أضواء
قبل عدة سنوات تعرفت على فكر الباحث السعودي حسن بن فرحان المالكي عبر سلسلته النقدية «نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي» الذي بدأه بكتاب يحمل هذا العنوان وتضمن قراءات نقدية لبعض الأطروحات الجامعية لنيل شهادات الماجستير والدكتوراه من بعض الجامعات السعودية التي يرى المالكي أنها تفتقد لروح البحث العلمي والنقد المنهجي وتحوي مغالطات تاريخية متعددة كشف المالكي عن نماذج منها في كتابه .ويقوم المشروع النقدي المالكي على قراءة التاريخ وفق منهج أهل الحديث الذي يقوم على محاكمة السند وفق منهج أهل الجرح والتعديل وقد كان الباحث العراقي مرتضى العسكري هو من أوائل من استخدم هذا المنهج في قراءاته النقدية وذلك حول روايات سيف بن عمر التميمي وتوصل من خلالها إلى نتائج خطيرة في التاريخ الإسلامي كان من أخطرها نفي أي دور للشخصية الوهمية عبدالله بن سبا في الفتنة الكبرى التي عصفت بالمسلمين آنذاك وأدت إلى مقتل الخليفة عثمان بن عفان وهي النتيجة نفسها التي توصل إليها بعد سنوات الأكاديمي الكويتي الدكتور عبدالعزيز الهلابي في كتابه «عبدالله بن سبا .. دراسة للروايات التاريخية» عن دوره في الفتنة الذي اتبع المنهج النقدي الصارم نفسه في محاكمة السند والباحث العماني علي بن محمد الحجري في كتابه «الإباضية ومنهجية البحث عند المؤرخين وأصحاب المقالات» ونتيجة لهذه البحوث النقدية والتي كان لها صدى واسع لدى الأوساط الإسلامية المختلفة سواء داخل المدرسة السلفية أو خارجها تعرض المالكي - وما يزال - لحملة شرسة من بعض غلاة السلفية داخل السعودية وخارجها وطالب بعضهم صراحة بمحاكمته ومنعه من الكتابة ولكن الرجل لم يخضع لهذه الضغوط وواصل حملته النقدية التي شملت مختلف مجالات التاريخ الإسلامي ونقد التراث المذهبي حتى وصل عدد مؤلفاته القيمة في هذا المجال إلى ثمانية إضافة إلى أخرى لا تزال مخطوطة وتنتظر دورها في النشر.ومن ابرز المحطات الإصلاحية التي تصدى المالكي لمناقشتها مسالة التكفير في الفكر الإسلامي التي طالت رموزا فقهية وكلامية من مختلف المذاهب الإسلامية وذلك في كتابه « قراءة في كتب العقائد … المذهب الحنبلي أنموذجا » الذي حاول فيه أن يحفر في عمق المنظومة المعرفية للمذهب الحنبلي من خلال دراسة بنيته الفكرية والمقارنة بين نظريات المؤسس الأصلي للمذهب وهو الإمام احمد بن حنبل وبين التيار الذي أسسه الفقيه الحنبلي البارز أحمد بن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزيه مرورا بالتيار المغالي في التجسيم الذي مثله الإمام البربهاري في كتابه السنة وأئمة آخرون مثل أبن أبي عاصم وسعيد بن عثمان الدارمي وابن خزيمه وغيرهم الذين تبنوا التيار المتهم بترويج التشبيه والتجسيم في الفكر الإسلامي .وفي كتابه المثير للجدل «داعية وليس نبيا » اخترق المالكي المحظور العقدي وناقش أهم واخطر كتاب في الفكر السلفي في القرنين الأخيرين وهو كتاب «كشف الشبهات » وهو رسالة صغيرة للشيخ محمد بن عبدالوهاب تحوي خلاصة العقيدة السلفية حول المسائل التي يعتقدون إنها تمثل التوحيد الإسلامي الخالص وفق التقسيم السلفي المعروف واقصد هنا توحيد الربوبية وتوحيد الإلوهية وتوحيد الذات والصفات وتوصل من خلالها إلى تخطئة الشيخ محمد بن عبدالوهاب في معظم المسائل التي طرحها في الرسالة وهو الأمر الذي شكل صدمة قوية للتيارات السلفية المختلفة الذين ردوا على الكتاب بتكفير مؤلفه وتضليله .وفي كتابهما «بيعة علي بن أبي طالب» في ضوء الروايات الصحيحة رأى الباحث حسن المالكي والباحثة أم مالك الخالدي أن أهم فترة تاريخية بحاجة إلى بحث وتحقيق ودراسة هي الفترة التي تلت وفاة الرسول محمد ((صلى الله عليه وسلم )) إلى نهاية الخلافة الراشدة وبداية الحكم الأموي .وأستطيع أن اذكر أن سبب اختيار المالكي لهذه الفترة بالذات وإخضاعها للدراسة إنما يعود لأسباب مختلفة أذكر منها :1 - شهدت هذه الفترة ثلاث حروب كبرى وفاصلة في التاريخ الإسلامي وهي الجمل وصفين والنهروان إضافة إلى أحداث السقيفة التي لا يزال يدور فيها الكثير من النقاش والجدل بين المدارس الإسلامية المختلفة .2 - شهدت هذه الفترة بروز أربع نظريات مختلفة للحكم في النظام الإسلامي وهي (النص) كما حدث في عهد الخليفة أبي بكر لعمر بن الخطاب و(الشورى المصغرة) التي أوصلت عثمان إلى الحكم ثم (الشورى الشاملة) التي أوصلت علي بن أبي طالب للخلافة ثم أخيرا (ولاية العهد والحكم الوراثي) الذي ابتدعه أول خلفاء الأمويين معاوية بن أبي سفيان وهو النظام الذي سار عليه باقي الحكام الأمويين والعباسيين والفاطميين والعثمانيين وغيرهم ولا يزال متبعا في اغلب الدول الإسلامية .3 - لا زالت جل الدراسات التاريخية القديمة والمعاصرة تدرس هذه الفترة المهمة في التاريخ الإسلامي داخل نطاق القراءة التقديسية والتي ترفض أي ممارسة نقدية حولها بل تنطلق جميعها في دائرة عدالة الصحابة المطلقة والتي أثبتت الدراسات المعاصرة بطلانها ومن ضمنها دراسة حسن المالكي المهمة « الصحبة اللغوية والصحبة الشرعية» وغيرها.4 - في مقابل الدراسات النقدية النادرة جدا حول هذه الفترة فإن أكثر الدراسات انتشاراً وخاصة في الأوساط السلفية كتاب ” العواصم من القواصم ” للفقيه أبو بكر بن العربي المالكي وهي دراسة تعتمد على القراءة الأموية لتلك الأحداث ومما زاد الطين بله تعليقات محب الدين الخطيب عليها إضافة إلى تعليقات محمد مهدي الاستانبولي إضافة إلى كتب أخرى ابتليت بروايات سيف بن عمر التميمي المتهم بالكذب عند أهل الحديث واخص بالذكر هنا كتاب ” تاريخ الدولة الأموية ” للدكتور يوسف العش وسلسلة الدكتور محمد علي الصلابي حول حياة الخلفاء الراشدين وغيرها حيث تفتقد أغلبها روح البحث العلمي وتعتمد على قراءة تبجيلية انتقائية ولم تقدم شيئا جديدا سوى التكرار لما كتب ويكتب.وفي هذا الكتاب بحثت الباحثة السعودية أم مالك الخالدي والباحث حسن المالكي بيعة علي بن ابي طالب وفق الروايات الصحيحة وفق منهج أهل السنة وقد توصل الباحثان من خلالها إلى إنكار كل الروايات التي أدعت أن كثيرا من الصحابة رفضوا هذه البيعة وتمردوا عليها وأثبتا حسب الروايات التي رأيا إنها صحيحة إن جميع تلك الروايات تعارض الروايات الصحيحة التي أثبتت مبايعتهم له وإنها خلطت بين مفهومين وهما عدم المبايعة والاعتزال عن القتال معه وهناك فرق شاسع بينهما فعبدالله بن عمر وسعد بن أبي وقاص وحسان بن ثابت وزيد بن ثابت بايعوا عليا بالخلافة ولكنهم رفضوا القتال معه لرأي رأوه ليس المجال هنا مناقشته.ومن المسائل الخطيرة التي بحث فيها الأستاذ حسن المالكي في سلسلته نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي مسألة الصحابة من حيث تعريفها اللغوي والشرعي وكذلك مسألة عدالة الصحابة التي ثار حولها كثير من النقاش والجدل بين المدارس الإسلامية المختلفة سواء بين السنة والشيعة أو داخل هذه المدارس نفسها.ويعتقد الباحث السعودي حسن المالكي أن « قضية الصحابة من القضايا المستمرة في تصفية الخصوم أو كبتهم أو التضييق عليهم أو التشكيك في عقائدهم وتنفير الناس عنهم دون النظر إلى حججهم وأدلتهم » ولذلك فإنه يكفي في بعض المجتمعات العربية أن يتهم الباحث بمعاداة الصحابة حتى يرمى بالتفسيق والابتداع، وربما التكفير والإخراج عن الملة أيضا كما حدث مع كثير من الباحثين الذين حفروا في القضايا الإسلامية المختلفة وخرجوا بنتائج تختلف عن السائد في جل الدراسات الإسلامية القديمة والحديثة مثل الأديب المصري الدكتور طه حسين الذي اتهم بالتشيع بعد تأليفه كتاب علي وبنوه والفقيه الشافعي حسن السقاف الذي رمي بالرفض والتشيع بعد سلسلة الكتب التي ألفها في تصحيح بعض العقائد الدينية المنتشرة بين بعض الطوائف الإسلامية والفقيه محمد بن عقيل الشافعي الذي اتهم بمعاداة الصحابة بعد تأليفه كتاب” النصائح الكافية لمن يتولى معاوية» بل إن الاتهام بالتشيع ومعاداة الصحابة طالت حتى بعض الرموز العلمانية مثل المرحوم الدكتور فرج فودة بسبب كتابه (الحقيقة الغائبة) والأستاذ نبيل فياض بسبب كتابيه «يوم انحدر الجمل من السقيفة» و «أم المؤمنين تأكل أولادها» والأستاذ خليل عبدالكريم صاحب الثلاثية الشهيرة «شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة» وغيرهم ولا تزال تهمة التشيع تلاحق كل رأي يخالف السائد في القراءات التبجيلية للتراث ولو كان قائله علمانيا أو ليبراليا وهذا يدل على ضيق أفق كثير من الذين يعتبرون أنفسهم من المثقفين أو طلائع التجديد الإسلامي.يرى المالكي في كتابه أن التعريف الصحيح للصحبة الشرعية وفق الأدلة القرآنية والحديثية لا تنطبق إلا على المهاجرين والأنصار فقط وبالتالي فإنها لا تشمل مجموعة كبيرة من الصحابة وخاصة الطلقاء والذين هم الذين اسلموا بعد الفتح كغالبية بني أمية ولكن هؤلاء يصح دخولهم في الصحبة العامة حسب الاعتبار اللغوي فقط أما من الناحية الشرعية فأنه يطلق عليهم مصطلح (التابعون) وليس الصحابة كما في قوله تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين أتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه. وقد ضمن المالكي كتابه بجداول كاملة لطبقات الصحابة من أصحاب الصحبة الشرعية في العهدين المكي والمدني وأوصلها إلى خمس عشرة طبقة حسب السبق إلى الإسلام والإيمان به وابتدأ بطبقة أوائل المسلمين أمثال علي بن أبي طالب والسيدة خديجة بنت خويلد وأبي بكر الصديق وخالد بن سعيد وغيرهم وتلاهم طبقة السابقين إلى الإسلام ثم طبقة مسلمي دار الأرقم الأولى فالثانية إلى الطبقة الخامسة عشرة والأخيرة وهي طبقة أصحاب الحديبية .ولا يزال الباحث السعودي حسن المالكي يواصل بحوثه التاريخية والفكرية حول التاريخ الإسلامي وغيرها وسط الكثير من الحقول الملغمة وخصوصاَ الفترة التي تلت وفاة النبي محمد والتي انتهت بمقتل الخليفة علي بن أبي طالب واستيلاء الفريق الأموي على الحكم.[c1]* كاتب عماني [/c]