محمد زكريا:قال الحسينـــــــي لحج بوابة عدن ، وصفها الأمير أحمد القمندان شاعر اليمن المتوفى سنة ( 1943م ) بـــ ( لحج الخضيرة ) . ويقول انه العلامة المؤرخ محمد بن أحمد الحجري في كتابه ( مجموع بلدان اليمن وقبائلها ) حول سبب تسميتها بـــ (لحج) إنه يعود الى أسم ملك من ملوك سبأ هو لحج بن وائل بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير بن سبأ ، وفي رواية أخرى سميت لحج على أسم مسلم بن محمد اللحجي وهو من علماء الزيدية . ووصفها ( بامخرمة ) المتوفى سنة ( 540هـ / 947م ) بأنها تحتوي على قرى ، ومزارع ، ونخيل. وذكرها مؤلف مجهول بأن لحج فيحاء اليمن من كثرة بساتينها ، وغزارة مياهها العذبة ، وخصوبة أرضها . في الهواء والحقيقة أن الرحالة الأوربيين الذين زاروا وشاهدوا لحج في الثلاثينيات أمثال الرحال الألماني هانز هولفريتز وصفوا عاصمة السلطنة اللحجية الحوطة بأنها أكثر من روعة ، وأنها مدينة تستحق الإعجاب لجمال بيوتها الناصعة البيضاء ، ومساجدها الأصيلة المصبوغة بالطراز الهندي البديع . ويرسم لنا هولفريتز لوحة بديعة الشكل عن عاصمة العبادل ، عندما أقترب من بوابتها ، فقال : “ وفجأة أرتفع أمامنا في الأفق ، منظر رائع ، وكأن مسة سحرية قد أصابته ، فبعثته إلى الحياة ، أنها قصور ذات أبراج ، تشرق بيضاء لامعة ، كالمرمر وقد ارتفعت سقوفها المدورة ، وشرفاتها الرقيقة . وكان الشيء المدهش ، أن جميع هذه المناظر بدت عائمة في الهواء ، وكأنها مرسومة على نقطة انحدار السماء الزرقاء نحو الأفق “ . ويمضي في حديثه ، قائلاً : “ وقد ضمت أرق الألوان وأكثرها وداعة . وعندما اقتربنا ، أخذنا نبصر الخطوط العريضة للمدينة ببيوتها السمراء المربعة ، وقد تشابكت مع بعضها ، وثبتت أقدامها في الأرض . وتبينا سبب ما أصابنا من خداع النظر من بعيد ، فالبيوت كلها مؤلفة من أكثر من طبقة واحدة ، وجميع طبقاتها العُليا مصبوغة باللون الأبيض أما الطبقات السفلية فلونها من لون التراب ، وهذا الذي جعلها تبدو لنا من بعيد وكأنها معلقة في الفضاء “ . لحج الخضيرة ويصف الرحال الألماني كيف أن اللون الأخضر الجميل قد صبغ ريف لحج ، قائلاً : “ وتغيّر منظر الأرض أيضاً بصورة مفاجئة ، وأخذ الوادي الجاف الذي كنا نسير بجواره منذ مدة طويلة ، يبدو فيه الماء شيئاً فشيئاً الآن ، وتسيل هذه المياه نحو الحقول التي تنتشر الخضرة فيها عبر عدد من القنوات والمجاري “ . ويضيف ، قائلاً : “ وكانت هامات أشجار النخيل النحيلة ، وقد ثقلت بالأثمار المعلقة فيها ، تنحي فوقنا ، بينما اكتظت الدروب ، بأبناء البلدة ، يعودون إلى بيوتهم من أعمالهم عند مغيب الشمس . ورأيت أطفالاً سمرًا من العرب تعرَت صدورهم ، يسوقون أمامهم الأبقار إلى زرائبها ، وحيَّانا هؤلاء الغلمان تحية ودية ، بينما نظرت إلينا النسوة ، وكن يرتدين أوشحة زرقاء ، نظرات فيه الكثير من الخفر والحياء . ورأينا أمامنا بوابة واسعة من الطين سرعان ما ابتلعتنا ، فقد وصلنا إلى لحج “ .لحج و الحياة الاجتماعية والحقيقة لقد وصف الرحال الألماني هولفريتز الحياة الاجتماعية في لحج في فترة الثلاثينيات وصفاً دقيقاً ، ويعتبر وصفه هذا وثيقة مهمة عما كانت عليه لحج في تلك الفترة التاريخية في عهد حكم العبادل سلاطين لحج وعدن . ولقد لفت نظرنا أن النساء اللحجيات في الريف مثلهن مثل نساء ريف اليمن يذهبن إلى العمل في الحقول . والملاحظ أن لحج في تلك الفترة التاريخية ، كانت تموج بالحياة والنشاط الكبيرين ودليل ذلك أن دروب لحج كانت مكتظة ومليئة بالناس والحركة الكبيرين ـــ على حسب قول هولفريتز ـــ . وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على الأمن والاستقرار الكبيرين التي شهدتهما لحج في ظلال الأغلب والأعم من سلاطينها . ولقد ذكر الأمير أحمد فضل القمندان في سنة 1940م ، أنّ عدد سكان الحوطة بلغ عشرة آلاف نفس ، وهذا دليل واضح على مدى ما كانت لحج تتمتع به من استقرار وأمن وازدهار وخصوصا في الحياة السياسية والاقتصادية في ظلال حكم العبادل سلاطين لحج وعدن حينذاك “ . الرعارع والحوطة ويقول ألأمير أحمد فضل العبدلي المشهور بـ ( القمندان ) في كتابه ( هدية الزمن ) عن العاصمة القديمة للحج : “ وعاصمة لحج في وقتنا الحاضر ـــ يتحدث في فترة الأربعينيات ـــ مدينة الحوطة ، وكان الرعارع وميبه عاصمتي مخلاف لحج في أيام الزريعيين ( الذين كانوا عمالاً للدولة الصليحية في عدن ولحج ثم استقلوا بالحكم عنها ، وحكموا عدن قرابة أكثر من خمسين سنة ) ثم الأتراك ( ويبدو أنه يقصد بحكم الأتراك للحج في الفتح الأول لهم لليمن سنة 1538م ) . ويذكر أن أول من أتخذ الحوطة عاصمة للحج بدلاً من العاصمة القديمة الرعارع هم عمال الإمام المتوكل ، والإمام المنصور . وعندما أعلن الشيخ فضل بن علي العبدلي الانسلاخ عن أئمة اليمن سنة ( 1145هـ / 1732م ) أقرها عاصمة لملكه. ومنذ ذلك التاريخ الذي ذكرناه . واستمرت السلطنة العبدلية كدولة مستقلة بذاتها حتى “ ... شهر أكتوبر 1959م ، وافق السلطان الجديد ( فضل بن علي بن أحمد ) على ضم لحج كولاية إلى الإتحاد الفيدرالي . وأصبح وزيرًا للدفاع في حكومة الإتحاد ، وانتهت لحج بذلك كسلطنة قائمة بذاتها “ . الأجواء الفنية ونرى أنه من الأهمية بمكان ، أنّ نتعرف على أهم السمات التي تميزت بها ( لحج الخضيرة ) وهي الغناء والموسيقى اللحجية التي كانت ومازالت تسحر العقول والقلوب في وقت واحد بسبب كلماتها النابعة من بيئتها الأصيلة الخصبة من ناحية وأنغامها البديعة التي تدغدغ خوالج النفس من ناحية ثانية وموال الريف اللحجي الحزين الذي يصدع بالحب العذري الجميل من ناحية أخرى . والحقيقة أن الغناء اللحجي ما كان يزدهر في لحج وعدن ويتخطى حدوهما إلى آفاق واسعة من اليمن لولا أن الأجواء الفنية الرائعة التي كانت سائدة في فترة حكم الكثير من سلاطين لحج بل أن بعضاً من الأمراء كان يشارك في الطرب والغناء والعزف على آلة الموسيقى . وهذا ما أكده الأستاذ خالد صوري في كتابه القيم الذي حمل عنوان ( الفنان الرائد ، خليل محمد خليل ) عندما صحب الأخ الأكبر طه لخليل محمد خليل إلى قصر السلطان بلحج ، وشاهد بنفسه كيف كان الأمير فضل عبد الكريم يحتضن العود بهيام وانسجام كبيرين . وأن ذلك المشهد الفريد مازال منحوتاً في وجدانه بعد مرور السنون الطويلة . ولا نذهب بعيداإذا قلنا أنّ الأمير أحمد فضل العبدلي المشهور بــــ ( القمندان ) كان رائد النهضة الثقافية بصورة عامة والغناء الشعبي من ناحية أخرى . سألت العين ومن الروافد الفنية الكبيرة التي أمدت الغناء العدني ، ووضعت بصمات واضحة ومضيئة أنغامه هي الأغنية اللحجية التي ازدهرت ازدهارًا كبيرًا وذلك بفضل شعراء لحج الكبار على سبيل المثال الأمير أحمد القومندان أمير الشعر ولحن صاحب الكلمات الرقيقة التي تهز المشاعر الإنسانية هزاً عميقاً . وفي هذا الصدد ، يقول الأستاذ الفنان الكبير خالد صوري : “ بيد أن آخر أشد غراما ( يقصد بها أفلام أغاني السينما المصرية و الهندية ) لم يلبث أن تدفق من نبع محلي ولم يكن ذلك إلا سيل الأغنية اللحجية ، فقد ظهر في لحج شاعر كبير من رجال الشعر الحميني هو الأمير أحمد فضل العبدلي الملقب بالقمندان , وقد توفي عام 1943م وكان شقيق سلطان لحج وابتدع عددًا كبيرًا من الأغاني اللهجية لم تلبث أن اكتسحت الأوساط المهتمة بالموسيقى”. ومن الشعراء الكبار الذين نمو وترعرعوا على أرض لحج الخضيرة الشاعر عبد الله هادي سُبيت الذي أخرج لنا الكثير من الأغاني اللحجية التي تنساب منها عذوبة وجمال على سبيل المثال أغنية (( سألت العين )) والذي قام بتلحينها أيضاً والتي مازالت تحتفظ حتى هذه الساعة برونقها وروائها عندما تترامى إلى أسماعنا. الفل والورد والعنبر والكاذي والجدير بالذكر ، أن لحج كان يوجد بها سينما يعود تاريخها تقريباً إلى أواخر فترة الأربعينيات ومطلع الخمسينيات وكان صاحب تلك السينما والد الفنان خليل محمد خليل . كل تلك العوامل التي ذكرناها قبل قليل تعطينا فكرة واضحة عن التربة الفنية الخصبة التي كانت متواجدة في لحج الخضيرة التي أنبتت الغناء اللحجي الجميل الذي إذا سمعته من أول وهلة شعرت تلقائيًا أنه قادم من أعماق لحج الأصيلة ، فالغناء اللحجي له ملامحه الخاصة تعرفها من خلال الكلمات ، والألحان ، ونبرات الصوت اللحجي الرخيم كأنك تشم رائحة الفل ، والياسمين ، والورد ، والعنبر القادمة من لحج الفيحاء . “ نجيم الصباح “ وينقل لنا الأديب والقاص حسين سالم باصديق مقتطفات عن الأغنية الشعبية اللحجية في الزواج من ديوان ( المصدر المفيد في غناء لحج الجديد) للقمندان ، فيقول : “ وأكثر ما يغنى في مثل هذه المناسبات أغنية ( نجيم الصباح ) التي تقول: ـــ نجيم الصباح ، [c1] *** [/c] إيش جلسك بعد ما قمنا نجيم الصباح ، [c1] *** [/c] سامر على الورد والحنا نجيم الصباح ، [c1] *** [/c]سامر على الفن والمعناإلى أن يقول : نجيم الصباح ،[c1] *** [/c] نحنا معاهم وهم معنا نجيم الصباح ،[c1] *** [/c] طاب السمر كلنا طبنا نجيم الصباح ، [c1] *** [/c]إيش جلسك بعد ما قمنا أغاني الدان اللحجية والحقيقة أن أغاني الداني أو ( الموال ) اشتهرت بها لحج على نطاق واسع في اليمن ، ومن الأسباب الرئيسة في شهرة ذلك النوع من الغناء يعود إلى أن لحج ترقد في حضن الريف الأخضر الهادئ الإيقاع ، البعيد عن الضوضاء ، والضجيج و بعد أن يمدّ الليل ستاره , يجلس المزارعين والفلاحين على شكل دائرة تحت قبة السماء الصافية المطرزة بالنجوم الساطعة ، فينشدون أغان الدان الجميلة التي تعبر عما يجول في خواطرهم ومشاعرهم ، وكان من بينهم من يعزف آلة موسيقية قديمة معروفة في لحج وهي ( القنبوس وهي آلة وترية أشبه بالعود ( المصري). وكان أشهر من يعزف عليها هو الشاعر الشعبي الغنائي فضل ماطر الذي عاصر الشاعر الكبير الأمير أحمد فضل القمندان ولكن الأخير جلب معه آلة العود من الخارج . ونظرا لأهمية هذا الموضوع الذي ذكره الأستاذ حسين سالم باصديق بإسهاب وعمق حول الدان أو الموال اللحجي ، فيقول: “ وفي لحج الخضيرة حدثني أحد شيوخ الأدب والفن ، الأستاذ فضل عوض عوزر ، أن أغنية الدان هناك منتشرة ، وأنّ الشاعر الشعبي الغنائي فضل ماطر عُرف بها , وكان يعزف على ( القنبوس ) ، ولحق عهده الفنان القومندان الذي طور القنبوس وأدخل العود الذي استجلبه من الخارج ، وطور كثيراً من القصيدة الغنائية أو كما سماها الشاعر الغنائي اليمني والمطرب عبد الله هادي سُبيت بـــ ( كرمة الألحان ) ومن كرمة الألحان كانت أغنية الدان الشعبية “ . ويضيف حسين باصديق ، فيقول : “ ويجدر أن نشير إلى ما قاله القومندان مخاطباً صاحبه الفنان هادي سعد النوبي وهو مطرب قديم اشتهر بأغاني الدان ، فقال : «غن يا هادي نشيد أهل الوطن غن صوت الدان ». سلامي على الولهان ويعقب حسين سالم باصديق حول سبب تسمية القمندان للموال أو الدان اللحجي ، نشيد الوطن ، فيقول : “ فالدان في لحج الخضيرة ، كان موالاً شعبياً محلياً اعتبره القمندان لاتساع شعبيته هناك ، نشيداً لأهل الوطن ، وردد معه شعراء آخرون أغاني الدان ومنهم الشاعر الموهوب عبد الله هادي سُبيت الذي قال في قصيدته الغنائية التالية : ـــ إلاّ رد صوت الدان سلامي على من دام وافي لأحبابــــــــه [c1] *** [/c] سلامي على الولهان سلامي على من هـام والحـب وصى بـه [c1] *** [/c] على نغمة الألحــــانسلامي على الأحـلام من طرفـك النـابه [c1] *** [/c] وفي حلمي اليقظـان الفن الشعبي الغنائيوالحقيقة لقد كان للأمير أحمد فضل القومندان دور رائد في تطوير التراث الشعبي الغنائي اللحجي بصورة عامة أو بمعنى آخر أنه حمل لواء التجديد في الأغنية ولكن مع الاحتفاظ بهوية التراث اللحجي . وهذا ما أكده الكثير من النقاد الفنيين ، فقالوا بما معناه : “ ومن الأسباب الرئيسة التي جعلت الشاعر الكبير القمندان ينفرد عن غيره من الشعراء في عصره هو أنه حافظ على أصالة التراث الغنائي الشعبي وأضاف إليه ملامح عصرية تناسب إيقاع الحياة الجديدة التي عاشها حينذاك أو بمعنى آخر مزج بين الأصالة والحداثة . وهذا ما أكده حسين سالم باصديق ، إذ يقول : “ وقد طور القومندان ذلك التراث الشعبي وأدخل عليه ألواناً حديثة من الشعر الشعبي الغنائي ، وعلى الرغم من ذلك بقيت نكهة المتوارث القديم محبوبة وبقي الناس يتروحونها ( يستروحونها ) “ . ويذكر باصديق أن الفن الغنائي الشعبي تطور على يد عدد من الشعراء الشعبيين الغنائيين بعد رحيل القمندان . “ كُنا سوى في الحسيني “ ونورد ما ذكره حسين باصديق في هذا الصدد ، فيقول : “ استمرت عملية تطوير الفن الغنائي الشعبي بعد القومندان في لحج ، وظهر شعراء شعبيون غنائيون آخرون أبرزوا دورهم في قدرتهم على تقديم المزيد من أغنية الدان ، وغناها المغنون ، ورددها الناس ولا يزالون ، ومن ذلك ما قاله مهدي علي حمدون : ـــ حاشا فؤادي بسبب خِل قد حبه وعاش مفتون به في البُعد وإلاّ بقربه وقال في قصيدة الدان بعنوان : (( يا لهف قلبي )) : ـــ كثر الهوى والنوى والبعد أضناها منوه يسمح لهاوبايخفف بكاهاويشير حسين باصديق إلى كلمات الشاعر الرقيق صالح نصيب في قصيدته الغنائية تحت عنوان (( يا طير )) ، جاء فيها : “ شمسان كلم غزالك بس يترفــــــــق ما فائدة بالحنق واحنا لنا ماض أسبق كنا سوى في الحُسيني جنب ذاك الشق أنا وأنت سبق نتبادل الود بالحــــــــــق وفي الحقيقة أن الغناء الشعبي اللحجي وعلى وجه التحديد غناء الدان أو الموال تنثال وتنساب منه اللوعة ، والحزن ، والأسى ، والآهات العميقة والدفينة من صدر العاشق الولهان ولذلك فهي تهز أحاسيسنا هزاً عنيفا ، وتكاد أنياط قلوبنا تتمزق من أجله . وهذا ما أكده الأديب والقاص حسين سالم باصديق ، قائلاً : “ إنّ أغاني الدان بالفعل مؤثرة وخصوصاً وأنت تسمعها من صوت المُغني نفسه صاحب القضية وهو ينفث أناته ، وآهاته “ . لحج وأعلام الفن والحقيقة لقد زخرت لحج الخضيرة بشعراء الغناء الشعبي الكبار ، وبأصوات جميلة جسدت كلماتهم البديعة التي خرجت من القلب إلى القلب ، وكان لها دور إيجابيً في الغناء اللحجي والذي كان له تأثيرو بصماته الواضحة على الأغنية في عدن أو الغناء العدني ـــ كما ذكرنا في السابق ـــ . ولكن مع الأسف الشديد ، لم نعد نسمع عن هؤلاء الرواد سواء الشعراء الشعبيين أو المغنيين التي صدحت أصواتهم الشجية المغلفة بالون اللحجي الأصيل الذي تعرفه من أول لحظة من الكلمات ، ونبرات الصوت . وعلى أية حال ، تمكن بمجهود فردي الأستاذ لطفي حسين منيعم يشكر عليه . أنّ يجمع في كتاب بعنوان (( الغناء اللحجي )) أعلام بعض الشعراء الغنائيين الشعبيين وأيضاً المطربين الذين كانوا كواكب مضيئة في سماء الغناء اللحجي والذين مازالوا يحتلون مكانة كبيرة في قلوب الناس بالرغم من غيابهم عن مسرح الحياة . تعرفت على الشاعر الرقيق والأنيق بكلماته عن كثب في منتصف سنة 1984م ، عندما كان يزور الأستاذ الصحفي الكبير الراحل شكيب عوض رئيس القسم الثقافي في “ 14 أكتوبر “ ـــ رحمهما الله ـــ . ولفت نظري الخطوط الغائرة التي حفرها الزمان على وجهه الطيب . وكان الشاعر حمود نعمان قبل أن يسلم قصيدته الغنائية لنشرها في الصحيفة ، كان يقرأها أو قل إن شئت يترنم بكلماتها العذبة النابعة من القلب التي أثقلته الأيام والسنون الطويلة . وأتذكر في يوم من الأيام ، أن الشاعر الكبير حمود نعمان كتب قصيدة ـــ ولكنني مع الأسف ــــ ليست حاضرة في ذهني في هذه الساعة ، وكانت آخر قصائده قبل رحيله عن مسرح الحياة المكتظة بالقلق ، والأرق ، والعذابات . فقرأ قصيدته تلك بصوت هادئ كأنه قادم من أعماق المجهول ، وقد اختلط صوته الواهن الضعيف بالعبرات ، وكأنه يودع آخر أعماله الفنية في حياته أو آخر أبنائه ، وأقصد آخر قصائده . وبعدها بأيام قليلة ، سمعنا برحيله . وكيفما كان الأمر ، فإن والحقيقة أن الشاعر الكبير والمبدع حمود نعمان كانت له أيادي بيضاء على الحياة الثقافية اليمنية عامة من ناحية وعلى الأغنية الشعبية اللحجية بصورة خاصة من ناحية أخرى . عبد الله هادي سُبيت والحقيقة أن تلك المشاهد السياسية أثرت على شاعرنا الكبير حمود نعمان الذي كان في شرخ الشباب متحمسا ومتعطشاً للثورة ضد البريطانيين وسياستهم المتغطرسة فشارك في إصدار الكثير من النشرات السياسية التي تندد بهم . وكان شاعرنا حمود نعمان إلى جانب قصائده الثورية الوطنية يكتب القصائد التي تحمل في ثناياها روح الدعابة ، وخفة الدم . فقد بعث بقصيدة إلى الشاعر الكبير عبد لله هادي سُبيت الذي كان سكرتيرًا للسلطان علي عبد الكريم حينذاك ، فيقول فيها : يا صباح الخير يا أستاذنا [c1] *** [/c] قد وصلنا اليوم ولا عادنابالصراحة كيه بالله قلنا [c1] *** [/c] كلنا في مـا مضى متساويين إنّ صدق وعدك بأنك مننا [c1] *** [/c] أنت من عندك ونحن من عندنا والقضية كلها في سوحنا [c1] *** [/c] بانسوي شرح يرضي اللاعبين وعن عمر ناهز 77 عامًا رحل عنا شاعرنا الشعبي الكبير حمود نعمان في سنة 1997م بعد مشاركته القوية في مسيرة الغناء الشعبي اللحجي من ناحية ومساهمته الفعالة في الحياة الثقافية بصورة عامة من ناحية أخرى ــ كما قلنا سابقاً ــ . ونأمل من الجهات المعنية بالحياة الثقافية في لحج البحث عن قصائد الشاعر حمود نعمان ، وتجميعها وإصدارها في ديوان ، ونأمل أن يصل اقتراحنا هذا إلى مسامع المسئولين في لحج وبذلك نكرم رائد من رواد الشعر الغنائي اللحجي .“ ياباهي الجبين “ونتواصل مع الفنانين المبدعين الكبار في لحج الخضيرة ، لحج الفن والمعنى التي أنبتت الكثير من الشعراء الشعبيين ، المطربين ، والملحنين من تربتها الفنية الخصبة المليئة دائماً بالخير والعطاء والحب ، ومن هؤلاء المغنين الذين كان لهم حضورً قوي وبارز على مسرح الغناء اللحجي وحتى هذه اللحظة الفنان الكبير صاحب الصوت الرخيم محمد صالح حمدون الذي أشجانا بأغانيه الجميلة والتي مازالت متلألئة ومتألقة إلى يومنا هذا على سبيل المثال أغنية سألت العين ، يا باهي الجبين ، يا ربيب الحب ليه هذا الجميل ، لما متى يبعد وهو مني قريب ، ومن أغانية الوطنية التي كان لها وقع كبير ، وأثر عظيم على نفوس الشباب المتحمس للثورة في إبان الكفاح المسلح أغنية يا شاكي السلاح بل أن تلك الأغنية الحماسية الوطنية رددتها مختلف شرائح المجتمع في جنوب اليمن حينذاك . ولقد بدأ مشواره الفني في سنة 1957م ، وهو في التاسعة من العمر ، والتقى بالشاعر الكبير عبد الله هادي سُبيت الذي أعجب بصوته ، فقدم له بعض من مقاطع أغنية سألت العين ومنذ تلك الفترة التاريخية من عمره خطا خطوات واسعة في ميدان الغناء والألحان ، وتوالت أغانيه البديعة التي ذكرناها قبل قليل . والحق يقال أن الفنان الكبير محمد صالح حمدون صاحب صوت متميز ، وإحساس متدفق يعشق الغناء ، لا يتكلف في الأداء ، تلقائية مدهشة في الغناء ، ويعد فنانا الكبير محمد صالح حمدون هامة عالية في سماء الفن اليمني . إبراهيم راسم ومن الشخصيات الهامة التي لها أيد بيضاء على الحركة الفنية في لحج الخضيرة هو إبراهيم راسم . وتذكر المصادر التراثية اللحجية أنه ولد في مدينة أزمير بتركيا سنة 1898م . وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى بين السلطنة العثمانية وألمانيا من جهة وإنجلترا وفرنسا من جهة أخرى . زحفت القوات العثمانية المرابطة في اليمن في سنة 1915م بقيادة القائد العثماني علي سعيد باشا الذي سيطر على مدينة الحوطة . على أية حال ، فقد استمرت الحرب بين القوات العثمانية المرابطة في لحج والقوات الإنجليزية في عدن أربع سنوات . وبعد هزيمة السلطنة العثمانية وانتصار الحلفاء ( إنجلترا وفرنسا ) عليها . انسحب العثمانيين من لحج , ولقد فضل بعض الضباط والجنود العثمانيين البقاء في لحج والدخول في خدمة سلاطين العبادل بل أن الكثير منهم صاهروا أهلها ، وصاروا جزءا لا يتجزأ من نسيج المجتمع اللحجي . ويبدو أن هذا ما دفع وشجع إبراهيم راسم على العمل في الفرقة الفنية الموسيقية الخاصة بالسلطان عبد الكريم فضل بن علي ( الثاني ) ( 1918ــ 1947م ) الذي حكم السلطنة اللحجية 29 عامًا . في النهضة الفنية وكيفما كان الأمر ، فإن المصادر التراثية تذكر أن إبراهيم راسم “ علم موسيقي وأستاذ تربوي ، وصاحب فضل كبير في النهضة الصحفية لعدن ، ارتبط برباط المودة والإخاء بالأمير أحمد فضل القمندان ، والشاعر صالح مهدي حين احتضنته الحوطة مدرساً للموسيقى للفرقة السلطانية إبان سلطنة عبد الكريم “ الذي ذكرناه قبل قليل . فكل تلك المؤهلات الثقافية والفنية التي لديه أهلته أن يكون له دور كبير وفعال في تأسيس النهضة الفنية في لحج ـــ كما ذكرت المصادر التراثية ـــ . ويبدو أن إبراهيم راسم قدم إلى لحج من تركيا بعد أن سمع عنها وعن سلاطينها الذين يشجعون الحياة الثقافية والفنية من ناحية وأن مدينة عدن تموج بالحركة الثقافية المتمثلة بصحفها المختلفة والمتنوعة من ناحية أخرى . وتورد المصادر التراثية رحلة إبراهيم راسم إلى لحج واستقراره فيها ، فتقول : “ ولد إبراهيم راسم في مدينة ( أزمير ) الساحلية بتركيا عام 1898م لأبوين تركيين ، وكان أبوه ضابطاً في الجيش ، فتعلم في مدارسها اللغة التركية ، والعربية ، والحساب ، والجبر ، وفن الخط ثم التحق بفرقة أبناء الضباط الموسيقية ودرس علوم الموسيقى ثم خرج إلى اليمن ونزل في الحديدة , ومنها مر إلى تعز ثم لحج واستقر في الحوطة حوالي 26ـــ 1927م إبان حكم عبد الكريم فضل حيث التحق بالفرقة الموسيقية السلطانية ليدرس أفرادها الموسيقى “ . في غناء لحج الجديد ويفهم من ذلك أن إبراهيم راسم وضع اللبنة الموسيقية الأولى الصحيحة العلمية في لحج حيث درس النوتة الموسيقية التي لم تكن معروفة بصورة واسعة بين أصحاب اللحن والطرب . ومن إنجازاته القيمة هو أنه قام بجمع وإعداد قصائد القمندان الشعرية المختلفة وأصدرها في كتاب بعنوان ((ديوان الأغاني اللحجية )) في سنة 1938م . هذا وقد طبع هذا الكتاب في حياة الأمير أحمد فضل القمندان . وأما الإصدار الثاني لقصائد القومندان الذي أصدره إبراهيم راسم ، بعد رحيل القومندان . فقد حمل عنوان(( المصدر المفيد في غناء لحج الجديد )) . وفيه يقول إبراهيم راسم : “ وكم أتمنى أن يساعدني الحظ فيهيئا ( فيهيئ ) لي فرصة أن أسجل فيها الأغاني القمندانية بالعلامات الموسيقية النوتة ليسهل تناولها وليمتع من حرم منها “ . يا محلىَ ذا الجميل محلىَ ولقد كتب صاحب صحيفة “ النهضة “ ورئيس تحريرها عبد الرحمن جرجرة عن عشق إبراهيم راسم لحوطة القمندان ـــ على حسب تعبيره ـــ ، فيقول : “ لقد تعلق قلب الأستاذ إبراهيم راسم بحوطة القمندان ، وبلغ ذلك أن اقترن بإحدى بناتها وهي شقيقة زوجة الشاعر حسين عبد الباري الذي شكل ثنائياً جميلاً مع الأستاذ حسن عطا وغنى له ( منقب صدفة لاقيته )وأيضاً ( يا محلىَ ذا الجميل محلىَ ) وغيرها من الروائع الغنائية “ . الهوامش : العلامة المؤرخ القاضي محمد بن محمد الحجري اليماني ؛ مجموع بلدان اليمن وقبائلها ، المجلد الثاني ( الجزء الثالث ) ، تحقيق ، وتصحيح ، ومراجعة القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ، الطبعة الأولى 1404 هـ / 1918 م ، منشورات وزارة الإعلام والثقافة . أحمد فضل العبدلي ؛ هدية الزمن في أخبار ملوك لحج وعدن ، حققه وضبط نصه ، وعلق عليه أبو حسان خالد أبا زيد الأذرعي ، الطبعة الأولى 1425 هـ / 2004م ،الناشر : مكتبة الجيل الجديد ، اليمن ـــ صنعاء ـــ . هانز هولفريتز ؛ اليمن من الباب الخلفي ، تعريب خيري حماد ، الطبعة الثالثة 1985م ، المكتبة اليمنية للنشر والتوزيع . الجمهورية العربية اليمنية.خالد صوري ؛ الفنان الرائد خليل محمد خليل ، سنة الطبعة 2003م ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر . عدن ، الجمهورية اليمنية . حسين سالم باصديق ؛ في التراث الشعبي اليمني ، الطبعة الأولى 1414 هـ / 1993م . إعداد وتوثيق مركز الدراسات والبحوث اليمني ـــ صنعاء ـــ . حسن صالح شهاب ؛ العبادل سلاطين لحج وعدن ، مركز الشرعبي للطباعة والنشر والتوزيع ـــ صنعاء ـــ .لطفي حسين منيعم ؛ الغناء اللحجي ، الطبعة الأولى 1421 هـ / 2000 م ، مركز عبادي للدراسات والنشر ــ صنعاء ـــ الجمهورية اليمنية ــــ .
لحج