من حياته وعلى سبيل المثال هل كانت لديه مصنفات ، وشروح في الفقه أو في التصوف .[c1]الصوفية والدولة الطاهرية[/c]شهدت عدن في عصر الدولة الطاهريين أزهى عصورها وذلك بعد أنّ استقرت الأوضاع السياسية للطاهريين وخصوصاً في عهد السلطان الملك عامر بن عبد الوهاب أعظم ملوك الطاهريين المقتول سنة ( 923هـ / 1517م ) . وقد كان الملك عامر يهتم اهتماماً كبيراً بعدن بصورة عامة ومينائها بصورة خاصة . وكان في موسم الرياح الغربية الجنوبية التي تهب على المدينة يمكث قرابة ثلاثة أشهر ليشرف بنفسه على حركة ونشاط الميناء وعلى قوافل السفن المتجهة صوب الهند . وفي تلك الأوضاع المزدهرة التي عاشتها عدن ، دخلها الصوفي الشيخ الحسين بن الأهدل . ويبدو أنّ الاستقرار السياسي ، والحياة الاقتصادية المزدهرة في المدينة كانت من الأسباب الرئيسة التي جعلته يلقي بعصا الترحال فيها . فيذكر صاحب تاريخ النور السافر بأنّ الحسين بن الصديق بن الأهدل دخل عدن سنة 868هـ / 1464م أي بعد عشر سنوات من استيلاء بني طاهر على الحكم في اليمن , وتوفي بها سنة 903هـ / 1498م أي أنه شهد عهد الملك عامر بن عبد الوهاب والذي كان في تلك الفترة في أوج قوته السياسية حيث تمكن أنّ يوسع رقعة مملكته ، ويقضي على الكثير من مناوئيه ، ويثبت قوائم حكم دولته في كثير من مناطق اليمن ومن بينها صنعاء . وكما هو معروف أنّ بني طاهر ورثوا الحكم عن الدولة الرسولية والتي ظل حكمها على اليمن نحو أكثر من مائتين عام , وكانت الأخير تعتني اعتناءاً كبيراً بالطوائف الصوفية ومشايخها على تباين مشاربهم واتجاهاتهم ، فسار سلاطين ملوك بني طاهر على نفس طريقهم من الاهتمام والاعتناء الكبيرين بالصوفية ومشايخهم الكبار والجدير بالذكر أنّ الدول السُنية التي ظهرت على مسرح اليمن السياسي كالدولة الرسولية والدولة الطاهرية كانت تولي عناية فائقة بالصوفية وشيوخها الكبار ـــ على حسب قول عبد الله الحبشي ـــ . وعلى أية حال ، لقد أولى السلطان الملك عامر بن عبد الوهاب الذي تولى الحكم بعد والده الملك المنصور سنة 894 هـ / 1489م اهتماماً واعتناءاً كبيرين بالصوفية ومشايخها ويبدو أنّ هذا الاهتمام يعود إلى سياسة الملك عامر بأنه كان يقرب إليه عدد من كبار شيوخ الصوفية الذين لهم وزن كبير في الشارع السياسي ليؤيدوه ضد مناوئيه وخصومه السياسيين من القوى المحلية المختلفة . وفي هذا الصدد ، يقول الأستاذ عبد الله الحبشي : " فهذا الملك عامر بن عبد الوهاب ألطاهري يقرب إليه الصوفي الكبير أبا بكر بن عبد الله العيدروس المتوفي سنة 914 هـ ( 1508م ) ويمده بالأموال والخلع الباهظة الثمن . وقد كتب له في رسالة ( طلب منه الدعاء بأن يمكنه الله من فتح حصن وصاب ) . وكان هذا الصوفي ( قد بشر السلطان بفتح بلد يافع ودثينه وجبن وغيرها ) " . ويضيف ، قائلاً : " وقصائده الكثيرة في هذا السلطان تعطينا دلالة أكيدة على مدى ارتباط الصوفية بهذه الدولة ( الطاهرية ) ، ومن ذلك قوله في قصيدة طويلة : " [c1]يـا مـن رقى في الملك أعلى رتبة ومـجده سـامـي عـلى الشـهـــبوعطاؤه عم البرايا كلـهــــــــــــا وجوده يـزري بوبل السحــــبما حاتم ما جعفر في جــــــــوده ما حـيـدر ما عـنتـر في الـضـربكم قلعـة عيطا فتحها عنـــــــوه كـم هـامة قـد قدها بالـعـضــــب[/c]وبصرف النظر عن رؤية نقاد الأدب والشعر حول الجوانب الفنية في تلك الأبيات من القصيدة الشعرية بأنها ركيكة ، فإنها ترسم صورة واضحة الملامح بينة المعالم عن الثقافة الصوفية التي كانت سائدة في عصر تلك الدولة الطاهرية من جهة وقوة شيوخ الصوفية على خريطة اليمن السياسي من جهة أخرى .[c1]تهامة منبع التصوف[/c] والحقيقة أنّ تهامة كانت المركز الرئيس للصوفية في اليمن نظراً أنها كانت تعيش في الأغلب الأعم في حالة هدوء لا تعكر الاضطرابات ، والقلاقل ، والفتن صفو حياتها. وفي هذا الصدد ، يقول عبد الله الحبشي : " أغلب الذين عرفتهم اليمن من الصوفية عاشوا في تهامة حيث كانت هذه المنقطة من البلاد المحببة لهم . فقد وجدوا فيها الأمن والأمان والهدوء مؤثرين العزلة ، والعبادة في سواحلهم و بعيداً عن ضجيج الحياة ، وقلاقل الحكام . وقد كان أحد صوفيتهم ـــ وهو الشيخ أحمد الصياد ـــ ( يثني كثيراً على السواحل ويرى أنها مورد عباد الله الصالحين ) " . والجدير بالذكر أن الصوفي أحمد الصياد له زاوية صغير أو مسجد متواضع في مدينة التواهي المطل على البحر . ويذكر مؤرخنا الأستاذ عبد الله محيرز أنّ مدينة التواهي سميت قديماً باسم ( ولي الصيادين ) . وقد احتل الشيخ أحمد الصياد مكانة كبيرة في قلوب الناس البسطاء ، وخاصة من الصيادين ، وتقديراً له أقاموا له ضريحاً في داخل مسجده ومازال هذا الضريح المتواضع ماثل للعيان يروي قصة هذا الصوفي الجليل الشيخ أحمد الصياد الذي استقر ، وعاش ، ودفن في ثراها منذ أكثر من قرن والتي اقترنت باسمه ولي الصيادين ـــ كما أسلفنا ـــ . [c1]الصوفية والمجتمع[/c]والحقيقة أنه من يقرأ ويتتبع صفحات تاريخ الصوفية في اليمن بصفة خاصة والبلدان الإسلامية بصفة عاما سيلفت نظره أنّ الصوفية الأولى كانت تغوص في أعماق المجتمع تحل مشاكله ، وتقدم الحلول العملية لحلها ، وكان كبار مشايخ الصوفية يقفون بقوة وثبات وشجاعة ورباطة جأش الحكام الطغاة الذين يذوقون الناس العذاب الغليظ فلم يعتمد الرعيل الأول من شيوخ الصوفية على الشعوذة والخمول والهروب من الواقع الاجتماعي بل كانوا يعيشون مع المجتمع مع تباين فئاته بكل مشاعرهم وأحاسيسهم ووجدانهم , وكانوا ـــ بحق ـــ صوت المظلومين و صوت المعذبين في الأرض إزاء ظلم الحكام لرعاياهم . وهذا ما أكده الأستاذ محمد عبد الله الحبشي ، قائلاً : " كان رعيلهم الأول من الصوفية العمليين الذين لم يمنعهم زهدهم ونسكهم عن الاقتراب من الناس والدخول في همومهم فانخرطوا في سلك المجتمع ، وكانوا المعبرين عن آماله وطموحه أمام السلطة الحاكمة " . ولكن في أواخر عهدها ابتعدت الصوفية كل البعد عن جوهرها الحقيقي التي كانت متكئة على العلوم والمعرفة أو بعبارة أخرى كان شيوخها ينهلون من العلوم والمعارف ويعملون على الاستزادة منها . [c1]ما أسباب تدهورها ؟[/c] وعندما لم تأخذ الصوفية بأسباب العلوم والمعرفة من جهة وانتشار الخرافات والجهل بين الكثير من أتباعها ومريديها من جهة أخرى . فقد فسقطت في قيعان التدهور " فأول هذه العلامات ( أي علامات التدهور ) غلو الصوفية في تقديس شيوخهم وإسباغ هالات العظمة عليهم فنسبوا إليهم العديد من الكرامات التي لا يقدر على فعلها إلاّ رب الأرباب ، ومنهم من لم يكتف بإضفاء تلك الكرامات إلى شيخه في حياته فأخذ يتقرب إلى ضريحه بعد موته ويعتبره من المزارات المقدسة حتى أدى به الأمر إلى الاستغاثة به وطلب نزول المطر عند قبره والنحر له إلى غير ذلك " . ويمضي في حديثه ، قائلاً : " أمّا متأخروهم فقد كانوا وصمة عار على الصوفية ، وقد حولوا تصوفهم إلى نوع من الشعوذة جعلوها وسيلة للكسب الخاطئ ، فقاموا بأعمال يتبرى منها صوفيتهم الأوائل " . وهذا المؤرخ الكبير بامخرمة المتوفي سنة 947 هـ / 1540م صاحب كتاب ( تاريخ ثغر عدن ) يؤمن إيماناً عميقاً بالكرامات والمكاشفات عن شيوخ الصوفية فهو يدون وينقل ما يقال عن كرامات بعض المتصوفة دون تعليق أو شرح أو تفسير " حتى حينما يذكر ( بامخرمة ) عن بعض المزارات الصوفية لا يبدي أي تحليل ، أو نقد ، أو استنكار إزاءها . بل عباراته تدل على الإشادة ، أو الأخبار المجردة ، فيذكر مثلاً خشبة إسماعيل الحباني ( 834 هـ / 1430م ) بأنه ضربها إسماعيل هذا فتحولت ذهباً . . . ورغم غرابة مثل هذه الحكايات إلاّ أنه يذكرها على علاتها وينسبها إلى أصحابها المشاد بهم من قبله دون أنّ يعلق عليها " . [c1]الصوفي أسعد اليافعي [/c]وفي عصر الدولة الرسولية ظهرت على مسرحها شخصية صوفية كبيرة مرموقة ذاعت شهرتها الآفاق له مصنفات دينية عديدة . وكان كثير الترحال إلى البلدان الإسلامية ومن شيوخها وفقهائها الكبار نهل من علومهم مثل مصر ، والقدس ، والشام وغيرها وفي ترجمة حياته ، يقول بامخرمة هو : " عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان اليافعي الفقيه الإمام العالم العامل العابد الزاهد الصالح المشهور فضيل مكة وفاضلها . . . " . ويذكر بامخرمة بأنّ والد عبد الله أسعد اليافعي بعث به إلى عدن ليدرس على أيدى علمائها وفقهائها ومشايخها العلوم الدينية. وكان أسعد اليافعي هذا منذ صغره ونشأته منكباً على القراءة والإطلاع " ملازماً لبيته لا يشتغل به الصبيان من اللعب " . ويقول بامخرمة عن وأول علمائه الذين تتلمذ على أيديهم هو الشيخ أحمد البصال المعروف بالذهبي ـــ وهو من كبار شيوخ الصوفية ــــ . وهذا ما أكده أسعد اليافعي ، قائلاً : " وهو أول ( أي البصال ) من انتفعت به قرأت عليه القرآن الكريم ، وقرأت عليه التنبيه . . . " . ويمضي في حديثه عن مناقب شيخه البصال في تصنيف الكتب ، قائلاً " وجمع شيخنا البصّال كتاباً ألفه في الفقه ينتفع به الفقيه وغيره يتعلق بشرح التنبيه وفيه فوائد عديدة ونُكت مفيدة ، وتوفى بعدن سنة 745 هـ ( 1345م ) " أي توفى في عصر الدولة الرسولية . [c1]في عالم الصوفية[/c]يذكر بامخرمة أنّ عبد الله بن أسعد اليافعي بعد أنّ تتلمذ على يد الشيخ أحمد البصال في عدن توجه إلى بلاد الحجاز ليؤدي فرضة الحج , وبعدها عاد إليها ، ودخل في عالم الصوفية . وكان أول من ألبسه الخرقة هو الشيخ مسعود الجاوي في عدن . ويشرح الكاتب والباحث عبد الحبشي معنى ( الخرقة ) في شعائر الصوفية ، قائلاً: " فالباس الخرقة الصوفية من العادات الأصيلة لصوفية اليمن وغيرهم . . . أنها ترمز إلى الرابطة بين الشيخ وتلميذه " . وتتكون الخرقة من " طاقية الشيخ أو قميصه أو العمامة أو الطيلسان ( فيجوز أنّ يسمى جميع الملبوسات من الأزرار والقميص والأردية ، والجياب ، والعمائم ، والأقبية وما فوق ذلك ، وما دون كلها خرق " . وفي مناسبة " ألباس الشيخ لمريديه الخرقة يكون في حفل بهيج يقيمه الصوفية له ، يحضره كافة المشايخ والفقهاء والعلماء " والمريدين والأتباع . [c1]مؤلفاته[/c]ويعدد بامخرمة مؤلفات عبد الله بن أسعد اليافعي ، قائلاً : " فمن مصنفاته المَرهم ، وروض الرياحين في حكايات الصالحين وذيل عليه بذيل يحتوي على مائتي حكاية ، ونشر المَحاسن ، وكتاب الإرشاد والتطريز ، والدُرة المستحسنة في تكرار العُمرة في السنة " . ويضيف ، قائلاً : " وله قصيدة نحو ثلاثة آلاف بيت في العربية ( يقصد بالفصحى ) وغيرها وذكر أنها تشتمل على قريب من عشرين عِلماً ، وبعض هذه العلوم متداخل كالتصريف مع النحو والقوافي مع العروض وغير ذلك ، ومن مصنفاته التاريخ بدأ فيه من أوّل الهجرة وله نظم حسن ومن شعره : [c1]ألا أيها المغرور جهلاً بعزلتي عن الناس ظناً أنّ ذلك صلاح [/c]هذا البيت من القصيدة يعطينا مدى تواضع عبد الله بن أسعد اليافعي بأن عزلته هذه لا تعني بأنها صلاح وتقوى بل ربما تكون خلاف ذلك . وهذه إشارة إلى بعض المتصوفة الذين يعزلون الناس بحجة الصلاح والتقوى والبعد عن ضجيج وضوضاء الحياة أو التعالي عنها ليس من التقوى بأسس ، فالمتصوف الحقيقي هو الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمشاكل وطموحات الناس ويعمل جاهداً على حلها ، ويقف مع المظلوم ضد الظالمين . وكيفما كان الأمر ، فنحن أمام متصوف يختلف كثيراً عن المتصوفة الذين كانوا في عصره ، فهو له الكثير من المؤلفات الذي ذكرناها قبل قليل ولكن يجب أنّ ننتبه بأنّ تلك المؤلفات قد تكون عبارة عن أوراق قليلة وليست مؤلفات ضخمة. وقد يكون البعض منها من الكتب المتوسطة أو الكبيرة ولكن لا نستطيع الجزم عليها لكونها ليست تحت أيدينا . ونلاحظ أنّ أسعد اليافعي يقرض الشعر الجيد ـــ حسب قول بامخرمة ـــ وله قصيدة نحو ثلاثة آلاف بيت باللغة العربية الفصحى وليست بالعامية . [c1]المتصوف السائح[/c]كان عبد الله بن أسعد اليافعي يعشق الترحال من مكان إلى مكان ، كان غايته الأولى من الأسفار في البلدان الإسلامية هو التزود بالعلم والمعرفة ، في كل بلد يأتي إليه أول ما يخالط فيه من فئات الناس هم الشيوخ والعلماء والفقهاء فينهل من علمهم الغزير . وكان كثير التردد على الحرمين الشريفين . ولقد تتلمذ على أيدي الكثير من كبار علمائهم علوم الدين . وترامى إلى أسماعه أنّ في الشام هناك علماء وفقهاء إجلاء ، فشد رحاله إليه سنة 734هـ / 1334م ، وزار القدس ، والخليل ، " وقام فيه نحو مائة يوم ، ثم قصد الديار المصرية " . وكان من الشيخ أسعد اليافعي يحب زيارة قبور وأضرحة أعلام أئمة المسلمين الكبار فعندما كان بمصر المحروسة فقد " زار تربة الشافعي وغيره من المشاهير ، وأقام بمشهد ذي النون المصري . وكان كثيراً ما يسافر إلى قرى مصر المشهورة بعلمائها ليلتقي بهم ويستزيد من فضل علومهم . وفي هذا الصدد ، يقول بامخرمة : " وحضر ( أي أسعد اليافعي ) حسين الحاكي في مجلس وعظه وهو الجامع الذي يخطب فيه بظاهر القاهرة ، وعند الشيخ عبد الله المنوفي بالمدرسة الصالحية ، وزار الشيخ محمد المرشدي من الوجه البحري وبشره بأمور ثم قصد الوجه القبلي فسافر إلى الصعيد الأعلى " . والحقيقة أنّ الشيخ عبد الله بن أسعد اليافعي كان يهوى الحرمين الشريفين ولا يستطيع الفكاك عنهما . فعندما كان يسافر إلى اليمن مسقط رأسه أو أية بلد آخر ، فإنه سرعان ما يعود إلى الحرم المكي . فعندما غادر مصر والتقى بشيوخها ، فإنه عاد " إلى مكة ولازم العلم والعمل فيها . . . ثم سافر إلى اليمن سنة 738هـ ( 1338م ) لزيارة شيخه الطواشي وأيضاً غيره من العلماء الصالحين ومع هذه الأسفار فلم تفته حِجُة في هذه السنيين ثم عاد إلى مكة المشرفة ، وأنشد لسان الحال : [c1]فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عيناً بالإياب المُسافر [/c][c1]وفاته[/c]وبعد رحلته الطويلة مع العلم والعلماء ، والصوفية ، توفى الشيخ عبد الله بن أسعد اليافعي في سنة 768 هـ / 1367م ودفن ـــ حسب قول بامخرمة ـــ في مكان يسمى المعلاة مجاوراً للفضيل بن عياض أي أنه توفى في مكة المكرمة . ويذكر بامخرمة أنّ نسبه يعود إلى يافع القبيلة المعروفة باليمن من حِمير . [c1]الهوامش : [/c]محمد زكريا ؛ مساجد اليمن ، الطبعة الأولى 1416هـ / 1996م ، مركز عبادي للدراسات والنشر ـــ صنعاء ـــ الجمهورية اليمنية ــــ .عبد الله محمد الحبشي ؛ الصوفية والفقهاء في اليمن ، سنة الطبعة 1396هـ / 1976م ، مكتبة الجيل الجديد ـــ صنعاء ـــ .بامخرمة ؛ تاريخ ثغر عدن , الجزء الأول ، الطبعة الثانية 1407هـ / 1986م، دار التنوير للطباعة والنشر ـــ بيروت ــــ لبنان .عبد الله أحمد محيرز ؛ العقبة ، سنة الطبعة 1425هـ / 2004م ، الجمهورية اليمنية ـــ صنعاء ـــ . الدكتور عبد الرحمن الشجاع ؛ دراسة بعنوان : ثغر عدن في قلادة النحر من منتصف القرن التاسع إلى منتصف القرن العاشر الهجري ، ندوة عقدت في مركز البحوث والدراسات اليمنية بجامعة عد للفترة من 27 حتى 28 ديسمبر 2005م .