أضواء
لا شك أن منطقة الخليج العربي تتعرض اليوم لموجة غلاء كاسحة، وزيادة في معدلات التضخم تصل إلى أكثر من 30% خلال عام واحد. وتتركز هذه الزيادة في أسعار الإيجارات، والمواد الغذائية والخدمات المختلفة. وقد ذهب الكثيرون إلى تحديد عدة أسباب وراء ارتفاع الأسعار الجنوني الذي طال دخول الأفراد في مختلف طبقات المجتمع، وأثر بشكل كبير على أصحاب الدخول المحدودة. ولقد جاءت هذه الزيادة بعد أن تعرضت الطبقة الوسطى منذ عام ونيف لتآكل شديد في مدّخراتها نتيجة لانهيار أسواق البورصة في بداية عام 2006م، وارتباط الكثيرين بديون والتزامات للبنوك. ولم تتأثر البنوك الخليجية بعدم سداد بعض هذه القروض، نظراً لزيادة حجم المحافظ الحكومية فيها، مما حال دون حصول هزة في احتياطات البنوك. وقد حاولت دول الخليج العربية أن تقدم بعض أنواع الدعم للمستهلكين، فزادت دول المجلس من مرتبات موظفيها بنسب تراوحت بين 5% في المملكة العربية السعودية، و70% في دولة الإمارات العربية المتحدة. ومع ذلك فإن القيمة الشرائية للعملات الخليجية قد تراجعت كثيراً أمام هذه الزيادة في الأسعار، وساءت الأمور أكثر نظراً لارتباطها المتواصل مع الدولار الذي استمر في فقدان أكثر من 25% من قيمته خلال العام المنصرم أمام العملات الأخرى، خاصة اليورو، ولم تنفع كذلك المعونات الحكومية في كبح جماح التضخم، بالرغم من حرص الحكومات الخليجية على تركيز معوناتها على المواد الغذائية الأساسية. والحقيقة أن هناك مشكلة عميقة في دول مجلس التعاون خاصة بدور مؤسسات المجتمع المدني، وجمعيات المستهلكين. فغالبية مؤسسات المجتمع المدني، إن وجدت فهي ضعيفة جداً. كذلك فإن الأسس القانونية التي تعتمد عليها سواءً في مجال التسجيل، أو الأعمال الإدارية الأخرى ضعيفة، إن لم تكن معدومة. كما أن قوة الغرف التجارية والصناعية في المقابل في الضغط على أصحاب القرار، وعلى وزارات التجارة قوية إلى أبعد الحدود. فالغرف التجارية والصناعية تمثّل أدوات ضغط حقيقية، ويمتد تاريخها في المنطقة لعشرات السنين. فلا غرو أن تكون ذات تأثير عظيم. وتصبح المصالح التي يدافع عنها معشر التجار ممثلة بشكل بارز في وسائل الإعلام المختلفة. بينما تبقى أصوات الطبقات المستهلكة ضعيفة، وتعاني بشكل كبير من ضعف في التنظيم والتأثير والإعلام. إضافة إلى ذلك فإن معظم أصحاب القرار في المؤسسات الاقتصادية الحكومية يؤمنون بما يسمونه بـ(حرية السوق) بشكل هائل يفوق ما آمن به آدم سميث في كتابه (ثروة الأمم) . وهم متشربون بشكل كبير لإيديولوجية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في تفضيل ما يسمى بالحرّية الاقتصادية للتجار والشركات الكبرى، على حساب مصالح المستهلكين. والحقيقة أن الإيمان العميق بهذه الأيديولوجية، قد قاد عدة دول في الماضي إلى كوارث سياسية واقتصادية. فكلنا يتذكر كيف أن البنك الدولي أوصى عدداً من الدول العربية خلال النصف الثاني من التسعينات بتخفيض الرسوم الجمركية، وزيادة الضرائب على المبيعات، مما زاد في أسعار الخبز وغيره من السلع الأساسية. كما أن نصائح البنك الدولي (الذهبية) قد قادت دول أمريكا الجنوبية بما فيها البرازيل إلى تدهور اقتصادي حاد فقدت فيه عملات هذه الدول قيمتها، وانهارت فيه بنوكها وفقد الملايين من مواطني تلك الدول استثماراتهم. حتى مثل هذه الأيديولوجية، فإنها موجودة في أذهان هؤلاء المخططين وحدهم، دون سواهم. فعلى أرض الحقيقة فإن الأسواق ليست حرة، بل يتحكم نفر قليل من المستوردين والمنتجين بالأسعار. فأسعار الحديد على سبيل المثال زادت إلى ثلاثة أضعاف أسعارها خلال عام واحد، وهناك عدد قليل من المنتجين والموردين للحديد في المنطقة يتحكمون في معظم سوق هذه المادة المهمة للبناء والتشييد. وهم يستطيعون التأثير المباشر في سعر الحديد دون رادع أو قيود نظامية أو قانونية، من قبل وزارات التجارة في دول المجلس. حتى حينما يحاول المستهلكون مقاطعة بعض المنتجات، مثل مقاطعة منتجات الحليب قبل أسابيع قليلة بسبب التواطؤ المعلن بين شركات إنتاج الحليب، فينبري البعض لتقريع المستهلكين وثنيهم عن هذه المقاطعة، مع صعوبة الالتزام بها من قبل الأفراد وأسرهم لفترة طويلة. وحرية الأسواق المزعومة تتطلب وجود نظام قضائي صارم يفرض على الشركات الاحتكارية عقوبات عالية نتيجة تحكمها بالأسواق. [c1]*عكاظ[/c]