الحداثة بالمعنى الحالي للكلمة هي ظاهرة نشأت في أوروبا منذ القرن السادس عشر وبلغت ذروتها في القرنين التاسع عشر والعشرين. وقد قسمت التاريخ إلى قسمين: ما قبلها وما بعدها. فما قبلها كانت العصور الوسطى المسيحية أو محاكم التفتيش الظلامية، هذا بالإضافة إلى الفقر والجوع والزهد في الحياة الدنيا وانتشار أفكار الخوف والتعصب والحروب الطائفية أو المذهبية. وما بعدها كانت الحضارة العلمية والتكنولوجية والفلسفية والعلمانية والتقدم المادي والاقتصادي الذي لا مثيل له في التاريخ. ولو نهض أناس القرون الوسطى من قبورهم ونظروا من حولهم لجن جنونهم وهم يرون كل هذه الحضارة المزدهرة التي قلبت الأمور عاليها سافلها وغيرت وجه الأرض. بهذا المعنى فالحداثة معجزة بدون أدنى شك. وللتأكد من ذلك يكفي أن تنتقل بالطائرة من عواصم الغرب إلى عواصم العرب والمسلمين لكي ترى الفرق الشاسع ولكي تدرك أنك قطعت ثلاثة قرون لا ثلاث ساعات أثناء رحلتك القصيرة بالطائرة. ولكن بعضنا ممن يحاول تعزية نفسه يقول ان الحداثة هي مجرد أسطورة أو حتى وهم وسراب بل؟ ويقولون بأنها كلها كفر وإلحاد واباحيات وسلبيات.. والسؤال المطروح هو التالي: إذا كان الأمر كذلك فلماذا تحاول كل أمم الأرض كالصين والهند وروسيا أن تلحق بركب الغرب وتدخل إلى جنة الحداثة؟ لماذا تزحف نحوها زحفاً بكل يديها ورجليها؟ لا يوجد بلد واحد في العالم إلا وهو يحلم بأن يتوصل إلى نفس التقدم المادي والعلمي والطبي والرفاهية الاقتصادية التي وصلت إليها الشعوب الأوروبية أو الأميركية الشمالية. كلنا نحلم بأن نذوق طعم الحداثة والحياة الاستهلاكية والحريات الشخصية التي تتمتع بها الشعوب المتقدمة. ولا يوجد بلد واحد في العالم يقول (على الأقل ظاهرياً) بأنه ضد الديمقراطية وحقوق الإنسان. هذا لا يعني بالطبع أنه لا توجد نواقص في الحداثة، أو أنها لا تعاني من أزمات وانسدادات أو شطط وانحرافات. ولكني قررت في هذه المقالة ألا أتحدث إلا عن إيجابيات الحداثة. لماذا؟ لأني كالعديد من المثقفين العرب أتمنى أن تخرج مجتمعاتنا من حالة التخلف والأصولية والاستبداد إلى حالة التقدم والاستنارة والحريات. ولكي أفهم الحداثة، لكي أقدم عنها صورة تبسيطية واضحة، أجد نفسي مضطراً لتقسيمها إلى حداثات. فهناك أولاً الحداثة المادية أو العلمية والتكنولوجية التي تبهر أبصارنا نحن الشرقيين بمجرد أن تطأ أقدامنا الأرض الأوروبية. وهي التي نحسدهم عليها بالدرجة الأولى إذا ما استثنينا مسألة الحريات الفردية وعدم الخوف المرعب من الطغاة والحكام، الخ. وهناك ثانياً الحداثة الفلسفية المرتبطة بالأولى بشكل أكبر مما نظن. والدليل على ذلك هذه العبارة التي انتشرت في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر: لولا نيوتن لما كان كانط. والمقصود بذلك أنه لولا الاكتشافات العلمية الهائلة لإسحاق نيوتن لما استطاع فيلسوف الألمان أن يشكل أكبر فلسفة في العصور الحديثة. وبالتالي فتقدم الفلسفة العقلانية مرتبط بتقدم العلم الفيزيائي واكتشاف قوانين الطبيعة والكون. ونحن العرب خسرنا المعركة منذ ان كانت حركة العلم والفلسفة قد توقفت عندنا ودخلنا في عصور الانحطاط الطويلة. وهناك ثالثاً الحداثة الاقتصادية التي قضت على المجاعات الكبرى داخل النطاق الأوروبي على الأقل ورفعت مستوى المعيشة للطبقات الوسطى وعموم الشعب. انظر مثلا إلى حالة الرفاهية السائدة في البلدان الاسكندنافية كالسويد والنرويج والدنمارك حيث تؤمن لك الدولة كل شيء تقريبا وحيث لا يوجد أي فساد إداري أو سياسي وحيث الوزير مسؤول عن كل فلس يصرفه. وهناك رابعاً الحداثة السياسية المتمثلة بالثورات الثلاث: الإنجليزية (1680)، فالأميركية (1776)، فالفرنسية (1789). فبعدها دخلنا في عصر الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان وسيادة الشعب وحق التصويت العام والتناوب على السلطة ووجود الأغلبية والمعارضة، وعدم سجن الناس على آرائهم السياسية. وهناك خامساً الحداثة الدينية. وكان ينبغي أن أقول أولاً الحداثة الدينية لأن الدين هو ذروة الذرى وغاية الغايات. وإذا فسد فهمه أو تأويله فسد كل شيء. أقول ذلك ونحن نعلم أن مدشن حركة الإصلاح الديني في أوروبا، مارتن لوثر، كان معاصراً من الناحية الزمنية لمدشن الثورة العلمية كوبرنيكوس. ومعلوم أن الإصلاح الديني أدى إلى تخفيف أعباء التراث وأثقاله عن كاهل الإنسان المسيحي في أوروبا فانطلق بعدئذ لفتح العالم وتحقيق ذاته على الأرض. أو قل تصالحت السماء والأرض بفضله ولم تعد طبقة رجال الدين مليئة بالفساد كما كان يحصل سابقا. ثم جاء التنوير بعده لكي يطرح القشور من الدين ولا يبقي إلا على الجوهر الروحي والأخلاقي فقط ولكي يقدم البديل المقنع عن التزمت الأصولي السائد والنزعات الطائفية البغيضة التي تفتك الآن بكل مجتمعات العرب والإسلام فتكا ذريعاً. ولو اتسع لي الوقت لتكلمت عن الحداثة الأدبية أو الشعرية. فقد تخلص الشعراء من قيود الأوزان والقوافي التقليدية كما تخلص المؤمن الحديث من قيود التراث المتراكم وأصفاده وطقوسه التي لا تنتهي. وبالتالي فالحداثة هي مشروع تحرري على كافة الأصعدة والمستويات. انها انفجار لكل الطاقات المكبوتة. إنها تصيب كل جوانب الحياة دفعة واحدة أو على مراحل. بهذا المعنى فهي معجزة فعلاً لأنها لم تتحقق حتى الآن إلا في أوروبا وأميركا الشمالية واستراليا واليابان إلى حد كبير. وجميع الأمم تصبو إليها دون أن تستطيع تجسيدها على أرض الواقع بكل جوانبها. ولكنها سائرة على الطريق. بهذا المعنى فهناك طريق صيني إلى الحداثة، وطريق هندي، وطريق عربي إسلامي، الخ... بهذا المعنى أيضاً فإن الحداثة ظاهرة كونية وليست محلية كما يزعم خصومها الذين يكرهونها. ولكنها في كل نطاق ثقافي معين سوف تتلوَّن بألوانه وتتلبس بلباسه. وبالتالي فليطمئن دعاة الخصوصية والأصالة إذن. فالتراث العربي الإسلامي بعد الحداثة أو تحديث الفكر الديني سوف يبدو أكثر بهاء وجمالاً، أو أقل قمعاً وإكراهاً، مما كان عليه قبلها. وأكبر دليل على ذلك التجديد الراديكالي الرائع الذي يقدمه محمد أركون عن تراث الإسلام عن طريق عقلنته وتطبيق المناهج الحديثة عليه: كالمنهجية الألسنية، والمنهجية السوسيولوجية، والمنهجية التاريخية الخ. إن جوهر مشروع الحداثة يتمثل في استقلالية العقل بالقياس إلى النقل، أو الفلسفة بالقياس إلى الدين دون أن يعني ذلك أبداً القضاء على الدين كما يفهم بعضنا عن خطأ حداثة أوروبا. فالدين في أوروبا لم ينته بعد انتصار الحداثة وإنما تحول مفهومه وتعقلن وتجدد. وعندما تقرأ أبحاث علماء الدين في أوروبا تكاد تتخيل وكأنك تقرأ أبحاث فلاسفة لا أبحاث رجال دين.. انظر مثلا كتابات عالم اللاهوت الألماني الشهير: هانز كونغ الذي اصدر مؤخرا كتابا هاما عن الإسلام. وليتنا نعرف الألمانية لكي نطلع عليه. ولكننا مضطرون لانتظار صدور الترجمة الفرنسية لكي يتاح لنا ذلك. والعرب، اين هم؟ لماذا لا يترجمونه؟ وهكذا أصبحت العلاقة مع الدين حرة بعد أن كانت قمعية وإكراهية. وهذا أقرب ما يكون إلى جوهر الدين الذي تنص عليه الآية الكريمة: «لا إكراه في الدين». والآن أطرح هذا السؤال: أين نقف نحن كعرب وكمسلمين من مشروع الحداثة هذا؟ سوف أقول باختصار شديد اننا نعيش مرحلة انتقالية عسيرة لا يستبين فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود حتى الآن. وربما لن يستبين قبل مرور زمن طويل وخوض معارك طاحنة يشيب لهولها الولدان؟ المثقفون الأميركان يدعونها بالفوضى الخلاقة ولا أعتقد أن هذا المصطلح خاطئ كلياً على عكس ما يتوهم المثقفون العرب. أقول ذلك على الرغم من معارضتي للكثير من أطروحات وحماقات المحافظين الجدد. فالنظام الجديد الحر لا يتولد إلا بعد الفوضى والعذاب. ولا بد من مصارعة الأمواج العاتية قبل الوصول إلى الشاطئ، ولا بد دون الشهد من إبر النحل. أما أولئك الذين يريدون الوصول إلى الحداثة أو التمتع بثمارها والتفيؤ بظلالها دون أن يدفعوا ثمنها مسبقا فليذهبوا إلى الجحيم؟ فهي لم تخلق لهم.. ولذلك لم يفاجئني إطلاقا ما يحصل في العراق حالياً. بل وأعتبره شيئاً منطقياً لأن تصفية الحسابات التاريخية المعلقة هي الشرط المسبق والضروري لكل انطلاقة حضارية موفقة. وأكبر دليل على ذلك تجربة أوروبا نفسها. فهي لم تقلع حضاريا إلا بعد أن خاضت كل المعارك الطائفية والمذهبية وتجاوزتها. وهذا ما ادعوه عادة بانتصار الذات على ذاتها بعد ان تمر في أتون المعاناة ومصهر التحدي. بالطبع فانه يؤلمنا جميعا استباحة بلد عربي كبير بهذا الشكل. ويؤلمنا سقوط كل هذه الضحايا البريئة من خلال تفجيرات إجرامية مروعة. ويؤلمنا أن شعب العراق لم يستطع التخلص من الطغيان إلا عن طريق الغزو الأجنبي المقيت. وكل ما نرجوه هو أن يزول هذا الاحتلال البغيض بأسرع وقت ممكن. ولكن يخطئ من يظن أن كل المشاكل ستزول بزواله. [c1]* كاتب سوري[/c]
|
فكر
هل الحداثة معجزة أم أسطورة؟
أخبار متعلقة