إن «تسييس» الدين كان من أهم العوائق التي وقفت في طريق الديمقراطية في الوطن العربي! بل إن كلمة ديمقراطية بالذات أصبحت منبوذة في الدوائر الدينية، ويتهم كل من يتلفظ أو يؤمن بها بأنه «علماني» أو حتى «كافر». وقد صادف أن حدثت تحالفات «مصالِحية» بين بعض الدول والمتشددين الدينيين، وهذا أخرج بعض دعاة الدين من ثوبهم «العبادي» للتدخل في أمور الحكم وحياة الناس. بل واللجوء إلى العنف والقسوة في سبيل تطبيق قيم الفكر الأصولي وليس الدين الإسلامي، وهنالك فرق كبير بين الاثنين! وصار أن خاف بعض الأنظمة من «سطوة» الأحزاب الدينية ورموزها -حيث نظمت هذه صفوفها وتغلغلت في المدارس والجامعات- ووصل الأمر ببعضها إلى إصدار فتاوى القتل ناهيك عن الإفتاء بطلاق المسلم من زوجته -استناداً لآرائه- أو إصدار صكوك «الكفر» على البعض، بل والمطالبة بقطع رؤوس الناس دون تهم أو محاكمات.هذه العشوائية، التي نعتبرها ردود أفعال من جانب بعض المتعصبين الموتورين الذين ضاقت بهم أنظمتهم أو زجّت بهم في السجون ردحاً من الزمن، سببت هجرة عكسية إلى دول الخليج حيث أنسَ هؤلاء رائحة النفط والغاز، ووصلوا إلى الإذاعة والتلفزيون والصحافة، وأصبحت لهم سطوة واضحة في الأوساط الأكاديمية -بحيث يحاربون كل صاحب فكر مستنير أو فكر يخالف فكرهم ويقصُونه من الجامعات بغير حق- وبدأوا في السيطرة على أفكار النشء والشباب وهم عدة المستقبل. ونظراً لاتباع تلك الجماعات أسلوب الشدة والقسوة في إطلاق المسميات والأحكام على من يخالفونها الرأي، نزع بعضهم إلى الانغلاق على الذات وعدم المساهمة أو إبداء الرأي في قضايا المجتمع المصيرية! مع أن الانغلاق لم يعد صالحاً للعصر الحديث، بل ويتعارض مع توجهات الحكومات الناهضة نحو التعامل مع رموز الحياة العصرية -بكل أبعادها الانفتاحية- تعاملاً حضارياً يقبل الآخر، ويتصالح مع الأديان الأخرى ويحاورها، ويقيم لها أماكن العبادة، تماماً كما كان في عهد النبوة (لكم دينكم ولي دين)، إلا أن بعض هذه الجماعات الموتورة حرّمت ذلك، وصارت هنالك «دعوات» قاسية وغير لائقة على أصحاب الديانات السماوية الأخرى، ودون مبرر، وهذا لم يحدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الخلفاء! ولقد ظللنا نسمع تلك «الدعوات» في المساجد كل جمعة ردحاً من الزمن، حتى ضاق الحكام بهم ذرعاً؛ وصحا الوعي السياسي وأسكتهم عبر «العين الحمراء».وبعد هذه الانتكاسة رأى هؤلاء أن يتركوا السياسة -نظراً لواقع الأمر- وأصبحوا يتدخلون في أمور الناس، وتغلغلوا إلى إدارات مناهج التعليم، والمطبوعات والنشر، والإذاعة والتلفزيون، التي تحتاج لإنتاجهم ووعظهم، وللأسف كان كل ذلك يجري بموافقة بعض الأنظمة منذ الأربعينيات، حيث كانت الحاجة ماسة إلى هؤلاء -في دول الخليج- التي كان يندر أن يوجد فيها من يفك الخط. وكانت مصر وسوريا تحفلان بالخطباء والمفسرين والحركات الدينية والسياسية بشكل لافت للنظر، وهكذا تمت هجرة العديد من الإسلامويين إلى منطقة الخليج ليس بلباس الإسلام، بل بفكر جديد يحتاج إلى نقاش! فجاء هذا البعض تحت مسميات عدة، لكن الأهم التوحد ونشر الأفكار التي ما كانت تهم الشعوب! وصار أن استخدموا اللغة «المخملية» ذات الإيماءات الوردية الحنونة -بما يصاحبها من لغة جسد متقنة وانحناءات وابتسامات واستغفارات- حيث أسروا القلوب وفتحت لهم أبواب الفرص تماماً كما فتحت لهم أبواب البنوك، وبدلاً من أن يصبحوا مستشارين دينيين في وزارات الأوقاف أصبح العديد منهم مستشارين اقتصاديين في البنوك! وقد حاذروا من الاقتراب من الحراك الشعبي أو حقوق المواطنين، أو دعم الحركات الوطنية التي كانت تعاني تعامل الاستعمار أو الرؤى الضيقة في التعامل مع العمال المواطنين. بل ولم يتطرقوا في خطبهم ووعظهم على مدى أكثر من خمسين عاماً إلى حقوق المواطنة الصالحة، ونأوا بأنفسهم عن خوض حوار التحديث الذي سارت عليه دول الخليج! بل كانت دعواتهم -ضمن فكر المهادنة المرحلية- الصمت أو التأييد في هذا المصر أو ذاك! كما صمت بعضهم عن بعض الممارسات التي قد تخالف أصول الدين أو العدالة الاجتماعية، ولم نسمع أياً منهم تحدث عن حالات العسف أو الظلم إن طالت بعض أبناء المنطقة؛ سواء في دخولهم السجون بلا تهم أو إقصائهم الوظيفي والاجتماعي من المجتمع!لسنا ضد أحد! ولكن نقبل حوار الآخر ونريد منه محاورتنا! ولا يجوز أبداً اتخاذ التدين «بعبعاً» يخوفوننا به وهم يحققون أهدافاً دنيوية.وفي ذات الوقت، نشطت حركتهم لجذب الشباب نحو «الجهاد» في أفغانستان والشيشان -في الوقت الذي يرسلون هم أبناءهم وبناتهم إلى الولايات المتحدة وبريطانيا للدراسة العليا ونيل الشهادات الحقيقية كي يضمنوا لهم وظائف عليا في الخليج! وصار أن فقدت بعض بلدان الخليج فلذات أكبادها في وهم «جهاد» مزعوم، وخسرت مرحلة التنمية هؤلاء، وذهب بعضهم ولم يعد، وملأت الحسرات قلوب أمهاتهم! كل ذلك بسبب قوة الإقناع والتكرار الوعظي الذي مورس عليهم. ونحن نعجب من شاب تزوج حديثاً وفي اليوم التالي ذهب لـ»يخرج» في المسجد تاركاً زوجته الشابة مع حسرات الليل! إننا ندرك أن هذا الكلام سوف «يزعل» كثيرين، لكن هل من الإسلام ترك الزوجة في أيام الزواج الأولى والتفرغ للخروج! ماذا ستكون عليه العلاقة بين هذا الزوج وزوجته الشابة؟! وأين (السكن) والمودة والرحمة التي جعلها الله بين الزوجين؟!وسكت هؤلاء الإسلامويون عن الفساد الإداري في المناطق التي يعيشون فيها، ولم يفاتحوا ولي الأمر في ذلك، بل إن بعضهم استفاد من ذلك الفساد ومارسه، حيث اقترض الملايين لبناء عمارات منيفة، وتقدم -كما تقدم آخرون بغير حق- لإلغاء الدَّين، وحصل الإلغاء نتيجة تقابل المصالح، لأن آخرين عليهم ديون بمئات الملايين، ووقع الأمر على رؤوس الفقراء الذين استدانوا مليوناً أو 500 ألف، ومازالوا يقتطعون من رواتبهم من أجل تسديدها! فهل هذا من أفكار وسلوكيات الإسلام أو المسلمين؟ وهل العمارة أو العمارتان اللتان سوف تدران دخلاً لمئات السنين لأحفاد ذاك الشيخ «المسلم»، أتت عن طريق حلال؟! أم من أموال «بيّضها» قرار إداري غير موفق؟! وكيف يمتلك المسلم عمارة ويأخذ دخل إيجارها وهو لم يدفع فيها ريالاً واحداً؟! سؤال نوجهه إلى الذين يفتون في أمور الدنيا ويحذرون الناس من أكل أموال الناس بالباطل، ويقابلون الحكام بالوجوه السمحة الباسمة، والانحناءات الباطلة، ويضغطون على أيدي الأحكام بالتأييد لمزيد من الفساد الإداري والمالي الذي يستفيدون منه!لسنا ضد أحد! ولكن نقبل حوار الآخر ونريد من الآخر أن يقبل حوارنا! ولا يجوز أبداً اتخاذ التدين «وثناً» أو «بعبعاً» يخوفوننا به وهم يحققون أهدافاً دنيوية بعيدة عن روح الإسلام، ثم يظهرون في الفضائيات يتحدثون عن قيم الإسلام والحق والفضيلة، ويزدرون الرذيلة والكذب وأكل مال الغير بالباطل! بل لا يجوز أن نسمم أفكار النشء الجديد ببعض «التهويمات» فيذهب ليفجر نفسه بين أهله وذويه.من الخطأ تفكيك المجتمعات العربية، وهذا التفكيك لن يضر بالأنظمة فحسب، بل سيضر بالبشر؛ وينشر الكراهية بين أفراد المجتمع الواحد الصغير، وقد لا نبحر في الخيال كثيراً إن قلنا: إن تسييس الدين أتى بويلات على الشعوب، وإن ساند بعض الأنظمة ردحاً من الزمن، فتلك المساندة سوف تتحول إلى بركان تحت أقدامها، في وقت لا يفيد فيه الندم.[c1]*عن / صحيفة(الاتحاد)الاماراتية[/c]
|
مقالات
براكين تسييس الدين!
أخبار متعلقة