لا ثقافة حقيقية خارج الثقافة التي تمجد الحياة. ولا سياسة حقيقية من دون فكر إنساني تستند إليه، ومن دون ثقافة تكون شرطاً لها، ثقافة تشكل حياة الإنسان الفرد، وحياة الإنسان الجماعة، وحريتهما وسعادتهما، موضوعها الأساسي. وتأكيداً لهذا المعنى الشرطي للثقافة وللسياسة نستحضر كلمات بالغة الدلالة لثلاثة من كبار أهل الثقافة في عالمنا المعاصر: الأول هو الأديب البناني الكبير عمر فاخوري، الذي يقول بالنص: ليس حسبنا أن نعيش كما نعيش. ينبغي أن نفكر كيف يصح أن نعيش. الثاني هو الشاعر التركي الكبير ناظم حكت الذي عنونت روايته "الرومانطيقيون" في نسختها العربية بكلمة صغيرة معبّرة من كلماته في الرواية: الحياة جميلة يا صديقي. أما الثالث فهو الشاعر العربي الكبير محمود درويش الذي قال بالأمس في مدينته حيفا، مكرراً ما قاله دائماًً وهو يخاطب أرض آبائه وأجداده فلسطين: على هذه الأرض ما يستحق الحياة. ولعلي لا أجافي الحقيقة التاريخية إذا ما قلت، فيما يشبه القطع، بأن السمة الأساسية للفكر الإنساني، منذ فجر التاريخ، وعبر العصور كلها، هي تمجيد الحياة، واعتبار أن الإنسان هو القيمة الحقيقية للوجود، وأن حقوقه وحرياته وسعادته هي محور كل المشاريع وكل الحركات الرامية إلى إصلاح حياة البشر، وجعلها دائماً أفضل مما تكون عليه. ولا تستثنى من هذا الفكرالإنساني الرسالات الدينية، التوحيدية، والأديان السابقة عليها.ربما يكون هذا الكلام تكراراً لشعارات غير ذات صلة بالواقع، منذ فجر التاريخ وحتى عصرنا الحالي. ولبعض هذا الشك ما يبرره في هذا الكلام الذي أسوقه عن الفكر الإنساني، انطلاقاً مما دلت عليه التجارب عندما كان ينتقل هذا الفكر إلى الممارسة عبر الذين حملوه. إذ أن الشواهد والأحداث و الوقائع، في هذه التجارب جميعها، قديماً وحديثاً، تشير إلى أن العلاقة بين الفكر الإنساني ورموزه وأهدافه وشعاراته، وبين الممارسة المتصلة بهذا الفكر وبرموزه والمستوحاة منه ومنهم، التي تعبر عنها السياسة والخطط والبرامج المحددة لتلك الأهداف والشعارات، والوسائل والأدوات التي تستخدم لتحقيقها، هذه العلاقة بين الفكر والممارسة كانت في الأغلب، حتى لا نقول على الدوام، علاقة مشوهة. ولا يختلف الأمر، هنا، بين الفكر العلماني والفكر الديني. وقد كان من أعظم ما ارتبط باسم كارل ماركس، استناداً إلى التجارب التاريخية التي سبقت تجربته، وكان في ذلك متميزاًًً عن سواه من كبار رموز الفكر الإنساني، هو أنه نبّه إلى ضرورة الربط الدقيق بين الممارسة والفكر. وقدم ثلاثة شروط أساسية لجعل تلك العلاقة صحيحة. الشرط الأول هو أن تظل الممارسة أمينة للفكر الذي تعبّر عنه وتسعى لتحقيق أهدافه. الشرط الثاني هو أن يظل الفكر مستقلاً عن الممارسة، أي أن يظل محتفظاً بوظيفته النقدية، من أجل تصحيح الممارسة وترشيدها. الشرط الثالث هو أن يستمر الفكر في حركة دائمة، أي أن يظل في حالة تجدد وتغيّر دائمين، وفق ما تفرضه المتغيرات، التي تأتي بها الأحداث والوقائع في مسار حركة التاريخ، من شروط جديدة. فالفكر الإنساني، بكل مكوناته، هو فكر تاريخي. ولا يستثنى من ذلك الفكر الديني بنصوصه المقدسة. وبهذا المعنى فإن من أخطر ما يقود إليه الإدعاء بثبات الفكر هو أن يتحول هذا الفكر إلى عقيدة. وعندما يصبح الفكر، في حياة البشر، عقيدة، يفقد دوره الأصلي، ويتحول إلى ما يمكن أن يكون نقيض وظيفته، وإلى ما يمكن أن يكون نقيض أهدافه المعلنة والمبتغاة.لكن "ورثة" ماركس وحملة أفكاره، أو من يدّعون ذلك، قد ذهبوا، في معظمهم، في الإتجاه النقيض لفكره، وتجاهلوا الشروط التي وضعها لهم لكي يكونوا أمناء لهذا الفكر في ارتباطهم به، عندما يتصدون لتحقيق أهدافه. إذ تحول هذا الفكر الماركسي، حامل المشروع العظيم لتغيير العالم، في تعامل الكثيرين ممن جعلوه مرجعية لهم، إلى عقيدة. وتحول المؤتمنون منهم على هذه "العقيدة" إلى "قادة" و"سادة"، بالمعنى المتداول في التاريخ وبالمعنى المتعارف عليه للقادة وللسادة. ثم حوّل هؤلاء "القادة" و"السادة" الناس في بلدانهم ومجتمعاتها إلى رعايا، أو ما يشبه ذلك، بفعل الموقع الذي وضعوا أنفسهم فيه، وبفعل الولاءات التي فرضوها على شعوبهم، تحت شعار وحدة المجتمع، كضرورة تاريخية لتحقيق البرنامج الذي حددوا هم، من دون استشارة شعوبهم، أنه البرنامج الذي سيحقق للإنسان سعادته. وهكذا فقدت الشعارات التي تمجد الحياة في فكر ماركس، وفي المشروع الإشتراكي الذي بشّر به، الكثير من معناها الأصلي ومن وظيفتها الحقيقية، في الممارسة، أي في السياسة. ووقع هذا المشروع العظيم في الهاوية، بعد قرن ونصف القرن من الإعلان عنه، وبعد ثلاثة أرباع القرن من الشروع في تحقيقه. وفي ما أسوقه، هنا، من كلام حول الإشتراكية، إنما يأتي من قبل شيوعي عتيق، في صيغة نقد ونقد ذاتي في آن. ولكنهما نقدان، وإن جاءا متأخرين، فإنهما يبتغيان الإفادة من التجربة التاريخية، بالنسبة إلى المستقبل. ولعل ذلك يكون محاولة جديدة تنتمي إلى العصر وإلى شروطه، بهدف إعادة البناء على أسس جديدة، تحترم فيها الأسس التي استند إليها ماركس في صياغة مشروعه، ويجري فيها تجاوز القديم الذي شاخ في العديد من أفكاره ومن مفاهيمه. ففي ذلك احترام منا لجهد هذا المفكر الإنساني العظيم، وأمانة منا لاستشرافه للمستقبل، وتمسكاً بمنهجه المادي الجدلي.إلا أن أخطر ما نواجهه، في هذه الحقبة الصعبة من حياتنا، في لبنان وفي العالم العربي وفي العالم، هو أن الفكرالديني، الذي حل محل الفكر العلماني الإشتراكي والمتأثر بالإشتراكية، قد ساد وسيطر على الوعي، الفردي والجماعي، وعلى حركة الأحداث. وأصبح حملة هذا الفكر الديني، ومفسرو نصوصه المقدسة، على اختلاف أنواعهم، واختلاف مشاريعهم، واختلاف استهدافاتهم فيها، واختلاف أدوات عملهم، أصبح هؤلاء في العصر الحديث، باستثناء نفر من قادة حركة النهضة والتنوير في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، أصبح هؤلاء هم الذين يقررون لشعوبنا مصائرها. وقرروا، من دون تفويض من أحد، في شكل مضمر، وحتى في شكل معلن، أن حياة الكتل البشرية الكبرى في الدينا، عموماً، وفي بلداننا على وجه الخصوص، بخلاف حياة النخب، السادة الجدد للتاريخ، هي لحظة عابرة في الطريق إلى حياة أخرى أكثر ثباتاً واستقراراً، وأكثر جدوى. وقد صدقتهم أقسام واسعة من هذه الكتل الشعبية. وانقادت وراءهم، ووراء مشاريعهم. لكن للإمام علي بن الحسين زين العابدين، رأياً في ما يدعيه هؤلاء حول الآخرة، يشبه الإحتجاج والنقد والنقض، إذ يقول: "إن بعض الناس يدعون إخوانهم إلى الجنة ويزينونها لهم. ولو كانت كما الدنيا في أيديهم لما تخلّوا لهم عن شبر واحد منها".وقبل أن أدخل في تقديم بعض الأمثلة الصارخة على ما أقول، أحب أن أؤكد بأن الفكر الديني، الذي تعبّر عنه نصوصه ورسالاته، قد تميّز، كالفكر العلماني، بالقيم الروحية التي تمجد الحياة، وتعطي للإنسان موقعه الحقيقي في الحياة، كحق إنساني وإلهي في آن، حتى وهو، أي الإنسان المؤمن، يعتبر أن الحياة الدنيا هي لحظة عبور إلى الحياة الآخرة. فهذه "اللحظة" ليست، بالنسبة إلى الدين لحظة عدم. بل هي، "لحظة" حياة حقيقية يعبّر عن جوهرها الحديث النبوي المعروف البالغ الدلالة:"الدنيا مزرعة الآخرة"، بمعنى الزرع من أجل الحياة. وفي تأكيدي هذا على القيم الروحية في الأديان إشارة واضحة إلى أن الممارسة، في الفكر الديني، كانت، لدى بعض حملة هذا الفكر، ولا تزال، النقيض المطلق، أو شبه المطلق، لقيم الدين. أقول ذلك لأبرّئ الدين مما يُمارَس باسمه تعسفاً. لكنني أعتقد أن على المستنيرين من حملة الفكر الديني، المرتبطين بقيمه، أن يدافعوا هم عن الدين ضد مشوهي قيمه. فذلك هو دورهم. وتلك هي مهمتهم ووظيفتهم. أما نحن فمهمتنا هي أن ندافع عن حقنا في الحياة، وأن نبيّن كيف أن الحركات السياسية الدينية، التي تدّعي أنها تستند إلى الدين وإلى نصوصه، وتتناقض معه ومعها، تمارس في بلداننا ما نعتبره اعتداءاً على الحياة، وتدميراً لها، واعتداءاً على حرية البشر وقمعاً متعسفاً لهذه الحرية. أكثر من ذلك، فإن هذه الممارسة تشير، بكثير من الوضوح وبالأدلة التي تقدمها الوقائع، إلى أن آخر ما يهم هؤلاء هو حياة البشر، وأنهم، بإثارتهم الغرائز عند الكتل البشرية الكبرى، قد حوّلوا هذه الكتل إلى قوى عمياء، تنقاد وراء زعاماتهم ومشاريعهم وخططهم التي تدمر للناس حياتهم. وهم، أي هذه الكثرة من الناس، عن ذلك غافلون، بفعل الإستلاب الذي يمارس عليهم، فيجعلهم في حالة اغتراب عجيبة. إن الجهل الذي يصيب الناس في معرفة أنهم أصحاب حق في حياة سعيدة في الدنيا، الجهل المطلوب تعميمه في مثل هذه الحالات، خدمة لتلك الحركات الدينية ولمشاريعها، إنما يرمي إلى جعل هذه الكتل البشرية الكبرى تبتعد عن فهم قيم الدين، على حقيقتها، وتنزلق، من دون وعي، وراء الخرافات والبدع، وتنقاد وراء هوى وهوس من يقودها، بالمفرد وبالجمع، إلى الهاوية. وبالطبع فإن وظيفة هذا الجهل والتجهيل المشار إليهما هي إبعاد هذه الكتل البشرية، المشوهة الوعي والمسلوبة الإرادة، عن الوقائع التاريخية، وإخفاء بعض النصوص الدينية عن سمعها. وأكتفي، هنا، بنصين اثنين. الأول هو ما جاء في الآية الكريمة من القرآن الكريم بالنص: "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا ما دعاكم لما يحييكم". النص الثاني هو الكلام المنسوب إلى الإمام علي بن أبي طالب، في إحدى عظاته: " إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً".الأمثلة التي أود الإشارة إلى كونها تعارض في الممارسة أسس الدين وقيمه ونصوصه وأصوله، هي ثلاثة بالغة الدلالة، أختصر بها الكثير من الأمثلة المتشابهة.المثل الأول هو ما يجري التعبير عنه في السياسة السياسية، حين لا يرى أصحاب المشاريع السياسية، باسم الفكر الديني، أن السياسة هي فن الممكن، وأن النضال لتحقيق هدف سياسي إنما يتطلب احترام المراحل، وألا تجري المغامرة في تجاوزهذه المراحل، وفي تجاوز شروطها، اختصاراً للتضحيات البشرية. فمثل هذا النمط من السياسة، ومن الأدوات المستخدمة فيه، يقود إلى جعل حياة الناس مؤجلة إلى زمن غير محدد، وإلى جعل كل ما يتصل بهذه الحياة من حرية الناس في اختيار أنماطهم فيها، مؤجلاً كذلك. وتأجيل حق الناس في الحياة، في الحالتين، هو قرار يتخذه هؤلاء، بالنيابة عن الناس، من دون استئذانهم، أي بالقسر والقهر، وبالخداع، وبالأيديولوجيا. ولهذا المثل في حياتنا العربية نموذجان صارخان. النموذج الأول هو في فلسطين. ويحمل هذا النموذج اسم حركة حماس، تحديداً، ومعها كل من يرتبط بسياساتها وبمفاهيمها، أويلتقي معها في أشكال ممارستها لسياساتها. ويتجسد هذا المثل بأبشع أشكاله، في القتال المفتعل ضد الأخوة، الذي حصد المئات من الفلسطينيين، متجاوزاً في ذلك ما فعلته إسرائيل في عدوانها المتواصل على الشعب الفلسطيني. ذلك أن ما قامت به حركة حماس في الآونة الأخيرة من عمل عسكري في غزة، تحت شعار مقاومة الإحتلال الإسرائيلي، كان، في شكله وفي أدواته وفي استهدافاته، نقيضاً لتلك المهمة الوطنية المعلنة، ونقيضاً للهدف منه، وهو تحرير فلسطين. فهذا العمل العسكري، الذي استهدف قتل الأشقاء الفلسطينيين، المختلفين مع حماس ديمقراطياً في السياسة، إنما يعني أمرين لا ثالث لهما: الأمر الأول هو الفرض بالقوة على الشعب الفلسطيني صيغة للنضال، وصيغة للهدف المبتغى من هذا النضال، وصيغة للحياة عموماً، في الحاضر وفي المستقبل، تحددها حماس بفكرها الشمولي الإلغائي، لوحدها من دون شركائها في الوطن، ممن يختلفون معها في السياسة. الأمر الثاني هو تغييب مصلحة الإنسان الفلسطيني في حاضره وفي مستقبله، وجعل هذه الحياة مرتهنة لمن يحددون، بالنيابة عن الشعب، شكلها ومضمونها. النموذج الثاني هو ما يتمثل في لبنان بسياسة حزب الله، الذي يندفع من داخله ومن خارجه باتجاه لا يتلاءم مع أطروحة المقاومة وإنجازها. وهو ما بتنا نخشى، استناداً إلى المواقف السياسية المعلنة لحزب الله، أن يترتب عليه، عملياً، تحوّل المقاومة ، نقيضاً لوظيفتها الأصلية، إلى هدف قائم بذاته، مفروض على الشعب اللبناني الإلتزام به، طوعاً أو كرهاً. وهذا ما يعرّض حزب الله اليوم إلى الإتهام بأنه يسعى بذلك إلى أن يقبض في صيغة الدولة، وربما في الدستور أيضاً، ثمن الدور الأساسي الذي لعبته مقاومته في تحرير الجنوب من الإحتلال الإسرائيلي، وثمناً لبطولات مشهودة لمقاوميه على امتداد سنوات عديدة، بما في ذلك في حرب تموز من العام الماضي. ولن يجد الذين يريدون توجيه مثل هذا الإتهام لحزب الله صعوبة في ذلك، استناداً إلى إصرار قادته المتكرر والحازم على الإبقاء على مقاومتهم ومقاوميهم وعلى سلاحهم، حتى بعد أن فقدت هذه المقاومة ضرورتها، بعد تحرير الأرض من الإحتلال. وصارت المهمة الأساسية للدفاع عن الوطن، بعد التحرير، هي مهمة الدولة ومؤسساتها، وبالأخص من هذه المؤسسات المؤسسة العسكرية. وقد يكون الهدف من هذه السياسة عند حزب الله، الذي سنظل نحترم بطولات مقاوميه، رغم اعتراضنا على سياساته حتى في المقاومة ذاتها، هو تعطيل بناء الدولة إلى أن تتوفر شروط بنائها وفق شروطه وأهدافه فيها. وقد أدّت هذه السياسة لحزب الله وأدّت علاقاته في لبنان وفي خارجه إلى تعطيل الحياة في البلاد في مرافقها كلها، وبقاء حياة الناس ومصالحهم مؤجلة، ومستنفرة، بانتظار أحد أمرين: فإما معركة يستدرج إليها العدو الإسرائيلي من جديد، فيقاومه أولئك الأبطال إياهم، لكنه، أي العدو الإسرائيلي، سيمارس، كعادته، وبوحشية قلّ نظيرها، في بلدنا قتلاً وتدميراً وتهجيراً. وهو ما يزال عدوان العام الماضي شاهداً حياً عليه. وإما إخضاع البلاد كلها للمشروع الذي يريد حزب الله وحلفاؤه أن ينتصر، ويبني الدولة اللبنانية وفق شروطه. وأية دولة ستكون تلك الدولة المعطلة العناصر الأساسية لوجودها، والمعطلة معها قيامة لبنان كوطن لكل أبنائه. إلا أن هذا الوضع الذي تعيش فيه البلاد لا يعفي أطرافاً سياسية أخرى، مختلفة عن حزب الله ومتناقضة معه، من مسؤولية تاريخية عما آلت إليه الأمور، ولو بحدود تتحرر فيها هذه الأطراف مما يبدو في سياسة حزب الله وحلفائه ذا صفة عدمية. فهذه الأطراف تصر على تمسكها ببناء الدولة على أسس ديمقراطية، وعلى جعل مؤسساتها جميعها المؤسسات الوحيدة في البلاد، من دون شريك، لا سيما ما يتصل بالمهمة الدفاعية والأمنية.المثل الثاني هو ما تعبر عنه العمليات الإنتحارية كوسيلة نضال. ففي اعتماد هذه الوسيلة، أي جعل الإنسان مساوياً للقنبلة، في النضال من أجل تحقيق أهداف مبتغاة باسم الحرية للبشر، تعبير واضح عن احتقار الحياة، واحتقار الإنسان الفرد كقيمة أساسية في الوجود. وفي قراءتي الخاصة للفكر الديني ولنصوصه، الإسلامي خصوصاً، أستطيع الجزم بأن هذه العمليات الإنتحارية هي مخالفة بالكامل للنصوص الدينية ولجوهر الدين، ومخالفة لممارسة الرسول في حروبه لنشر رسالة الإسلام، ومخالفة لنهج الخلفاء الراشدين، الذين تابعوا نشر رسالة الإسلام بعد وفاة النبي محمد. وهو الأمر الذي أكده لي عدد من رجال الدين الشيعة والسنة.المثل الثالث هو ما يتصل باحتكار أصحاب المشاريع الدينية حق التصرف بمصائر شعوبهم، وتنكرهم لحق الآخر المختلف بالوجود، ومحاولتهم فرض نمط محدد للحياة على المجتمع، بالقسر، من خلال التكفير، وممارسة القتل عند الضرورة لمن يخالف أو يختلف.إلا أن المعضلة الأساسية في كل ما أشير إليه من خلل في ممارسة أصحاب الفكر الديني لسياساتهم إنما تكمن في اعتماد العنف وسيلة أساسية لتحقيق أهدافهم. وكان يشاركهم في هذا الإتجاه أصحاب المشاريع ذات المرجعيات الفكرية العلمانية، الماركسيون منهم والقوميون، على حد سواء. وهو ما كنا، نحن شيوعيي الزمن القديم، نسميه "العنف الثوري". وقد دلت التجارب أن هذا "العنف الثوري" قد دمر الهدف الذي من أجله كان يناضل أصحاب المشاريع ضد خصومهم بهدف تحقيقه. إلا أن غياب الماركسيين والقوميين وغياب مشاريعهم في الحياة السياسية الراهنة، بسبب أزماتهم، وبسبب عجزهم عن إيجاد حلول لها، وعجزهم عن تجديد أفكارهم وسياساتهم، إن هذا الغياب لهذه القوى العلمانية هو الذي جعل أصحاب المشاريع الدينية سادة الموقف في بلداننا. إن هذه المعضلة هي جوهر المسألة التي ما يزال المعنيون بها متخلفين عن التصدي للبحث فيها ولإيجاد حلول حقيقية لها.إن طرح المسألة المتصلة بثقافة الحياة، على النحو الذي اعتمدته في هذه العجالة، يبقى ناقصاً إذا لم أشر إلى الأسباب التي جعلت هذه المشاريع تطغي وتهيمن. وأكتفي هنا بالإشارة سريعاً إلى السبب الأول المتمثل بالإستبداد في بلداننا، بأنظمته المختلفة، والتي كان نظام الطاغية صدام حسين في العراق أكثرها تدميراً لبلداننا. إلا أن للإستبداد رديفاً في هذا الأمر، هو التدخل الخارجي الفظ، الذي يتمثل في أشكال مختلفة من العدوان والحصار وممارسة القهر والظلم والعسف، من قبل دول كبيرة ضد دول صغيرة، والذي يشكل العدوان الإسرائيلي المدعوم أميركياً النموذج الأبرز والأشرس له. يشارك إسرائيل في ذلك ما يقوم به الرأسمال المعولم من قهر واستغلال واستعباد، وما تقوم به الولايات المتحدة الأميركية من تدخل فظ، كان آخر نماذجه غزو العراق. ولا يستثنى من هذا الدور السلبي ما يقوم به النظام السوري في تعامله مع لبنان ومع الشعب اللبناني، خلافاً لما يريده الشعبان اللبناني والسوري من تصحيح للعلاقات بين البلدين لصالح تطورهما وتقدمهما وتحررهما.إن هذين الإستبداد والتدخل الخارجي في شؤون البلدان الأخرى هما المصدر الأساسي لهذا الذي يسود العالم اليوم من إرهاب وحشي نادر المثال في تاريخ البشرية المعاصر، وذلك باسم الإسلام، ودائماً ضد قيمه. وهذا الإرهاب هو اليوم آفة العصر. إذ أن هدفه هو القتل من دون حساب. وهو ما يشير إليه ما حصل في الحادي عشر من أيلول في أميركا، وما شهدته وتشهده دول أوروبا. كما يشير إليه ما يحصل في العراق على وجه الخصوص. وهو أكثر الأمثلة الراهنة بشاعة. وللإرهاب المتفاقم هذا ظاهرته في بلداننا. وظاهرة "فتح الإسلام" في لبنان، المصدرة إلينا من جوارنا، تقدم تأكيداً لما أشرنا إليه.لكن المأساة التي نحن فيها اليوم لا تنحصر في كون مشاريع التغيير باسم الإشتراكية قد انهارت وحلت محلها هذه الأنماط الماضوية من المشاريع، التي تستخدم اسم الدين، وتتجاوز أصوله ونصوصه وقيمه الروحية مقاصده الخاصة فيما يعود إلى حفظ الحياة وحرية الإعتقاد. بل أن أكثر ما يدعو إلى الإستغراب والإستهجان هو أن بعض من يدعون الإرتباط بالقومية فكراً وتاريخاً ومشاريع للتحرر الوطني يسكتون عما يجري في العراق من قتل همجي للمواطنين، ويمجدون ما يعتبرونه مقاومة، وهو ليس سوى محاولات من قبل أرباب النظام القديم، الذين يفضلون تدمير العراق انتقاماً لنظامهم البائد، على الإنخراط في حل، صعب بالتأكيد في الشروط الحالية، لتأسيس الوطن العراقي من جديد، على قاعدة الحرية والإستقلال والتقدم والديمقراطية. أقول ذلك مع تأكيدي الجازم أن المقاومة هي حق مشروع لكل شعب تحتل أرضه، أية كانت المبررات لذلك الإحتلال. ولا مبررات مطلقاً لأي احتلال تقوم به دولة لدولة أخرى. إلا أن المريب في سكوت من يدعون النطق باسم القومية العربية عما يجري في العراق من إرهاب هو سكوتهم عما يواجه لبنان من إرهاب مثيل للذي يحصل في العراق. ويدافعون عن الهوس الذي وقعت فيه حركة حماس في غزة، من دون حساب للنتائج الكارثية لذلك الجنون، الذي يمجد الموت على حساب الحياة.لكن لكل مشروع سياسي سياسته التي تعبّر عنه. غير أن السياسة تتطلب دائماً الإنطلاق من الواقع، والإبتعاد عن الوهم، حتى لا تتجاوز هذا الواقع، فتدخل في المغامرة. فالمغامرة، كما تؤكد جميع الوقائع في التاريخ القديم والحديث، إنما تدمر الواقع، وتدمر معه الهدف المنشود من النضال لتغيير هذا الواقع. ولذلك فإن شرط السياسة هو أن تكون ذات صلة بالثقافة وبالفكر وبالمعرفة، وذات صلة بالواقع ذاته. وإلا فإنها تتحول إلى ديماغوجيا وشعبوية ودجل، وإلى تكفير وتخوين واحتقار للآخر، مثلما هو سائد في بلدنا لبنان، وفي سائر بلدان عالمنا العربي. وحين تصبح السياسة ملتزمة بوظيفتها الحقيقية، أي حين تستند إلى الفكر والثقافة والمعرفة، وإلى الواقع، وأن يكون هدفها تحسين حياة الناس كمهمة أساسية لها، يتحرر المجتمع من آفاته، الآفات التي تدمر مجتمعنا اللبناني، وتدمر مجتمعاتنا العربية. ذلك أن إعادة الإعتبار إلى السياسة بهذا المعنى إنما تسهم في تحرير مجتمعنا من حالة التشرذم والتفكك القائمة، التي تحوّل فيها المجتمع إلى كثرة من المجموعات المتنافرة فيما بينها بالمشاعر وبالغرائز وبالعصبيات، طائفياً ومذهبياً وسياسياً، المنقادة فيها بعض الكتل البشرية الكبرى، تلقائياً ومن دون وعي، وراء قيادات ذات مصالح خاصة لا تمثل بالضرورة دائماً مصالح هذه الكتل، ولا تمثل بالضرورة دائماً مصالح الوطن، حتى ولو ادّعت هذه القيادات ذلك. ولمثل هذا النمط من القيادات، ومن الكتل البشرية المنقادة إليها وإلى مغامراتها تلقائياً ومن دون وعي، نماذج في التاريخ الحديث، يتمثل أبرزها، من حيث خطورتها ومن حيث المآسي التي أدّت إليها، فيما عرفته أوروبا في عهد النازية والفاشية. فقد جرّ كل من هتلر وموسوليني بمغامرتهما المجنونة، ومن ورائهما كتل بشرية كبرى، العالم المعاصر إلى حرب كونية فائقة التدمير، لم تنته إلا بإزالة هذه الظاهرة العنصرية الخطيرة من الوجود. وانتصرت بزوال هذه الظاهرة الحياة على الموت. وانتصرت الديمقراطية على البربرية. غير أنني أود أن أؤكد أن مثل هذا الإنقياد الأعمى، حتى وراء قيادات تعبّر في مواقفها وفي سياساتها عن المصالح الحقيقية للشعب وللوطن، إنما يشكل بذاته خرقاً فظاً لحقوق الإنسان ولحقوق المواطن. إذ هو يجعل المواطنين رعايا، مجردين من الوعي، مسلوبي الإرادة، يسيّرون إلى حيث يراد لهم ويقرر عنهم، من دون أن يدركوا، ولو بالحد الأدنى الضروري من الوعي، أنهم أفراد أحرار، وأن لهم حقوقاً في وطنهم، وأن عليهم واجبات إزاء وطنهم، وأنهم معنيون بالمشاركة في كل ما يتصل بهذا الوطن وبالدفاع عنه، ومعنيون بالبحث عن الطريق الذي يحدد له مستقبله ويحدد لهم مستقبلهم فيه. خلاصة ما أريد قوله، في مواجهة هذا الهجوم الشرس على الحياة، الذي تكثر أشكاله وأنماطه في عالمنا العربي، هو أن الذين يدافعون عن ثقافة الحياة ما زالوا يتراجعون أما م هذا الهجوم. ويفتقدون القدرة على العمل من أجل خوض معركتهم الفاصلة دفاعاً عن الحياة، حياة شعوبهم، وحياة الافراد، ودفاعاً عن حرياتهم وحقوقهم، وانتصاراً للحق المقدس في جعل الحياة تستحق أن تعاش لأنها جميلة، كنما وصفها الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت في روايته الجميلة "الرومانطيقيون". ومن دون ذلك يحق لنا أن نتساءل باستغراب وبمرارة: ترى أي معنى للحياة، من دون فكر وثقافة وسياسة وقيم تعبر عنها وتمجدها؟ ونقول لإصحاب المشاريع السياسية الشمولية الدينية، في هذا السياق: ترى أي معنى للدين ولقيمه الروحية في المشاريع التي يقترحونها باسم الدين، إذا كانت هذه المشاريع لا تقدم برنامجاً يمجد الحياة على الأرض، ويسعى لتوفير الشروط من أجل تحقيق السعادة للبشر في حياتهم؟![c1]* مفكر لبناني[/c]
|
فكر
دفاعاً عن حقنا في الحياة
أخبار متعلقة