أقواس
لاشك ان الغموض في الأدب والفن ظهر في عصرنا الحديث واضحى جزءاً من مستلزمات ودواعي (الحداثة) وربما اذا بحثنا عن تفسير لذلك الجنوح المتطرف نحو الغرابة والتعقيد سنجد أن السبب الذي افرز ذلك الغموض هو الثورة التقنية في مجالات الاتصال والمعلومات التي بلغت ذروتها في هذا العصر بحيث اضحى كل شيء امام المتلقي مباحاً ومكشوفاً وسهل الحصول عليه فاتجه الأدب والفن إلى البحث عن عوالم اخرى جديدة مجهولة وغامضة إلى ماوراء الطبيعة مثلاً وإلى الاغراق في الرمزية والتعقيد وانغلاق المعنى، وبالتالي رفض البساطة والوضوح في العملية الابداعية عموماً ..ولانني في هذه العجالة لست بصدد تفنيد وشرح أسباب الغموض وإنما لايضاح جزئية مهمة في هذه المسألة وهي ان الغموض في الكتابة الابداعية يتطلب الكثير من (التفكير والتأمل) وذلكم الجهد المبذول في القراءة العميقة يتطلب وقتاً . والوقت اصبح محدوداً ضاغطاً لدى القارئ على اعتبار أن الانسان في عصرنا ـ مثقفاً كان أو انساناً عادياً ـ منغمس حتى أذنيه بتفاصيل حياته اليومية اللاهثة والمضنية وهناك ـ وهذا المهم ـ وسائل كثيرة مبهرة ومدهشة تتنافس في الحصول على اهتمامه (القنوات الفضائية ، الصحف ، المجلات ، السينما ، المسرح ، المعارض الفنية ،مباريات كرة القدم ، البرامج السياسية ) ولذلك اصبح القارئ ينصرف عن القراءة ويستبدلها بمتابعة وسائل اخرى حالما يجد صعوبة في قراءة وفهم الموضوع الذي هو بصدد قراءته طالما ليس لديه الوقت الكافي لحل طلاسمه العجيبة وهذا ما فعله مثلاً الصحافي (عبدالله العمير ) رئيس تحرير الشرق الأوسط السابق حينما سئل عن رأيه في الشعر الحديث وهل يقرأه .. فأجاب قائلاً : (أنا لا أقرأ الشعر الحديث لأنني غير مستعد أن اقضي اربع ساعات في قراءة قصيدة لا أعرف ماذا يقول فيها الشاعر ) .أذن اصبح الأديب في عصرنا يواجه منافسة قوية من وسائل وقنوات الاتصال المختلفة واصبح كما يقال امام (مفترق طرق ) إما أن يقدم اعماله بوضوح وليس المقصود بالوضوح المباشرة والسطحية . وانما السلاسة والبساطة مع مراعاة عنصر الوقت .. أو ان يحيط اعماله بالغموض والابهام ويرتضي لنفسه مخاطبة عدد قليل من (النخبة المتفرغة لموضوعه وفنه فقط ).شفاء منصر