ماجد كيالي* ثمة مفارقات جدّ مؤسفة وخطيرة تعيشها الساحة الفلسطينية، هذه الأيام، إذ بات الفلسطينيون يتصارعون في ما بينهم على السلطة، في واقع لا سلطة حقيقية فيه إلا لدولة الاحتلال الإسرائيلي. هكذا، مثلاً، حلّت التوتّرات الفتحوية ـ الحماسية فجأة محل مصارعة المحتلّ! وبدا بديل التهدئة مع إسرائيل يتمثّل بتفريغ شحنة العنف في حسم المجادلات البينيّة ـ الداخلية! أما التجاذب بشأن صلاحيات الرئاسة (للحكومة والسلطة) فيكاد يصبح أهم من بذل الجهود لوقف بناء جدار الفصل العنصري. والمحصلة لكل ذلك أن التنافس الفصائلي الداخلي بات وكأنه أهم من التوحّد لمواجهة التحديات التي يمكن أن تنجم عن المشروع التصفوي الإسرائيلي للقضية الفلسطينية، المتمثل بالحل الأحادي ("الانطواء").على أية حال فإن التجربة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، منذ بدايتها، ظلت تعيش في إطار مفارقات كبيرة وخطيرة، أسهمت في تقييدها، وحدّت من قدرتها على إنجاز ولو بعض أهدافها.من ذلك أن فصائل حركة التحرر الفلسطينية، بمجمل تكويناتها (سواء تلك التي في السلطة أو في المعارضة)، كانت تصرّفت منذ قيامها على أساس أنها بمثابة سلطة (ولو في المنفى)، ولو كانت مجرد سلطة معنوية أو مؤسسية، أي من دون إقليم تسيطر عليه؛ على رغم أن هذه السلطة تعمّدت خلق حيز جغرافي مارست السلطة فيه، وفي محيطه (المخيمات والقواعد العسكرية ومكاتب الأجهزة) في الخارج. ولاشك أن هذا التصرّف الغريب جعل الحركة الفلسطينية في موقع ملتبس، بين السلطة وحركة التحرر. وبديهي أن هذا الالتباس أدخلها في إشكالات واحتكاكات عديدة وخطيرة ومجانية، مع شعبها، وفي ما بين مكوناتها، وبالخصوص مع محيطها (لا سيما الأنظمة السائدة) أيضا.كذلك تأسست الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ البداية، على تقديس الكفاح المسلح، في الفكر والممارسة السياسيين، تحت شعارات مثل: " لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، و" ديموقراطية غابة البنادق"، و"لتتحد الجهود في أرض المعركة". والنتيجة أن الكفاح المسلح الفلسطيني تجاوز توظيفاته الوطنية (ضد العدو)، وباتت له وظائف داخلية، تتمثل في تعزيز قوة الفصيل المعني، وضبط العلاقات الداخلية، والقيام بوظائف سلطوية في المجتمع الفلسطيني، حيث أتيح المجال لذلك. والنتيجة أن الأجهزة الأمنية والعسكرية تضخّمت، على حساب العمل السياسي والتنظيم الجماهيري والمشاركة الشعبية. ولا شك أن هذا الواقع أسهم، بين أشياء أخرى، بتدنّي مستوى الوعي السياسي وإضعاف علاقات الديموقراطية والمشاركة، وطغيان ثقافة العنف الداخلي، في إطار الحركة الوطنية الفلسطينية، وإن ظلّ هذا العنف مسيطرا عليه، من فوق، أي من الطبقة السياسية السائدة في الساحة الفلسطينية، في السلطة والفصائل.كذلك مالت حركة التحرر الفلسطينية، منذ بداياتها، إلى تغليب اللغة الشعاراتية ـ العاطفية، على حساب الوعي السياسي الواقعي. والمعضلة أن قضية على مستوى كبير وعميق من التشابك والتداخل والتعقيد، مثل القضية الفلسطينية، لا تحتمل مثل هذه اللغة التي تخاطب غرائز الجماهير، البسيطة والمغلوبة على أمرها، أكثر من عقلها، والتي تخاطب رغباتها أكثر من إمكانياتها، والتي تقدّس بذل التضحيات لـ"ألسماء"، أكثر مما تبحث عن تحقيق الإنجازات على الأرض. وبديهي أن النتيجة الطبيعية لهكذا خطابات هي الوصول لنوع من الاصطفافات الثنائية الحادة التخوينية أو التكفيرية، من صنف: وطني أو خائن، مناضل أو مستسلم، مع أو ضدّ، وهي ثنائيات لا تصلح للواقع الفلسطيني المعقّد والمتداخل مع الواقع العربي والدولي السائد، كما أنها تضرّ بالوعي الشعبوي، لأنها تشيع خطابات توتيرية، وتخلق حالة من التخندق والتحارب الداخلي، الذي لا يخدم المصلحة الوطنية. كذلك فإن خطابات كهذه تتناقض مع الديموقراطية والحق في الاختلاف واحترام الرأي الآخر، كونها تركز على التطابق وليس على التقاطع، ما أضعف مسار التنوع والتعددية اللتان طالما اغتنت بهما الساحة الفلسطينية.المفارقة الأهم والأخطر في كل ما تقدم أن الحركة الفلسطينية ظلت، على الدوام، سهلة وسريعة الاستدراج، إزاء محاولات إسرائيل تصدير أزماتها إليها، وضمنها أزمتها المتعلقة بعملية التسوية، وذلك بسبب من هشاشة مؤسّسات هذه الحركة وغياب الثقة بين أطرافها، وضعف الإجماع داخلها، وتدنّي مستوى وعيها للواقع المحيط بها وللتحديات التي تواجهها. هكذا استطاعت إسرائيل المحتلة والمعتدية والعنصرية، مثلا، استدراج الفلسطينيين لمربع المواجهات العسكرية (بالصواريخ وبالعمليات التفجيرية)، وتحويلهم من مكانة الضحية، أي من مكانة الشعب الضعيف الخاضع للاستعمار وللاضطهاد العنصري، إلى مكانة مكافئة لها، وربما إلى مكانة المعتدي! كما استدرجتهم إلى تصوير ذاتهم وكأنهم باتوا بمثابة سلطة على أرضهم، في حين أن السيادة مازالت بيدها.ويبدو من الأزمة الفلسطينية الحاصلة، مؤخّرا، وعلى سبيل المثال لا الحصر، أن إسرائيل نجحت في تحويل انسحابها (أو هزيمتها) من قطاع غزة إلى أزمة للفلسطينيين. وأنها استطاعت تحويل المأثرة الفلسطينية، المتعلقة بالانتخابات والديموقراطية وتداول السلطة، إلى عبء عليهم؛ لكأن الفلسطينيين يقوّضون بأيديهم كل إنجاز يحققونه بدمهم وعرقهم وعمرهم!وكانت إسرائيل، في مراحل سابقة، حوّلت بعض الوسائل الكفاحية الفلسطينية إلى عامل ضاغط على الفلسطينيين، من مثل الإضراب عن العمل في المؤسسات الإسرائيلية، والمقاطعة التجارية، وصولا للعمليات التفجيرية، إذ أنها استطاعت استبدال العمالة الفلسطينية بعمالة أجنبية، ثم إنها مقابل المقاطعة تعمدت هي فرض الحصار الاقتصادي على الفلسطينيين. أما في مواجهة العمليات التفجيرية فأقامت الجدار الفاصل. وهاهي اليوم تسعى نحو تحويل انسحابها من أجزاء من الضفة إلى عامل حصار وعزل وضغط على الفلسطينيين، بدل أن يتحول إلى إنجاز وطني لهم، مع أنه كذلك بكثير من المعاني. وبهذا المعنى فإن هدف الاستقلال في دولة فلسطينية، في هذه المعطيات المحلية والإقليمية والدولية، يكاد يبدو بمثابة أنشوطة تضيّق الخناق على الشعب الفلسطيني وقضيته ومستقبله.يستنتج من كل ما تقدم أن معضلة الحركة الوطنية الفلسطينية لا تتمثل فقط بعجزها عن حل أزماتها، أو حتى تجاوز هذه الأزمات، وإنما أنها كانت على درجة من الهشاشة التي مكنت حتى إسرائيل من تصدير أزماتها السياسية إليها. والنتيجة أن إسرائيل بسياساتها ومناوراتها ومبادراتها، نجحت إلى حد كبير في محاولاتها تجويف الحركة الفلسطينية، من ناحية الجدوى السياسية، وإفراغ مضمونها كحركة تحرر وطني، مستغلة حال التخلّف في بني هذه الحركة وترهّلها، وأيضا تدنّي مستوى إدارتها لأوضاعها وعلاقاتها (الداخلية والخارجية) كما إدارتها لصراعاتها ضد عدوها. ولعل هذا ما يفسّر حقيقة أن حركة التحرر الفلسطينية هذه لم تحرز النجاحات المناسبة في مجمل الخيارات التي أخذتها على عاتقها، في المقاومة والانتفاضة، وفي التسوية والمفاوضة، كما في مهمات البناء، سواء كانت مهمات بناء الثورة أو بناء الكيان والسلطة؛ وذلك على رغم كل التضحيات والمعاناة والبطولات التي بذلها الشعب الفلسطيني، منذ ما يزيد على أربعة عقود مضت.* نقلا ً عن صحيفة / (( الحياة ))
أخبار متعلقة