في الثالث عشر من فبراير 2008م الجاري أقر مجلس وزراء الإعلام العرب وثيقة بعنوان ((مبادئ تنظيم البث الفضائي الإذاعي والتلفزيوني في المنطقة العربية)). وفور الإعلان عن هذه الوثيقة انبرت قناة ((الجزيرة)) التي يديرها الإخوان المسلمون ومن خلفها بعض النخب التقليدية التي تتصدر حركات المعارضة في أكثر من بلدٍ عربي لإدانة هذه الوثيقة ، والتحريض ضدها ، والسعي إلى تقديمها في صورة ((مشروع عربي رسمي لقمع الحريات ومصادرة المعرفة)).في الاتجاه ذاته انضمت أصوات معارضة في اليمن إلى جوقة الردح والقدح التي نظمتها قناة ((الجزيرة))، وصدرت عن بعض الشخصيات المعارضة في اليمن هجمات بكل الاتجاهات ضد هذه الوثيقة . ولم تكتفِ هذه الأصوات المعارضة بإدانة هذه الوثيقة، بل أنّها تجاوزت ذلك إلى حد اتهام الحكومة اليمنية ووزير الإعلام الأستاذ حسن اللوزي بإعداد وتقديم هذه الوثيقة ( الخطيرة ) إلى الدورة الأخيرة لمجلس وزراء الإعلام العرب، في سياق مخطط تآمري تستهدف من خلاله حكومة المؤتمر الشعبي العام قمع الحريات وإرهاب حملة الفكر والرأي ،والتراجع عن الديمقراطية والعودة إلى الشمولية !؟الثابت أنّ حركات المعارضة في العالم العربي كرست في هجومها على هذه الوثيقة نهجها النخبوي الفوقي الذي يعتمد سياسة لا تحترم حق الرأي العام في المعرفة والاختيار الحر بعيداً عن أي شكلٍ من أشكال الوصاية على العقل وتزييف الوعي وتشويه الحقائق، حيث لم تقدم الأصوات المعارضة لوثيقة مبادئ تنظيم البث الفضائي الإذاعي والتلفزيوني في المنطقة العربية أية معلومات حول هذه الوثيقة، ولم تبنِ هجومها المعادي لها على قراءة موضوعية ونقد تحليلي لمضمونها.يحلو للنخب العربية المعارضة ـــ ومعظمها بقايا وامتدادات لأحزاب وحركات عقائدية وشمولية تمتلك رصيداً ضخماً من الممارسات الاستبدادية القائمة على الإلغاء والإقصاء وقمع ومصادرة الحريات ـــ أن تقدم نفسها في صورة المدافع (الأمين) عن الديمقراطية، والداعم (الحقيقي) لبرامج نشر الديمقراطية التي تسوقها وتمولها حكومات الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط.والحال أنّ وثيقة مبادئ تنظيم البث الفضائي الإذاعي والتلفزيوني في المنطقة العربية لا تتعارض مع ثوابت الخطاب السياسي لمختلف الحركات السياسية المعارضة في العالم العربي ، وبضمنها الحركات الإسلامية التي اشتهرت من خلال رموزها في المحافل الدينية والبرلمانية العربية بالدفاع عن قيم الفضيلة والقيم والأخلاق، واستخدام هذه القيم غطاءً لتسويق مشاريع ظلامية تنتهك حقوق المرأة والطفل، وتعادي الفنون والموسيقى والغُناء، وتستهدف تنميط وعي وسلوك الناس الاجتماعي وفق قوالب مغلقة وجامدة وجاهزة، وتدعو الى تكريس نمط للعيش يقوم على الإقامة الدائمة في الماضي ، وتكفير المنجزات والقيم المادية والروحية للحضارة الصناعية الحديثة، واتهام كل من يتعامل معها بالتشبه بالكفار، ومخالفة الدين ، والخروج عن عقيدة الولاء والبراء بما هي الآيدلوجيا الجديدة للإسلام السياسي .مما له دلالة أنْ يصل تهافت كثير من النخب المعارضة في اليمن والعالم العربي على الانخراط تحت عباءة برامج نشر الديمقراطية التي تمولها وتشرف عليها حكومات الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي من خلال منظمات غير حكومية، إلى حد المطالبة بدمج التحولات الديمقراطية الناشئة في العالم العربي بالمنظومة القيمية للديمقراطية في البلدان الصناعية المتطورة، والمراهنة على تدخل (الغرب الديمقراطي) من خلال حكوماته ومنظماته غير الحكومية في ممارسة ضغوط على الدول العربية التي تتبع سياسات مخالفة لبرامج وأهداف ومشاريع النخب العربية المعارضة، بذريعة الدفاع عن الديمقراطية وحماية الحريات وحقوق الإنسان.وبوسع كل من تابع الهجمة المضادة للوثيقة التي صدرت عن مجلس وزراء الإعلام العرب أن يلاحظ تناقضاً مثيراً للدهشة في موقف النخب العربية المعارضة ضد هذه الوثيقة، لجهة ميولها لاستخدام المطرقة الديمقراطية الأجنبية في الغرب ضد وثيقة مبادئ تنظيم البيت الفضائي والتلفزيوني والإذاعي في المنطقة العربية، متجاهلة أنّ قوانين حكومات الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي تمنع البث الفضائي المفتوح، وتنظم الخدمة الإعلامية التلفزيونية من خلال تقنيات مغلقة ومشفرة، وتضع أطراً أخلاقية وسياسية للبرامج الموجهة إلى المشاهدين ، إلى حد عدم السماح ببث أية قنوات فضائية تبث برامج معادية للسامية ومهددة للسلم الدولي على نحو ما حدث لقناة (المنار) التابعة (لحزب الله) والممنوعة من البث في دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية.لا أبالغ حين أقول إنّ القراءة المعمقة لهذه الوثيقة من شأنها أن تساعد على تحديد موقف واعٍ منها، بعيداً عن أساليب الإثارة والتحريض والتهييج التي تضع صاحبها والمتأثر به رهائن في منطقة اللا وعي، وما يترتب على ذلك من نتائج سلبية تكرس اغتراب المعارضات العربية عن الواقع، وعجزها المزمن عن إعادة اكتشافه وفقدان القدرة على تغييره.تنطلق وثيقة مبادئ تنظيم البث الفضائي التلفزيوني والإذاعي في المنطقة العربية من محددات واضحة تستهدف تفاعل الإعلام العربي مع عصرنا باعتباران المنطقة العربية جزء لا يتجزأ من العالم، والحرص على تعزيز التفاهم والحوار والتواصل بين الثقافات، والاستهداء بالمواثيق الدولية ذات الصلة، استناداً إلى مقتضيات التطور النوعي والتقدم التقني المتنامي في مجال الإعلام والاتصال منذ دخوله عصر الفضاء وتراجع تأثير الحدود الجغرافية، وبما يسهم في مواكبة التقدم المتسارع في تقنيات الإعلام وأساليبه وأدواته، وصولاً إلى تحقيق التوازن والتكافؤ بين قدرات العمل الإعلامي التقنية والأدائية في ظل تنامي الميول التنافسية إقليمياً ودولياً. تأسيساً على هذا المنظور أكدت الوثيقة التي ترفضها النخب اليمنية والعربية المعارضة على شفافية وعلنية المعلومات ، وحماية حق الجمهور في الحصول على المعرفة ، وحماية التنافس الحر في مجال خدمات البث والحفاظ على حقوق ومصالح منتجي خدمات البث وتوفير الخدمة الشاملة للجمهور.وعلى النقيض من الصراخ الذي صدر عن النخب المعارضة لهذه الوثيقة، وهو صراخ انفعالي تحريضي بامتياز، لم يُقدِّم المعارضون اليمنيون والعرب ما يدعمون به صحة موقفهم الرافض، سوى عبارات استهلاكية سطحية من نوع ((قمع الحريات والتراجع عن الديمقراطية والعودة الى الشمولية والاستبداد ومصادرة المعرفة)) بعيدا عن أية قراءة موضوعية للوثيقة التي تؤكد على مبادئ أساسية ذات صلة بقيم الحرية والديمقراطية والمعرفة التي يتباكى عليها المعارضون لتبرير موقفهم المعارض لهذه الوثيقة، ومن أبرز هذه المبادئ التي لا يتسع الحيز لسردها تفصيلاً تأكيد الالتزام باحترام حرية التعبير وحرية استقبال البث وإعادة البث وضمان حق المواطن العربي في متابعة الأحداث الوطنية والإقليمية والدولية وخصوصاً الرياضية منها، التي تشارك فيها فرق أو عناصر وطنية، وذلك عبر إشارة مفتوحة وغير مشفرة.. أيا كان مالك حقوق هذه الأحداث حصرية كانت أو غير حصرية.لا ريب في أنّ الحريات التي تتظاهر النخب المعارضة لهذه الوثيقة بالدفاع عنها مضمونة في مبادئها الأساسية ، الأمر الذي يدحض الادعاء بأنّ هذه الوثيقة تستهدف مصادرة هذه الحريات على نحو ما عرضت سابقا ً. بيد أنّ الصراخ الذي تميز به الخطاب السياسي المعارض لهذه الوثيقة بشأن (( القيود التي تفرضها على الحريات الإعلامية)) سرعان ما تنكشف أهدافه ودوافعه الحقيقية حين نقرأ الوثيقة جيداً، وخصوصاً الجزء المتعلق بهذه ( القيود ) المزعومة وهي عبارة عن منظومة من الضوابط المتعلقة بمصنفات العمل الإعلامي التي يتم بثها، وفي مقدمتها تأكيد الوثيقة على ضرورة احترام كرامة الإنسان وحقوق الآخر، واحترام خصوصية الأفراد والامتناع عن انتهاكها بأي صورةٍ من الصور والامتناع عن التحريض على الكراهية أو التمييز القائم على أساس الأصل العرقي أو النوع الاجتماعي أو اللون أو الدين، والامتناع عن بث كل شكل من أشكال التحريض على العنف والإرهاب مع التفريق بينه وبين الحق في مقاومة الاحتلال، والامتناع عن وصف الجرائم بكافة أشكالها وصورها بطريقة تغري بارتكابها أو تضفي البطولة على الجريمة ومرتكبيها أو تبرير دوافعها، ومراعاة أسلوب الحوار وآدابه واحترام حق الآخر في الرد ، وضمان حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة في الحصول على ما يناسبهم من الخدمات الإعلامية والمعرفية تعزيزاً لاندماجهم في مجتمعاتهم، وحماية الأطفال والناشئة من كل ما يمكن أن يؤثر سلباً على قوامهم البدني والذهني والأخلاقي أو يحرضهم على فساد الأخلاق والالتزام بالصدق والموضوعية في ما يبثه الإعلام من معلومات ووقائع وأخبار.، والامتناع عن بث ما يسيء إلى الذات الإلهية والأديان السماوية والأنبياء والرسل والمذاهب والرموز الدينية الخاصة بكل مذهب وفئة، ومنع بث وبرمجة المواد التي تحتوي على مشاهد فاضحة بما في ذلك تقييد بث المواد التي تشجع على التدخين وتعاطي المشروبات الكحولية.ثمة قيود أخرى تضمنتها الوثيقة، ومعمول بها في كل الدول المتحضرة وهو ما عجز صراخ المعارضين لهذه القيود عن إقناعنا بصواب موقفهم ورفع أصواتنا الى جانبهم ضد الحكومة اليمنية والحكومات العربية التي تخطط لقمع الحريات الاعلامية ومصادرة الحق في المعرفة والحصول على المعلومات . ويمكن تلخيص هذه القيود ببعض المعايير والضوابط والأنماط التي تؤكد الوثيقة من خلالها على الحق في إصدارها بموجب تشريعات داخلية للدولة المعنية بإصدار تراخيص البث الفضائي من أو إلى داخل أراضيها ، ومنها وضع قيود زمنية على البرامج والمصنفات التي يتم بثها ويكون محتواها لا يتناسب مع سن الأطفال، بحيث يتم عرضها في الأوقات التي لا يكون فيها الأطفال من ضمن المشاهدين . بما في ذلك الالتزام بالبيان الواضح قبل بدء البرنامج عن نوع المصنف والفئة العمرية غير المسموح بمشاهدته، أو التي يكون من غير المناسب لها مشاهدته أو التي يجب أن تكون مشاهدتها له تحت رقابة عائلية.يبقى القول إنني لم أفكر بالبحث عن وثيقة مبادئ تنظيم البث الفضائي التلفزيوني والإذاعي التي أقرها مجلس وزراء الاعلام العرب وقراءتها ، إلا ّ بعد أن ارتفع ضجيج وصراخ النخب التقليدية المعارضة في اليمن والعالم العربي ضد هذه الوثيقة التي جرى تصويرها للناس بأنها خطر داهم يهدد الحريات الاعلامية وينذر بكارثة مدمرة ستصيب العملية الديمقراطية في اليمن والعالم العربي . وعندما قرأتها تساءلت عن الأسباب التي تدفع هذه النخب الى معارضة مبادئ تنظيم البث الفضائي التلفزيوني والاذاعي ، على الرغم من انها لا تختلف عن مثيلاتها في الغرب الديمقراطي ، مع الأخذ بعين الاعتبار ان الأجندات العقائدية الجاهزة للحركات الاسلامية ، وهي أكبر المعارضات العربية يمكن أن تفرض على العقل العربي وصاية قاسية وصارمة على العقل والحرية في حال وصولها الى السلطة ، ليس أقلها تحريم الغناء والموسيقى ، على نحو ما فعلوه بالناس قبل وصولهم الى السلطة .!!ربما يكون بعض معارضي الوثيقة من غير الاسلاميين لم يقرأوها بل سمعوا عنها على طريقة ( شاهد ماشافش حاجة ) .. وربما يكون لبعض الاسلاميين الحق في معارضة الوثيقة لجهة العديد من الضوابط التي تتعلق بقيم مدنية وانسانية تتعلق بحقوق المرأة والطفل في الحصول على المعرفة ، والامتناع عن التحريض على الكراهية أو التمييز القائم على أساس الأصل العرقي أو النوع الاجتماعي أو اللون أو الدين، والامتناع عن بث كل شكل من أشكال التحريض على العنف والإرهاب والامتناع عن وصف الجرائم بكافة أشكالها وصورها بطريقة تغري بارتكابها أو تضفي البطولة على الجريمة ومرتكبيها أو تبرير دوافعها، والامتناع عن بث ما يسيء إلى الذات الإلهية والأديان السماوية والأنبياء والرسل والمذاهب والرموز الدينية الخاصة بكل مذهب وفئة على نحو ما تضمنته وثيقة مبادئ تنظيم البث الفضائي التلفزيوني والإذاعي التي تناولها المعارضون العرب بصراخ وعويل يشبهان ما يحدث في جلسات الزار .[c1]* عن / صحيفة ( 26 سبتمبر )[/c]
|
فكر
لماذا يعارضونها بصراخ انفعالي تحريضي ؟ !!
أخبار متعلقة