نورالدين علوش :اكتست دراسة التراث العربي الإسلامي مكانة مهمة لدى الباحثين العرب؛ لكن اختلفت الأهداف والخلفيات، فمنهم من دعا إلى القطيعة معه (نموذج العروي) وآخرون دعوا إلى عقلنة التراث (نموذج الجابري) والبقية الباقية دعت إلى تصفية التراث وكشف تناقضاته (خليل عبدالكريم).ما يهنا المجال في هذا المقال هو الحديث عن الاتجاه الثالث: الذي نظر في التراث فوجده مليئا بالمغالطات والأكاذيب والخرافة خاصة في مجال التفسير والتاريخ والحديث والفقه.على سبيل المثال نجد التفاسير تركز فقط على ابن كثير فأين باقي التفاسير؟ (الزمخشري والرازي والباقلاني...).فالباحث في تلك التفاسير يجدها أكثر أهمية من تفسير ابن كثير المليء بالإسرائيليات؛ فلماذا يتم الترويج له في حين أن باقي التفاسير تقصى من الترويج ولا توجد في المكتبات؟الجواب يكمن في طبيعة تلك التفاسير، حيث نجد أصحابها معروفين بالنزعة العقلية. فما أحوجنا اليوم إلى تلك التفاسير للدخول في عصر أنوار عربي إسلامي يعيد للعقل مكانته وللمعرفة سلطتها.أما في الفقه فنجدهم يركزون كثيرا على ابن تيمية وابن القيم, أما العلماء الآخرون فلا مكان لهم بالرغم من علمهم الكبير واجتهادهم المعروف ومكانتهم المرموقة وما أكثرهم، على سبيل المثال لماذا لا يتم ذكر الفقيه اللامع نجم الدين الطوفي الحنبلي الذي تجرأ على كسر أهم القواعد الفقهية (لا اجتهاد مع النص)فأباح الاجتهاد حتى مع النصوص الواضحة الدلالة، استناداً إلى اجتهادات الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب (تعطيل حد السرقة وفريضة المؤلفة قلوبهم ...) لاختلاف المصالح بدوران الأزمان، ومن ثم قدر الطوفي أن رعاية مصالح الناس تعلو على النص والإجماع.ولماذا لا يعرجون على اجتهادات الإمام الباقلاني؟ لا لشيء إلا لاشتراطه للاجتهاد التضلع في الفلسفة أو بالذات علم الكلام واعتماده على المنطق الأرسطي في الاستنتاجات الصحيحة.وحتى الإمام الجويني لا نجد له مكانا عند علمائنا الأجلاء، فالجدير بالذكر أن هذا الإمام في القرن الثاني عشر ميلادي يؤكد على أن المعرفة بمقاصد الشريعة كافية وحدها كأساس في الاجتهاد بتنزيلها على واقع الزمان ومستجداته ومشكلاته التي لم تكن معلومة من قبل، والغرض من هذا التنزيل هو مصلحة الناس أولا وأخيرا، وهو كله ما يقوم على مدركات عقلية بالأساس وليست نقلية ولا نصية.أما في مجال التاريخ الإسلامي فحدث ولا حرج؛ فلازالت الكثير من الأحداث التاريخية كقتل عثمان والفتنة بين علي ومعاوية بالإضافة إلى تجاوزات الصحابة وأخطائهم تحتاج إلى الكثير من التمحيص والتدقيق البعيد كل البعد عن الأيديولوجيا. فالكثير من الكتب التاريخية القديمة مليئة بالتناقضات والأيديولوجيا، فما أحوجنا اليوم إلى كتابات تاريخية موضوعية تستفيد من كثرة المناهج التاريخية والاجتماعية الألسنية.وأخيرا في مجال الحديث النبوي، الذي احتدم الصراع حول روايته بين الشيعة والسنة وبين باقي الفرق الإسلامية الخوارج مثلا. فكثرت الأحاديث الموضوعة والضعيفة، فحتى صحيح البخاري الذي يعتبر أصح الكتب بعد القرآن الكريم لم يسلم من بعض الأحاديث البعيدة كل البعد عن جوهر الإسلام؛ فمثلا في كتاب الجنائز في صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أتاني آت من ربي فأخبرني أنه من قال من أمتي لا أشرك بالله شيئا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق، قال وإن زنى وان سرق رغم أنف أبي ذر”. (الحديث 1237).لقد توافقت المجتمعات كلها، والبشرية جميعا على أن فعل السرقة وفعل الزنا هما من الأفعال الفاضحة والمشينة، وهي شؤون لا تحتاج توجيها ولا تعليما كي ندركها، لأنها تدرك بالحس الإنساني الخالص، لذلك كان الحس الإنساني وراء تكرار أبي ذر لسؤاله المندهش المستنكر 3 مرات تعبيرا عن عدم قبول روحه لفكرة أن يكون مصير الزاني والسارق إلى الجنة بدلا من جهنم.والغريب أن هذا الحديث يعتبر من عمدة الأحاديث المكررة التي يعمل بها المسلمون ومشايخهم ثم يحدثوننا عن القيم وعن الأخلاق؟ وهم يبررون السرقة والزنا مقابل الاعتراف لله بأنه إله!ألا يحق لنا في القرن الحادي والعشرين مراجعة الأحاديث وإعادة تصنيفها من قبل لجنة علمية مختلطة بين السنة والشيعة؛ لتصفية الأحاديث المخالفة لجوهر الإسلام ولقيمه الداعية إلى المعرفة والحرية والعقل والمساواة؟عودا على بدء فلماذا لا يتم توظيف كل الثورات المعرفية والمنهجية التي عرفتها أوروبا للقيام بقراءة نقدية جذرية لتراثنا المكتوب؟ انتصارا للعقل ودحضا للخرافة وتثمينا لقيم البشرية.أما آن الأوان للدخول في عصر أنوار عربي إسلامي؟أما آن الأوان لتفجير التناقضات؟