في كتابه الصادر بالفرنسية في باريس بعنوان (( التأزم الخطير للعالم الإسلامي )) يحاول مؤلفه عبد الوهاب المؤدب ان يشخص المرض العضال الذي نعاني منه حاليا والذي تفاقم مؤخرا وادى الى تفجيرات 11 سبتمبر (ايلول) 2001. والمؤلف المذكور هو شاعر وكاتب تونسي يكتب بالفرنسية ويقيم في باريس منذ سنوات عديدة. وهو استاذ الادب المقارن في جامعة باريس العاشرة (نانتير)، كما انه رئيس تحرير مجلة دولية تدعى "ديدال" اي متاهة باللغة الفرنسية. يضاف الى ذلك انه يشرف على برنامج بعنوان "ثقافات الاسلام" في اذاعة فرنسا الثقافية. ويبدو انه شعر، كمعظم المثقفين العرب المقيمين في الخارج، بل كمعظم ابناء الجاليات العربية والاسلامية، بنوع من الغضب والهم بعد احداث 11 سبتمبر. ولذلك امسك بالقلم وراح يعبر عن انفعالاته ومشاعره تجاه حدث ضخم من هذا النوع. فهو كعربي او كمسلم يشعر بأنه معني بالدرجة الاولى لان الانظار تتركز عليه وكأنها تسأله: لماذا فعلتم ذلك بنا؟ من انتم بالضبط؟ وهل يقر دينكم مثل هذه الاعمال؟ اقصد بذلك بالطبع انظار الفرنسيين او الغربيين بشكل عام.وبما ان عبد الوهاب المؤدب معتز بأصوله العربية الاسلامية ويحب تراثه وبخاصة في جانبه الروحي والصوفي والشعري منه، فإنه لم يستطع ان يكبت غضبه وانفعاله فكان هذا الكتاب. انه كتاب صادر من الاعماق ويشعر القارئ بلهجة الصدق فيه وبالكثير من الغيرة على المصلحة الاسلامية والعربية. ولهذا السبب فإنه لا يجامل ابناء قومه وانما يواجههم بالحقيقة المرة منذ الصفحة الاولى. يقول بالحرف الواحد:ان التفجيرات الهائلة التي حصلت يوم 11 سبتمبر والتي اصابت الولايات المتحدة في الصميم هي جريمة. انها جريمة اقترفها اصوليون متطرفون، لكن لا ينبغي ان نفصل جريمة 11 سبتمبر عن بقية الجرائم السابقة لها والتي ادت الى سقوط مائة وخمسين الف قتيل في الجزائر مثلا، او الى اغتيال عشرات المثقفين والاشخاص العاديين في مصر والسودان وايران وافغانستان وباكستان.. الخ.وميزة المؤلف هي انه لا يكتفي بمعالجة ظاهرة التزمت من خلال الزمن القصير والاحداث الجارية كما يفعل الصحافيون عادة. وانما يموضعها ضمن منظور طويل وشريحة زمنية تعود الى الوراء مدة ألف سنة على الاقل! وهذه هي المعالجة الجذرية لظاهرة الاصولية. فلكي نفهمها جيدا ينبغي ان نعود الى جذورها العميقة التي تنغرس في ماضينا العربي الاسلامي ذاته.ونفهم من كلام عبد الوهاب المؤدب ان النصوص الدينية المقدسة في الاسلام وغير الاسلام يمكن ان تقرأ بوجهين. فإذا ما اخذنا النص على حرفيته فإنه يمكن ان نجد فيه آيات تدعو للعنف، ويمكن ان نجد فيه آيات اخرى تدعو للعفو والرحمة والمغفرة، والثانية اكثر من الاولى في القرآن الكريم على عكس ما يظن الجهلة في الغرب والشرق على حد سواء. ومن الواضح ان الحركات الاصولية المتزمتة لا تأخذ الا بالآيات الاولى ولا تركز الا عليها لتبرير التفجيرات الارهابية التي تقوم بها تحت اسم الجهاد.هذا يعني ان القراءة المتزمتة للنصوص الدينية واردة، مثلما ان القراءة المنفتحة او المسؤولة واردة ايضا. ولكن حتى الآيات التي قد تخلع المشروعية على مشاريع الاصوليين ظاهريا، يمكن ان نقرأها بطريقة اخرى تسحب البساط من تحت اقدام هؤلاء الاصوليين بالذات. كيف؟ عن طريق الاستعانة بكبار المفسرين الكلاسيكيين الذين كانوا اكثر عقلانية واحساسا بالمسؤولية من جهلة الاصوليين اليوم.ويمكن ايضا ان نقرأها على ضوء العقلية الحديثة التي تعرف كيف تميز بين الاشياء وكيف تجعل المضمون العنيف لهذه الآيات نسبيا عن طريق ربطها بسياقها الزمني والتاريخي. فما كان ينطبق على بدايات الاسلام وضمن ظروف معينة لا ينطبق بالضرورة على ظروفنا الحالية التي اصبحت مختلفة تماما.وبالتالي فإن الاصوليين يتلاعبون بالآيات على هواهم ولخدمة آيديولوجيتهم العدوانية، هذا في حين ان كبار المفسرين الكلاسيكيين وكبار الفقهاء ايضا كانوا حذرين جدا عندما يتعلق الامر بمسائل حساسة كالتكفير او الدعوة للجهاد او تبرير العنف والاغتيالات. وما كانوا يلقون الكلام على عواهنه كما يفعل فقهاء الظلام اليوم.ولكن التيار المتزمت والعنيف وجد دائما في تاريخ الاسلام بالاضافة الى التيار العقلاني او الروحاني الصوفي. وقد ادى الى الكوارث وارتكاب المجازر اكثر من مرة على مدار التاريخ. كما انه خنق حرية التفكير اكثر من مرة. وبالتالي فلا يمكن اتهام الاسلام ككل بالتعصب كما يفعل المغرضون والمعادون وانما فقط احد تياراته. فما علاقة ابن عربي بالتعصب او ابن رشد مثلا؟ ولكن التزمت حصل في اوروبا ايضا اثناء سيطرة المسيحية وبخاصة في مذهبها الكاثوليكي.وهنا يستشهد عبد الوهاب المؤدب بفولتير وموقفه الحازم من الاصوليين الكاثوليكيين الذين ارتكبوا مجزرة سانت بارتيليمي الشهيرة بحق ابناء وطنهم البروتستانتيين، وكان ذلك عام 1572، اي في اواخر القرن السادس عشر. ثم استمرت المجازر المذهبية او الطائفية في فرنسا طيلة قرنين من الزمن: اي حتى نهايات القرن الثامن عشر. بعدئذ حصل تنوير العقليات وتراجع التعصب كثيرا بالقياس الى ما سبق حتى اختفى نهائيا من البلدان الاوروبية المتقدمة.ولكن بما ان التنوير الفكري لم يحصل حتى الآن في العالم الاسلامي فإن الفهم المتزمت للدين لا يزال هو سيد الموقف. واصبحت الفتاوى العشوائية او الفوضوية تنهال علينا من كل حدب وصوب. فكل شيخ صغير او كبير يمكن ان يدلي بفتوى تأمر بقتل هذا او تحلل دم ذاك، او تكفر شخصا ثالثا.. الخ. وهذا الوضع اصبح خطيرا جدا ويهدد السلام الاجتماعي ليس فقط في العالم العربي والاسلامي وانما في العالم ككل، بل يعيدنا الى محاكم التفتيش التي كانت اوروبا قد تجاوزتها منذ مائتي سنة على الاقل.ثم يحاول عبد الوهاب المؤدب ان يفهم سبب هذا الوضع الفكري والاجتماعي البائس الذي وصلنا اليه. ويرى ان هناك اسبابا داخلية واخرى خارجية ادت الى شيوع التزمت وتفاقم الوضع. ثم يبتدئ بتحليل الاسباب الداخلية لانه لا يريد ان يتهرب من المسؤولية، كما يفعل الكثير من المثقفين العرب الغوغائيين أو الديماغوجيين. فهو يريد ان يكنس امام بيته اولا قبل ان يتهم الآخرين ويلقي عليهم بمسؤولية ما حصل، وهذا موقف جاد ومسؤول لمفكر عربي ينخرط في نقد الذات ولا يتوانى عن قول الحقيقة حتى ولو كانت جارحة او قاسية بالنسبة لأبناء قومه او دينه.في الواقع ان هذا الموقف النقدي من الذات هو ما نحتاجه الآن، لان صديقك من صدقك القول لا من صدّقك على طول الخط وجاملك وراوغك. وقد مللنا من تلك الخطابات الآيديولوجية المستهلكة لمعظم المثقفين العرب الذين يرفضون ان يتحملوا مسؤولية ما يجري ويلقون بالتبعة دائما على الامبريالية والاستعمار.. الخ. وهذا موقف لا مسؤول، ولا يؤدي الى اي نتيجة ايجابية. فمن الواضح ان العرب او المسلمين لن يتقدموا الا بعد ان ينخرطوا في عملية نقد جذرية لتراثهم وتاريخهم وماضيهم المتراكم.وفي ما يخص الاسباب الداخلية للمرض الذي نعاني منه اليوم يرى عبد الوهاب المؤدب ما يلي: ان العالم الاسلامي لا يزال حتى الآن يتأسف على انهيار حضارته الكلاسيكية وسبق الآخرين له، انه لم يفق من هول هذه الصدمة حتى الآن. فهو لا يفهم كيف يمكن للمسيحيين الاوروبيين ان يتفوقوا عليه ويصبحوا اساتذته واسياده بعد ان كان هو استاذهم وسيدهم. هذا الوضع المعكوس لا يستطيع المسلم ان يهضمه حتى الآن.فمن الواضح ان الحضارة العربية ـ الاسلامية كانت رائعة وتشكل منارة لبقية الشعوب، خاصة الشعوب الاوروبية. ولكنها انهارت وزالت واصبحت في خبر كان.. ولهذا السبب فإن المسلم اصبح منفعلاً لا فاعلاً، ومقوداً لا قائداً. وهذا الشيء لا يستطيع ان يفهمه ولا أن يقبله لأنه يعتبر نفسه بمثابة الممتلك للاعتقاد الصحيح والآخرين على ضلال. فكيف اتيح لهم ان يسبقوه اذن وهو المفضل عند الله؟ على هذا النحو وقع العربي أو المسلم في ما يدعوه عبد الوهاب المؤدب بمشاعر المرارة والإحباط والنقمة على الآخرين الذين سبقوه حضارياً. وهي مشاعر هدامة ومدمرة ولا تؤدي الى اخراجنا من وهدة الانحطاط اذا ما اكتفينا بها او توقفنا عندها. ولكنها قد تدفع بالمتزمتين فينا الى ارتكاب مالا تحمد عقباه: تفجيرات 11 سبتمبر مثلاً.لقد كنا مركز العالم حضارياً بين القرنين التاسع والعاشر (بغداد العباسية)، ثم القاهرة الفاطمية (القرن الحادي عشر)، ثم القاهرة المملوكية (بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر). هذا دون أن ننسى قرطبة والأندلس الزاهرة.بعدئذ انتقل مركز الحضارة الى اوروبا وعبر المتوسط الى الضفة الاخرى المقابلة لنا. لقد انتقل الى جنوا وفينيسيا اولاً، قبل ان يبتعد كثيراً عن العالم الاسلامي ويصل الى امستردام في القرن السابع عشر، ثم الى لندن في القرن التاسع عشر، ثم الى نيويورك في القرن العشرين. بعدئذ هجرتنا "الروح" كما يقول هيغل، او الحضارة كما يقول الآخرون ولم تعد الينا قط. ونحن حتى الآن لا نزال نندب حظنا ونبكي ماضينا الغابر وحضارتنا المجيدة التي توقفت وهي في اوجها.ويرى عبد الوهاب المؤدب ان القصور الحضاري دب في عروقنا وشروشنا بدءاً من القرن الرابع عشر. ولكننا لم نشعر بنتائجه وآثاره الا بعد ان استيقظنا على وقع جحافل نابليون بونابرت في نهايات القرن الثامن عشر. عندئذ ادركنا ان الآخرين سبقونا فعلاً، وبمسافات شاسعة، في جميع الميادين: من عسكرية وتكنولوجية، وعلمية، واقتصادية، وثقافية، وسياسية..والواقع ان عصر التنوير هو الذي فصل ليس فقط بين الغرب وبيننا، وانما بين الغرب وجميع الحضارات البشرية الاخرى كالحضارتين الصينية او الهندية او سواهما. فبدءا من تلك اللحظة، اي بدءاً من القرن الثامن عشر، اصبحت اوروبا في واد، وبقية العالم في واد آخر. وبدءا منها اقلعت اوروبا حضارياً وتفوقت على العالم كله، بل سبقت عالم الاسلام بسنوات ضوئية.ثم ينتبه المؤلف الى نقطة اساسية واعتقد انه اخذها عن العالم المصري رشدي راشد. وهي تقول بما معناه: لقد وصل العالم الاسلامي في تطوره العلمي والفلسفي الى عتبة الحداثة الاوروبية ثم انقطعت حضارته فجأة وتوقفت. وانه لشيء مؤلم هذا التوقف في آخر لحظة. ما هي هذه العتبة التي وصلنا الى حافتها ثم سقطنا دونها او تراجعنا عنها؟ انها تتمثل بكل بساطة بثورة العلم الحديث التي تحققت على يد الاسماء الاربعة التالية: كوبرنيكوس، كيبلر، ديكارت، غاليليو. كان يمكن ان نقوم نحن بهذه الثورة لولا انهيار حضارتنا في آخر لحظة.ثم يشير المؤلف الى سبب آخر داخلي ادى الى انهيارنا الحضاري وهو: انتصار اهل التقليد والتفسير الحرفي على المعتزلة بعد معركة ضارية استمرت منذ عهد المأمون وحتى عهد المتوكل. بعدئذ قصم ظهر المعتزلة ـ اي المذهب العقلاني والتأويلي في الاسلام ـ ولم تقم لهم قائمة حتى الآن. ولهذا السبب فإن الحركات الاصولية المتزمتة تسيطر على الشارع الاسلامي بكل هذه الكثافة. فالتيار العقلاني كان قد اجهض وحورب الى درجة انه اختفى نهائياً من الساحة. والانسداد التاريخي ناتج عن ذلك.وهكذا توهم الناس ان الاسلام يختزل فقط الى التيار الحرفي المتشدد، وانه كان دائماً هكذا، وسيظل هكذا الى ابد الآبدين. لا احد يذكر ان الاسلام كان تعددياً في الفترة الكلاسيكية الحضارية، فترة العطاء والانتاج والمناقشات الكلامية والفلسفية. كل الناس يعتقدون ان الاسلام هو هذا التيار المتزمت وكفى.هناك سبب آخر ايضا لانهيارنا الحضاري وهو اقتصادي مادي. فقد تحولت الخطوط التجارية عن منطقتنا لصالح اوروبا بدءاً من القرن الحادي عشر. وضمرت بورجوازيتنا بالتالي، وكانت هي الداعمة للخط العقلاني في الاسلام سواء أكان لاهوتياً على طريقة المعتزلة، ام فلسفياً على طريقة الفلاسفة والادباء الكبار من امثال: الكندي، والفارابي، والجاحظ، والتوحيدي، وابن سينا، وابن رشد، والمعرى، وابي نواس، وابي بكر الرازي، وآخرين عديدين.وفي العصر الحاضر اجهض التيار العقلاني مرة اخرى. فالفكر التجديدي للامام محمد عبده وجمال الدين الافغاني وعلي عبد الرازق وسواهم هزم امام فكر حسن البنا وجماعة الاخوان المسلمين. وكانت النتيجة ان حصدنا ما حصدناه: اي الصعود الذي لا يقاوم لحركات التزمت والانغلاق الفكري. وبالتالي فهناك اسباب قريبة وبعيدة لهذه الهزيمة الحضارية المتواصلة منذ عدة قرون. واما في ما يخص الاسباب الخارجية للمأساة العربية والاسلامية الراهنة فتعود الى عدة عوامل ايضا. نذكر من بينها خيانة الغرب لمبادئ التنوير وحقوق الانسان وتغليب مصالحه عليها في كل مرة يضطر فيها الى الاختيار بين المبادئ والمصالح.ونذكر من بينها ايضا استعمار فلسطين وموافقة الغرب على هذا المشروع اللاأخلاقي بشكل صارخ. وهنا ايضا فإن الغرب خان مبائ التنوير والعدالة. ثم يطرح عبد الوهاب المؤدب عدة اسئلة متلاحقة على الاميركان والاسرائيليين ويقول لهم: لماذا لا تضغط اميركا بكل ثقلها لايجاد حل عقلاني بين فلسطين واسرائيل، حل يؤدي الى اقامة دولة فلسطينية بجانب الدولة الاسرائيلية مع القدس كعاصمة مشتركة؟ الا تكفي جريمة 11 سبتمبر لكي تفتح اميركا عينيها؟ لماذا لا تجبر اميركا اسرائيل على تفكيك مستوطناتها الاستعمارية؟ لماذا لا تعترف اسرائيل بالمسؤولية الاخلاقية عن تهجير الفلسطينيين من ديارهم؟ لماذا لا تعترف، مجرد اعتراف، بأن تأسيسها كان السبب في التراجيديا الفلسطينية التي شغلت القرن العشرين كله؟اسئلة متلاحقة يطرحها عبد الوهاب المؤدب وهو لا يكاد يتمالك نفسه من الغضب! وهو يطرحها من منظور الايمان بالسلام والاعتراف بالواقع الاسرائيلي بشرط تأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة إلى جانبه واعادة الاعتبار الى هذا الشعب المنكوب الذي اقتلع اقتلاعاً من جذوره، وتاريخه وارضه.واخيراً فإنه يتفق مع ارنست رينان على القول بأنه اذا كانت الأديان تفرق بين البشر، فإن العقل يجمع بينهم لأنه لا يوجد الا عقل واحد. وهذا صحيح فالمنهجية العقلانية المستخدمة في كلية العلوم في هارفارد هي نفس المنهجية المستخدمة حالياً في جامعات بكين او طوكيو او الرياض او باريس او الرباط.. الخ. نعم هناك وحدة للروح البشرية وينبغي التركيز عليها وتنمية الحوار التفاعلي بين الثقافة الاسلامية والثقافات الاخرى. نعم ان المستقبل هو للحضارة العربية الاسلامية المتجددة والانسانية.[c1]* كاتب مصري[/c]
|
فكر
عوامل داخلية وراء التأزم الخطير للعالم الإسلامي
أخبار متعلقة