في شهر فبراير الماضي من العام الجاري 2007 م كتبت في هذه الصحيفة مقالين عن الأبعاد الطائفية لحركة التمرد المذهبية التي فجرها المتمرد الصريع حسين بدر الدين الحوثي ويواصلها أتباعه من ضحايا التعبئة الطائفية في صعدة . وحرصت في تلك االمقالتين على وضع التمرد في سياقه الموضوعي باعتباره عملاً خارجاً عن القانون والشرعية الدستورية ومعادياً للديمقراطية والوحدة الوطنية بكل ما ينطوي عليه ذلك التمرد من أفكارٍ وأهداف وتوجهات وشبهات.كما حرصت في الوقت نفسه على الربط بين التمرد المتجدد في صعدة منذ مطلع العام الجاري 2007 م ، وما يحظى به من تناولاتٍ إعلامية وسياسية خارجية مغرضة، وبين ما جرى ويجري من أحداثٍ وتداعيات في الساحة العربية على تربة “ الصحوة السلفية الدينية “ للمنظومات الفقهية الطائفية المتناحرة التي صبغت حقبة طويلة من التاريخ الإسلامي بالدماء وأنهكتها بالجراح والانقسامات والصراعات.تأسيساً على ذلك اكدت في تلك المقالتين أنه من حق بل ومن واجب الدولة إنهاء هذا التمرد بالوسائل القانونية والدستورية وبضمنها استخدام القوة ، باعتبار ما يجري في صعدة عملاً خارجاً عن الدستور والقانون .في هذا السياق كتبت محذرا من أية مراهنة على استخدام المشاريع والجماعات والفرق والمدارس السلفية الطائفية لمواجهة التمرد الحاصل في صنعاء حتى وإن ارتدى ثوباً طائفياً ومذهبيا ، مشيرا ً الى أن الطائفي لا تصلح لمواجهة الطائفية، كما أن الخطاب السلفي الطائفي المضاد ، ليس مؤهلاً لمواجهة الأبعاد الطائفية الخطيرة لفتنة صعدة ، ولا يخدم المصالح الوطنية والقومية لشعبنا اليمني والشعوب العربية ، بل سيسهم في صب مزيد من الزيت على نار الفتنة وتوسيع نطاقها وإطالة أمدها ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الفقه السياسي الطائفي الذي يستهدف إثارة وإحياء النعرات والثقافة الطائفية في العالم العربي والاسلامي ، يندرج ضمن مخططات ومشاريع التفتيت والتقسيم الجاري تنفيذها في الشرق الأوسط باتجاه إحياء دول ملوك الطوائف. ولا فرق هنا بين أن تتم عملية إحياء هذه الثقافة والنعرات الطائفية بواسطة التعليم الديني السلفي المذهبي المتعصب ، أو الإعلام الطائفي العدواني الصارخ، وبين أن تتم عن طريق خطاب سياسي وإعلامي ينطوي على التكفير والتحقير والتخوين، واستدعاء النزاعات القديمة من غياهب القرون الغابرة ، لمحاربة وتحقير الطوائف االاسلامية المختلفة .والحال ان الساحة اليمنية شهدت مؤخرا ً موجة متصاعدة من الغضب والقلق إزاء تزايد خطر التطرف والغلو والإرهاب الذي ألحق بالبلاد أضراراً مدمرة. ولعل أهم ما يميّز الرفض الشعبي للإرهاب ، إجماع كافة قوى المجتمع على ضرورة تجفيف منابع الغلو والتطرف والتعبئة الخاطئة، ومحاصرة ثقافة التكفير والتشدد والإلغاء التي تفرز في نهاية المطاف إرهاباً قاتلاً بغطاء ديني زائف.في هذا السياق يمكن القول إن جمعية علماء الدين في اليمن أسهمت بقسطها في إدانة الإرهاب والاغتيالات السياسية واستباحة دم المستأمنين المقيمين في بلادنا بدعوى حراسة الدين، حيث لم يخف علماء اليمن الأفاضل - في أكثر من مناسبة - قلقهم إزاء مخاطر الغلو والتطرف على السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية والمصالح العليا للبلاد ، وهو ما يفسِّر دعوتهم الصادقة في مناسبات سابقة إلى توحيد مناهج العلوم الشرعية حرصاً على وحدة وتماسك المتجمع، وحماية الجيل الفتي والأجيال القادمة من الآثار المدمرة التي تتركها الأفكار المتطرفة في عقول ونفوس بعض المتأثرين بها من الشباب.قال علماء اليمن كلمتهم الفاصلة ، بكل شجاعةٍ ومسؤولية، وجسدوا بهذا الموقف التاريخي إخلاصهم لدينهم ومجتمعهم ، ورفضهم كل أشكال التعبئة الخاطئة للشباب، بما فيها تلك التي تختفي خلف واجهة تدريس العلوم الدينية من خلال مدارس ومراكز ومعاهد خارجة عن النظام التعليمي العام والجامعي، ومموّلة من جهات غير معروفة، وترمي إلى تحقيق أهداف وغايات لا تتفق مع احتياجات مجتمعنا للتنمية والديمقراطية والتسامح والوحدة .لا ريب في أنّ تعليم العلوم الشرعية واجب على الدولة المسلمة التي تقع على عاتقها وحدها مسؤولية تحديد الأهداف الاستراتيجية للتعليم ، وصياغة المناهج التعليمية اللازمة لبناء الأجيال الجديدة وإعدادها للنهوض بمسؤوليات المستقبل.. ولئن كانت السياسة العامة للدولة وقوانينها النافذة تفسح المجال لمشاركة المجتمع - من خلال القطاع الخاص - في بناء وامتلاك وإدارة المشاريع التنموية في مختلف القطاعات الاقتصادية والخدمية في إطار استراتيجية وطنية شاملة للتنمية، فقد سمحت الدولة للقطاع الخاص بالمشاركة في تحقيق أهداف السياسة التعليمية الوطنية من خلال الاستثمارات الخاصة في قطاع التعليم الأساسي والثانوي والجامعي ، على أساس الالتزام بالقوانين النافذة والمناهج التعليمية الوطنية المعتمدة رسمياً.لقد انتشرت في الآونة الأخيرة - كالفطر - معاهد ومدارس ومراكز تقوم باستقطاب آلاف الدارسين الذين يتلقون (علوماً شرعية) وفق مناهج خارجة عن الإستراتيجية الوطنية للتتعليم، وغير خاضعة لقوانين الدولة التي تنظم قواعد وإدارة المدارس والمعاهد الخاصة، وشروط القبول والامتحانات فيها، والشهادات التي تصدرها وفقاً لمناهج التعليم العام والجامعي، وبما يحقق أهداف السياسة التعليمية العامة للدولة.الثابت أنّ هذه المدارس والمعاهد تعتمد في تدريس طلابها على مناهج وافدة ومتناقضة ومتناحرة ، وتسعى إلى تشكيل وعيٍ وسلوكٍ ونمط حياة الداإسين فيها بروح التشدد والتعصب وكراهية الآخرين والتميز والدروشة والانعزال داخل المجتمع.. بل أنّ بعضها يحرض علناً ضد الديمقراطية ويجاهر بتكفيرها ويصف المجتمع بالجاهلية، وما يترتب على كل ذلك من مخاطر تهدد الأسس الدستورية للنظام السياسي، وتلحق الضرر بوحدة المجتمع وتماسكه.ومن نافل القول إنّ توحيد مناهج العلوم الشرعية في إطار الاستراتيجية الوطنية الشاملة للتعليم الأساسي والثانوي والجامعي، يجب أن يتزامن مع تصحيح الأوضاع الخارجة على القانون لهذه المدارس والمعاهد، وإخضاع مصادر وطرق تمويلها للقوانين المنظمة للاستثمارات الخاصة، والعمل الخيري، والتصدي بحزم لكل ما من شأنه تحويل هذه المدارس والمعاهد (الدينية) إلى بؤر لاختراق السيادة الوطنية ، وتزييف عقول الناشئة ، وتغذية منابع التطرف والإرهاب ، وإثارة الفتن المذهبية والتحريض ضد الديمقراطية والنظام السياسي التعددي وإشاعة روح السلبية والانعزال داخل المجتمع!!ولئن كانت مخاطر التطرف والارهاب تهدد السيادة الوطنية واقتصاد البلاد ومصالح المجتمع ، فإن من شأن التهاون معهما وتجاهل الأبعاد الخطيرة للمراجع الفكرية للمتطرفين والارهابيين وما يرتبط بها من وسائل وأهداف ، أن يدمـّر السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية ، ويمهد الطريق لقلب نظام الحكم والقضاء على الديمقراطية التعددية ، وفرض حكم شمولي استبدادي متخلف على غرار العديد من نماذج الدولة الدينية الشمولية التي أبتلي بها العالم العربي والاسلامي في التاريخ القديم والحديث .وعليه يخطئ من يعتقد بأنه سيكون بمأمن من خطر الإرهاب الذي سيحرق الأخضر واليابس في حال تمكنه من الحصول على ملاذ آمن في بلادنا ، الأمر الذي يتطلب اصطفافاً وطنياً عريضاً ضد الإرهاب الملتبس بالدين ، تشارك فيه كافة القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والفاعليات الفكرية والدينية والاقتصادية والثقافية بشكل منسق ومتكامل .[c1]نقلاً عن / صحيفة ( 26 سبتمبر ) [/c]
|
فكر
من أجل السلم الأهلي والوحدة الوطنية
أخبار متعلقة