أضواء
خالد بن محمد الصغيرهذه هي سنتي السادسة عشرة من العمل المتواصل في المملكة، ولكنني أكذبك القول حين أقول إنني أشعر بالامتنان والانتماء لبلد أمضيت فيه سنوات مديدة من عمري؛ والسبب ببساطة يكمن في أنني طيلة إقامتي الطويلة هذه لم أشعر يوما أنني أكثر من أجير يعطى أجره كاملا غير منقوص مع نهاية كل شهر. هذه شهادة وقعها مرير أسجلها من دون زيادة أو نقص كما باح بها أخ وافد عربي تفضل مشكورا بالإفصاح عما يجول في خاطره تجاه بلد احتضنه طيلة هذه المدة موفرا له فرصة عمل، ولكنه في الوقت نفسه لم تٌهيأ له من الأسباب ما يجعله ممتنا راغبا بطواعية في تقديم كل ما يملكه من خبرة ومعرفة من أجل رفعة هذا البلد وأبنائه. فطيلة إقامته بين ظهرانينا كون شعوره هذا من جراء وقائع وحوادث متواترة عاشها بنفسه توصل من خلالها إلى أن أقصى ما يراد منه يتلخص في قيامه بواجبه المناط به حتى لا يحل عليه غضب رب عمله وبالتالي يجد نفسه وقد ألغي عقده ورحل إلى وطنه الأم غير مأسوف عليه.ولم يكن هذا كل ما في جعبته، وإنما أضاف أيضا إنني حين أقول ذلك لا أتهمكم بالتقصير تجاه من يعملون لديكم، وبخاصة فيما يتعلق بإعطائهم حقوقهم المالية - مع إدراكي أن هناك تقصيرا وتجاوزا من البعض لحقوق أجرائهم والعاملين لديهم - ولكنني أتحدث عن غياب كامل لبيئة حاضنة مرحبة ومقدرة لوجودي بجانب السبعة ملايين مقيم المشكلين لما يقارب الـ26% من إجمالي السكان هنا كمساهمين في حركة البناء والتنمية بمختلف أطيافها التي مرت وتمر بها المملكة في الوقت الراهن. ومما زاد في عجبي أن المملكة وعاء مترامي الأطرف يحوي العديد من أبناء وبنات الدول الشقيقة والصديقة الذين تعايشوا مع أقرانهم السعوديين لعقود طويلة، ولكن أبناء المملكة لم يساعدوا من يشاطرونهم العيش على أرضها من المقيمين على الانخراط السلس في المنظومة الاجتماعية المشكلة، أو المكونة للمجتمع السعودي. والنتيجة الحتمية لذلك أنكم سجلتم فشلا في كسب امتنان وعرفان الملايين من المقيمين على أرض بلد الحرمين الشريفين الذين يمكن أن يحفر في ذاكرتهم ما عاشوا قدرا وافرا من الامتنان والتقدير، والارتباط العاطفي والوجداني لهذا البلد وأهله. هذه ليست حالة فردية عابرة، وإنما تعبر عن صوت الملايين من المقيمين على أرض المملكة بغرض كسب العيش والتي يشترك في تعميق وجودها وترسيخها أطراف عدة، كما أنها لها مسببات وانعكاسات سلبية تطال المواطن السعودي والوطن برمته، ومن هنا يبدو أن الوقت قد أزف لإعطائها مزيدا من العناية والاهتمام من قبل الجانبين الرسمي والشعبي. يتقاسم الجانب الرسمي وأفراد المجتمع المسؤولية في خلق هذه الحالة غير الإيجابية التي تجعل ممن عمل ويعمل في المملكة غير ممتن لبقائه سنوات طوال أمضاها كادحا يبحث عن لقمة عيشه. وبالرغم من المساهمة المشتركة في ذلك فإن مسؤولية الدولة ممثلة في مؤسساتها الرسمية أقل من تلك التي تخص المواطن. ومرد ذلك يعود إلى أن مؤسسات الدولة الرسمية ليس لها تأثير مباشر في خلق هذا الجو غير الإيجابي؛ لأن دورها هو تنظيم العلاقة بين أصحاب العمل ومن يعملون لديهم وليس التدخل وتوجيه تلك العلاقة نحو مسار معين. وهذا لا يعني بالطبع إخلاء مسؤوليتها بالكامل؛ إذ يمكن القول إن مسؤوليتها في هذا الإطار - وإن كانت محدودة إلى حد كبير - تبرز في بعض القصور في جوانب إجرائية، وقانونية، وأخرى احترازية تتمثل في قصور في إيجاد حياة مناسبة للمقيمين، وتقديم قدر معقول من الخدمات، والحماية اللازمة، وضعف آليات الشكاوى، وبطء إجراءات التقاضي، وفي أحيان عدم إلزامية القرارات الصادرة لصالح المقيم، وعدم إقرار حد أدنى للأجور، وغياب التفتيش الصحي من قبل الحكومة على سكن العاملين، وبالمثل هناك نقص في توفير الأعداد اللازمة والمؤهلة من المفتشين على سلامة بيئة العمل في المصانع والمنشآت. ويضاف إلى ذلك أيضا قصور في البرامج الاحترازية الخاصة بتوعية العامل الوافد بحقوقه، وتهيئته للعمل في السعودية بما يحميه من خطر الوقوع في إشكالات قانونية نتيجة عدم معرفة العامل الوافد بالأنظمة المرعية في البلاد أو استغلاله من بعض أرباب العمل كمحصلة لجهله بحقيقة العمل المطلوب منه أداؤه، وكذلك عدم تمتع المقيمين بحقوق تقاعدية أو ضمان اجتماعي. وإلى جانب النواحي النظامية والقانونية الآنفة الذكر هناك أيضا جوانب يمكن تصنيفها بالإنسانية والممارسات السلوكية الخاطئة بحق المقيم مصدرها الجهات والمؤسسات الرسمية والتي يأتي على رأسها عدم تمييز من ولد في السعودية، أو من أمضى سنوات لا تقل عن عشر بمميزات تجعله يشعر أن هذا البلد بمثابة بلده الثاني الذي لديه رغبة في احتضانه وتقبله وفتح آفاق أمامه، بل إن حرمان قطاع كبير من المقيمين من الاستثمار، والتملك، ومزاولة الأنشطة التجارية المختلفة جعلهم يشعرون بعدم الترحيب بهم، وهو إجراء حرم الدولة من تحقيق مكاسب اقتصادية كبرى من جراء تحويلات المقيمين المالية إلى بلدانهم البالغة أكثر من 60 مليار ريال (16 مليار دولار أمريكي)، ومن استثمارات ومشاريع يمكن أن يقوم بتسيير دفتها المقيم وتحقيق عوائد اقتصادية مجزية. وإضافة إلى ذلك نجد أن الجامعات السعودية مغلقة في أوجه أبناء المقيمين والاقتصار فقط على قبول أعداد محدودة جدا منهم مما حرم جامعاتنا من استقطاب العقليات المتميزة من أبناء وبنات المقيمين الذين يتوقع أن يكونوا إضافة لجامعاتنا وللمجتمع لاحقا. وفي شأن آخر نجد أن الأنظمة تحد كثيراً من السماح للمقيمين بجلب أسرهم وذويهم. والقاسم الأكبر - في رأيي المتواضع - فيمن جعل المقيم يخلق صوراً غير إيجابية تشكلت في نهاية المطاف فخلقت في نفس المقيم شعورا غير ممتن حيال إعطائه فرصة الإقامة والعمل في السعودية يعود في المقام الأول إلى المواطن نفسه، أو بالأحرى إلى فئة كبيرة من المواطنين يستوي في ذلك المستثمر وغيره من عموم المواطنين الذين دأبوا على ممارسة سلوكيات، وإبداء مشاعر غير إيجابية تجاه المقيم. هناك قسم كبير من المواطنين من لا يبدي ترحيبا في وجود غير المواطن، ويتعامل معه بفوقية غير مبررة، وينظر إليهم ككائنات يمكن استخدامها كيفما اتفق. كما أن هناك من يردد مقولة أن الوافد أو المقيم قد استفاد من الإمكانات التي تتيحها له الدولة وهو ليس بمستحق، بل إن هناك من يصر على أن المقيمين لهم مساهمة كبرى في الإخلال بالموازين الأخلاقية للبلد، وأنهم دخلاء غير مرغوب فيهم، ومستنزفو اقتصاد الدولة ومقدراتها، وهم الجالبين للعديد من الأمراض الاجتماعية التي أصابت مجتمعنا بالعدوى. كما أن انكفاء المواطن السعودي حول أعضاء أسرته الكبيرة ساهم بشكل كبير في الحد من تواصل وتداخل وانصهار المقيمين مع نظرائهم السعوديين الأمر الذي عمق من شعور المقيم بالعزلة وعدم الترحيب به من قبل أبناء البلد المضيف الذين بنوا حول أنفسهم أسوارا من الرفض للآخر، أو بالأحرى التحفظ في فتح أبواب التواصل المباشر مع الآخر والتي هي ترجمة لما اصطلح عليه في علم السيكولوجي ب(الزينوفوبيا) أي رهاب الأجنبي والتوجس منه والتي تطفو على السطح بشكل أكثر بروزا في المجتمعات ذات التركيبية العشائرية والقبلية. وفي الجانب الآخر نجد العديد من السلوكيات التي يمارسها الكثير من المواطنين بحق من يعملون لديهم منطلقين في ذلك من وضعهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الانصياع لمطالبهم المجحفة كأرباب عمل، أو إلغاء عقودهم وترحيلهم إلى دولهم من غير ذنب اقترفوه سوى أنهم لم يتجاوبوا مع ذلك النوع من المطالب غير الواقعية. والتلويح بورقة إلغاء العقود الضاغطة جعلت البعض يتمادى في انتهاك حقوق إجرائه بأشكال وألوان متعددة بما في ذلك ممارستهم لأصناف متعددة من المعاملة السيئة، وعدم إعطائهم مستحقاتهم المالية، أو التأخر فيها كثيرا، أو منحهم أجورا متدنية غير منتظمة، كما أن الكثير لا يقوم بتوفير السكن المناسب لهم، وهناك من يلجأ لإجبارهم على العمل ساعات طويلة وإضافية من دون أجر، ولا يتم توفير رعاية صحية مناسبة لهم لمن يعمل لديه، وهذا الهضم في العديد من الحقوق الإنسانية والمادية يتم تحت غطاء إساءة استخدام نظام الكفيل الذي سنته الدول لتنظيم العلاقة بين الكفيل والمكفول. وبقاء الحال على هذا المنوال يؤدي إلى تداعيات سلبية تطال الوطن يأتي في مقدمتها تعميق الصورة النمطية السلبية التي يحاول البعض جاهدا إلصاقها بنا من خلال التقاط قصور هنا وهناك نتقاعس فيه عن القيام بخطوات وحلول سريعة تساهم في التغلب عليه، أو نخطئ في تقدير وقعه، والنتائج المترتبة عليه، ومن هنا فنحن بحاجة إلى المزيد من الحذر، والقيام بالعديد من الإجراءات الاحترازية، أو لنقل بشكل أكثر مباشرة ووضوحا أن الجهود يجب أن تتضافر لتنقية أجواء بيئة العمل المتاحة لغير السعودي لجعلها أكثر ملائمة لمعايير العمل الدولية، وحقوق الإنسان، وتحديثها بشكل دائم للحيلولة دون حصول اختراقات نظامية وقانونية تسمح بالإساءة، والتمييز، والانتهاك لحقوق الطبقة الوافدة العاملة على أرض المملكة. وهذه إحدى متطلبات المرحلة الراهنة التي نحاول فيها الانفتاح على العالم، وبناء شراكة فاعلة مع المجتمع الدولي، وبعد انضمامنا للعديد من المنظمات الدولية، وعقدنا العديد من الاتفاقات الاقتصادية والتجارية وعلى رأسها الانضمام لمنظمة التجارة العالمية. لذا لم يعد مقنعا الاحتجاج بأن المقيمين في السعودية لهم صفة عدم الديمومة، وأنهم يعملون بصفة مؤقتة ضمن عقود ونظم الإقامة التي تحدد فترة معينة لها في الدولة ولذلك لا يمكن أن يصنف هؤلاء على أنهم مقيمون أو عاملون مهاجرون. وهي الحجة التي تحاول المملكة ومثيلاتها دول مجلس التعاون الخليجي الاحتجاج بها دوما أمام المحافل والمنظمات الدولية مؤكدة بأن سوق العمل السعودي ذو خصوصية نادرة لابد وأن تراعى عند الحديث عن أية مواثيق واتفاقيات دولية تدعوا إلى تنظيم الحق النقابي، أو عدم التمييز، أو المساواة، أو غيرها من المبادئ والحقوق الإنسانية والنظامية للمقيمين في الدول بغرض العمل فيها. وإلى جانب هذه السلبية التي ولدت من رحم الممارسات والسلوكيات الخاطئة تأتي جوانب سلبية أخرى. إن المقيم الذي عومل بشكل غير لائق سيحمل معه لا محالة حال عودته لوطنه الأم صورة قاتمة عن المملكة وأهلها عنوانها العريض المصبوغ في كثير من الأحيان بالتعميم غير الحيادي بأنه مجتمع أبعد ما يكون أفراده عن العدالة والإنصاف مع الغير، كما أنه - وهو الأهم -يحرمنا من استقطاب كفاءات يمكن أن يكون لها إضافة ملموسة في خريطتنا التنموية؛ لأن الرسالة التي يحملها المقيم الذي كون صور سلبية من جراء فعلنا به لكفاءات من بني جلدته تنوي القدوم والعمل لدينا التحذير والرجاء بعدم الإقدام على تلك الخطوة لأنه لن ينعم بكامل حقوقه المادية والمعنوية هناك. ولا يتوقف الأمر على ذلك، بل إن تلك التصرفات تجعل المقيم لا يقدم على العمل بحماسة، وهمة، والرغبة في الإضافة فيه والإبداع بقدر يسهم في الرفع من الأداء المؤسسي لجهته التي يعمل فيها، وتجعله غير مقبل بأريحية على نقل خبراته ومعارفه إلى أقرانه السعوديين، مبديا في الوقت نفسه استعدادا لتدريبهم، وصقل مهاراتهم، ومحاولة المساهمة في الارتقاء بأدائهم الوظيفي والمهني. إن إرثنا الغني بالمروءة والأخلاق الحميدة يحتم علينا أن نعيد النظر في نظرتنا وتعاملنا مع من يقيم على أرض دولتنا، وألا ننظر لهم من زاوية الأجير وحسب، وإنما باعتبارهم شركاء حقيقيين في الانتماء، والوفاء، والولاء، والحب لهذا البلد المعطاء، وهم من ساهم مساهمة حقيقية في بناء لبناته ودفع به درجات نحو الارتقاء على مختلف الأصعدة. وعند عملنا بموجب ذلك نكون قد أوصدنا أبوابا مغلقة بإحكام أمام من يحاول تضخيم أبعاد الصورة السلبية، والمبالغة في الشكوى والتذمر، وتقديم استنتاجات وأحكام خاطئة تطال وضعية المقيم على أرض المملكة. [c1]*جريدة “الجزيرة” السعودية[/c]