قبل أيام قليلة احتفل اليمنيون بنجاح الانتخابات الرئاسية والمحلية التي نالت إعجاب مختلف القوى المحبة للديمقراطية والحرية والسلم في العالم بأسره، وزاد من أهمية هذا الحدث الوطني الذي تحوّل إلى عرسٍ ديمقراطي كبير، تزامنه مع أفراح الاحتفالات بأعياد الثورة اليمنية.ومما له دلالة عميقة أن يكتسب هذا العرس الديمقراطي أبعاداً وطنية وعالمية جعلته واحداً من أبرز الأحداث الوطنية اليمنية في هذه الحقبة الراهنة من عصرنا الحافل بالمتغيرات والانعطافات الكبرى، وذلك من خلال ارتباط ميلاد الجمهورية اليمنية الموحدة في الثاني والعشرين من مايو 1990م، بالتحول نحو الديمقراطية التعددية التي تشكل اليوم محتوى المسار الراهن لتطور المجتمع المدني في عصرنا.ولما كانت التعددية الحزبية وحرية الصحافة وحرية الفكر وحرية التعبير تـُعد من أبرز سمات التوجه السياسي للجمهورية اليمنية الموحدة، فقد كان من الضروري أن يخوض شعبنا من خلال نهج التوجه الديمقراطي اختبارات شاقة لإثبات أصالة انتمائه إلى تحولات عصرنا الجديد، وتجنيب مسار تطوره اللاحق من المخاطر الناجمة عن اختلال العَلاقة بين السلطة والمجتمع، وهو الاختلال الذي تجسد في كثيرٍ من البقع السوداء التي طفت فوق سطح الحياة البشرية، حين أدى غياب الحرية إلى سيادة الشمولية الاستبدادية، واغتراب المجتمع عن السلطة، واغتراب الإنسان عن الحضارة، وما رافق ذلك الاغتراب من انتهاك لحقوق الإنسان وتشويه صورة الحياة.صحيح أنّ الوحدة والديمقراطية تشكلان نتاجاً موضوعياً للثورة اليمنية (26 سبتمبر - 14 أكتوبر) التي قادتها الحركة الوطنية اليمنية بما هي عملية ثورية تاريخية استهدفت إخراج وتخليص شعبنا ومجتمعنا من أنفاق التخلف والعزلة والاستبداد والاستعمار والتجزئة التي كرستها عهود الإمامة والاستعمار وركائزه السلاطينية البائدة.. لكنّه من الصحيح أيضاً أنّ الثورة اليمنية لم تكن تعنى شيئاً في حياة شعبنا بدون وصولها إلى النقطة التي تمكن الإنسان اليمني من استعادة حضوره في ميدان الإبداع الحضاري ، بعد حقبة طويلة من الانقطاع في ظل النظام الإمامي والحكم الاستعماري الأنجلو سلاطيني اللذين تسببا في تعطيل قدرات شعبنا وإرهاقه بالآلام والمواجع والكوابح الثقيلة، وعزله عن عالم الدول المتحضرة.من نافل القول إنّ العودة إلى ميدان إبداع الحضارة لا تعني العودة إلى النقطة التي تجمدت عندها الحضارات الغابرة ، بقدر ما تعني العودة للمساهمة في آخر نقطة وصلت إليها الحضارة البشرية المعاصرة، ولا ريب في أنّ عودةٍ كهذه - إلى ميدان إبداع الحضارة - من شأنها أن تضع على عاتق شعبنا مهمات صعبة يُعد إنجازها شرطاً للحاق بحركة العصر، وشرطاً للخروج من أنفاق ودهاليز الماضي المظلمة.الثابت أنّ الإبداع الحضاري المعاصر لا يقوم بغير الحرية التي كانت وستظل صنواً لتطور الحضارة البشرية منذ أقدم العصور، حيث أثبت التاريخ أنّ انهيار كثير من الحضارات والدول القوية، ارتبط على الدوام بطغيان الشمولية والاستبداد، والابتعاد عن قيم الحرية ومصادرة الدور الطليعي للعقل والتفكير النقدي.بوسعنا القول إنّ ثمّة سقوطاً مدوياً حدث لكثيرٍ من المشاريع المعاصرة التي كانت تدعي انتسابها إلى حضارة العصر بعد أن عجزت عن تأكيد حضورها الحقيقي والفاعل في ميدان إبداع الحضارة.. أما السبب الرئيسي في سقوط تلك المشاريع فقد كان يتمثل في تجاهلها لأهم سنن التطور في حياة المجتمع البشري، وهي الحرية بما هي واحدة من أهم حقوق الإنسان. وبقدر ما تبدو القوى التي تهيمن على ميدان إبداع الحضارة قويةً بما تمتلكه من نظم وتشريعات ومؤسسات تستمد حيويتها من طاقة الحرية التي تتجدد في أعماقها، بقدر ما تبدو حضارتها مهددة أيضاً بأخطار يصعب السيطرة عليها، إن هي استمرت تقود عالماً لم تكتمل حريته بعد.بهذا المعنى لا يغدو تصحيح الاختلالات والتشوّهات من أبرز واجبات القوى التي تتفوق في ميدان إبداع الحضارة وتحتكر الحرية والاستقلال لنفسها فقط، ولكن تصحيح مثل هذه الاختلالات والتشوّهات هو ــ أيضا ً ــ واجب كافة قوى المجتمع البشري المعنية بمستقبل الحضارة الإنسانية ومستقبل العالم.في سياق تاريخي كهذا يمكن للحرية أن تستعيد حضورها بوصفها القوة الدافعة لمجرى الحضارة المعاصرة.. وفوق كل ذلك تستعيد الحرية قيمها المنسية بوصفها أهم سنن التطور التي يستحيل بدونها ضمان إنقاذ المسار اللاحق لحضارة الألفية الثالثة من آلام وتشوّهات وتناقضات الأزمنة الغابرة والعصور الخوالي.. وبتعبير أدق إنقاذ الحضارة المعاصرة من الموت، والحيلولة دون فنائها والتحاقها بالحضارات الميتة التي أضحت مجرد تاريخ مكتوب بسطور هامدة في بطون كتب الحوليات القديمة.حقاً لقد تحرر شعبنا من النظام الإمامي الاستبدادي والحكم الاستعماري الأنجلو سلاطيني.. بيد أنّ هذه الحرية التي تعمّدت بالدماء والتضحيات الجسيمة لم تكن مكتملة.. والذين يقولون بغير ذلك منافقون.. لأننا كنا نمارس إرادة الكفاح من أجل الحرية في ظل عالم مضطرب، وحضارة مأزومة.. ولذلك فقد كان طبيعياً أن يفتقد كفاحنا من أجل الحرية كثيراً مما كان يفتقده عالمنا وحضارتنا من مبادئ وقيم الحرية.لقد انتفض التاريخ ليخلص حضارتنا وعالمنا من التشوّهات والتناقضات التي أرهقت البشرية وكادت أن توصلها إلى حافة الفناء الشامل بفعل الأوهام التي حادت عن سنن التطور حين تمّ فرض سلطة الأفكار والأيديولوجيات على عقول الناس بواسطة سلطة الدولة، فيما تم تحويل دور الإنسان في الحياة إلى مجرد خادم وحارس لتلك الأفكار والأيديولوجيات التي كانت تمارس سلطتها على العقل باسم الثورة أو الدين أو القومية أو الطبقية.ويحق لنا القول إنّ شعبنا اختار لنفسه موقعاً لائقاً في قلب انتفاضة التاريخ الأخيرة.. فهو من جهة استعاد الوجه الشرعي لوطنه الذي كان مشطوراً.. كما أنّه من جهةٍ ثانية وضع أقدامه على الطريق الصحيح الذي يؤمن له استكمال شروط حريته .. بمعنى أن تكون استعادة حرية الإنسان اليمني جزءاً أصيلاً من نسيج عملية استعادة حرية الإنسان في العالم.هكذا كان اختيار نهج التوجه الديمقراطي وسيلة شعبنا وقواه الحية لبلوغ آفاق الحرية، لكن طريق الحرية لا يكون مضموناً بدون تخليصه من غبار الأزمنة التي كانت الحرية فيها إما ناقصة ومشوّهة، أو غائبة. وقد أثبتت الانتخابات والموقف من نتائجها أنّ اختيار طريق الديمقراطية لا يتم بمجرد التعاطي مع خطاب سياسي وإعلامي منمق بعبارات الديمقراطية، بمعنى أنّ طريق الديمقراطية يبدأ بتعلم الديمقراطية والتخلص من رواسب الثقافة السياسية الشمولية وعاداتها وكل ما يتنافى مع مبادئ وقيم الديمقراطية ، وصولاً إلى الخلاص النهائي من كل ما من شأنه أن يقودنا إلى مغامرة الصدام مع سنن التطور، وهي مغامرة يكون الانتحار السياسي خاتمتها وهو بعض من عار التاريخ الذي لا نرغب لأحدٍ أن يتلطخ به في نهاية المطاف.لا ريب في أنّ تعلُّم الديمقراطية يبدأ بتعلم العيش في ظل الديمقراطية التعددية والاستعداد لقبول اختلاف وتنوع الأفكار والإرادات والمصالح . ولما كان الاختلاف والتنوع والتعدد في الحياة الإنسانية من السنن الطبيعية لتطور المجتمع البشري ، فإنّ تعلم الديمقراطية يقتضي إضفاء النزعة الإنسانية على حياتنا في ظل التنوع والتعدد والاختلاف ، بعيداً عن سنن الغاب القائمة على التسلط والتصيّد والإبادة، وبعيداً عن سنن الاستبداد القائمة على الإنفراد والإلغاء والإقصاء والتخوين والتكفير والإرهاب والادعاء باحتكار الحقيقة .الثابت أنّ إضفاء النزعة الإنسانية على حياتنا يتطلب قدراً أكبر من إعلاء شأن القيم الإنسانية واحترام حقوق الإنسان ، الأمر الذي لا يمكن تحقيقه بدون توفير الضمانات الكاملة لتمكين الإنسان من أن يكون حراً في اختياراته واستعداداته وميوله في الحياة.. بدءاً باختيار يقينه السياسي والفكري المستقل بطريقة حرة ، وانتهاءً باختيار حكامه وأسلوب مشاركته في إدارة شؤون المجتمع الذي يعيش فيه.لقد علَّمنا التاريخ أنّ التطور الحر للفرد هو شرط للتطور الحر للجميع.. وعلّمنا التاريخ أيضاً أنّ هذه الحقيقة لا يمكن تجسيدها بدون توفير الرافعة التي تضمن ــ في آن ٍ واحد ٍ ــ تطور الفرد الحر وتطور المجتمع الحر . و قد تعلمت البشرية على امتداد حوادث التاريخ حقيقة أنّ هذه الرافعة كانت ــ وستظل دائما ً ــ تتجسد في شكل ومحتوى العَلاقة بين الفرد والمجتمع من جهة ، وبين المجتمع والدولة من جهةٍ أخرى.[c1]عن / صحيفة 26 سبتمبر [/c]
|
فكر
إستعادة القيم المنسيّة
أخبار متعلقة