أكرم البني * [email protected] ربما يصح القول إن الحرب على لبنان، وما رافقها من تصريحات لمسؤولين أميركيين وزعماء إيرانيين، بدت أشبه باختبار تجريبي للصراع بين مشروعين تشتد المنافسة بينهما، للسيطرة أو تشارك السيطرة على المنطقة التي يصبو كل منهما إلى التفرد في رسم صورة مستقبلها، بما ينسجم مع مصالحه وأغراضه: شرق أوسط جديد خالٍ من التطرف والإرهاب عند وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس، أو خالٍ من الصهيونية وأميركا عند الرئيس الإيراني احمدي نجاد.المشروع الأميركي يمهر بطاقة مروره إلى المجتمعات العربية بختم الديمقراطية، مغازلاً توق الناس الى الحرية بعد مكابدة ومعاناة مزمنة من شتى صنوف القهر والاستبداد. لكن أصحاب المشروع باتوا يعرفون جيداً النتائج السلبية التي أسفرت عنها طريقتهم، حرباً أو سلماً، في خوض غمار الإصلاح والتغيير، وفي نشر شعارات الحرية وحقوق الإنسان، وكيف زادت في شروط عمل الديمقراطيين العرب صعوبة وتعقيداً. والأمر لا يرجع فقط إلى سمعة السياسة الأميركية، وانعدام الثقة بصدق نواياها ودوافعها بسبب احتلال العراق وما رافقه من انهيارات مروعة، أو بسبب الدعم غير المشروط للعدو الصهيوني وجرائمه، وآخرها مباركة القتل والتدمير العشوائي في الحرب على لبنان، وإنما يرجع أيضاً إلى تاريخ لم ينس حتى الآن، كانت فيه الولايات المتحدة حجر عثرة أمام أحلام الشعوب العربية وتطلعاتها نحو التقدم والازدهار. في المقابل، يتوسل المشروع الثاني الإسلام، ويحمل راية القضية الفلسطينية في محاولة لاستمالة الشعور الشعبي الديني، وتغذية تيارات الإسلام السياسي لضمان التمدد والسيطرة. وإذا كان العزف على وتر معاناة الشعب الفلسطيني وما أحيق به من ظلم تاريخي قد أفضى الى مكاسب ملموسة في التعبئة والتجييش، ربطاً بالمناخ الذي خلفته مرارة التجربة الأيديولوجية القومية والهزائم المتعددة التي منيت بها، فإن ادعاء نصرة حقوق الإسلام والمسلمين لم تثمر الشيء ذاته، ربما بسبب الخصوصية المذهبية لإيران، أو بسبب الفشل المتواتر للإسلام السياسي بعد تسلمه السلطة في غير تجربة معاصرة .طبعاً ما كان لهذين المشروعين أن ينفردا في الصراع على الشرق الأوسط لولا حاجة المنطقة موضوعياً لصياغة مختلفة بعد انهيار قواعد الحرب الباردة، ولولا الفراغ الكبير الذي وفره استمرار التخلف العربي والتردي على مختلف الصعد، والعجز عن التكيف مع ما حصل من مستجدات إقليمية وعالمية، ونجاح القمع والاستبداد في تحطيم القوى الحية وسحق دورها الواعد في المجتمع! ولنعترف أننا نعيش اليوم في واقع لم يعد قابلا للاستمرار بالصورة التي هو عليها إلا بأن يجر خلفه مزيداً من البؤس والانحطاط! أو بعبارة أخرى، فإننا نعيش في منطقة تحتاج بالفعل الى أن تكون جديدة، وتحتاج تالياً الى إعادة صياغة علاقاتها وترشيد مكوناتها ومقومات تطورها، لكن ليس من زاوية إعادة رسم الجغرافيا السياسية، كما يعتقد البعض، أو نشر الفوضى وتأجيج الصراعات المتخلفة والمدمرة، بل من خلال المسارعة الجدية إلى بناء رؤية علمية بعيدة المدى، عمادها الثقة بدور الإنسان وقدرة المجتمعات الحرة على تحصيل الحقوق المسلوبة، ومواجهة تحديات التنمية وتبعات العولمة وشروط الاندماج في ركب الحضارة العالمية.وهكذا، لم يعد مقبولاً بعد أكثر من عقد ونصف العقد من انهيار الدول الاشتراكية وسيطرة القطب الواحد الأميركي اتباع القواعد ذاتها التي أرستها الحرب الباردة، والعيش على أوهام توازناتها؛ مثلما لم يعد مقبولاً استمرار حالة الاضطراب التي تعانيها المنطقة وتستنزف قدراتها ومحفزات تطورها، وإهمال معالجة بؤر التوتر فيها، وفي القلب منها المعضلة الفلسطينية، فضلاً عن الاحتراب الداخلي في العراق. ويعني هذا ضرورة المسارعة إلى وضع حد للحروب وأعمال العنف، وفتح الباب أمام زمن جديد لا تسلب ثقافة الإرهاب ومظاهر القتل المنظم طعم الحياة فيه، أو يشوهه خطاب أيديولوجي يجد المعادلة المجدية في ممارسة السياسة هي القوة العارية، وإلحاق المزيد من القتل والتدمير في صفوف العدو لكسر إرادته؛ خطاب يقوم على استثارة العواطف، وإشعال متواصل لفتيل المواجهة، وكأن الغرض أن يظل المجتمع في حالة استنفار، أو يؤسر في وضع استثنائي يشغله عن مهامه التنموية ومشاكله الداخلية، ويسوغ المحافظة على الواقع القائم وثبات الامتيازات وعناصر الهيمنة والتسلط. وبمعنى آخر، لم يعد مقبولاً تهميش دور الناس في الحياة العامة، وفصل مسارات التنمية والتحديات الوطنية عن المسألة الديمقراطية والحداثة السياسية، سواء من زاوية مفهوم المواطنة وبناء المؤسسات السياسية الدستورية والتمثيلية وإحلال قيم المشاركة، وسواء ببعدها المتعلق بالتوزيع العادل للثروة والاقتصاص من الفساد. ربما هي ضرورة عمياء أو صدفة مؤلمة أن تبقى منطقة الشرق الأوسط محط تنازع بين مشاريع وأطماع خارجية اختلفت صورها وأشكالها على مر العصور، وربما هو قدرها أن تسعى الشعوب العربية في نهضتها إلى خط سبيل خاصة تجمع في نضال مركب مواجهة التحديات الخارجية والداخلية على السواء. وتالياً، يمكن القول إن الخطر العميق على مستقبل مجتمعاتنا يكمن في نجاح أي من المحورين أو المشروعين المتنافسين راهناً في احتواء المنطقة، أو تقاسمها وتكريس سيطرة خارجية أياً تكن على ثرواتها ومقدراتها، مما يستدعي الحذر والتنبه من الوقوع في فخ الانحياز أو الاصطفاف خلف الرؤية الأميركية أو وراء السياسة الإيرانية، فلا شك أنه قد آن الأوان، وربما آن منذ وقت بعيد، أن نعترف بأن مجتمعاتنا بلغت سن الرشد، وأنها تستطيع العمل لحسابها الخاص، وصياغة مشروع خلاصها المستقل، حتى لو بدا أشبه بحلم عند الكثيرين، والسير في طريق تنفيذه، مهما تكن هذه الطريق وعرة وقاسية!والبديهي أن ما تطمح إليه الشعوب العربية وقواها الحية في معركتها من أجل بناء مجتمعات العدالة والديمقراطية، ومن أجل نيل حقوقها الوطنية وكسب فرصتها لدفع عملية التنمية والتحرر الاجتماعي والاقتصادي قدماً، يقف على مسافة واضحة وبيّنة من المشروعين الخارجيين المتناطحين اليوم في غير مكان من المنطقة، مسافة يفترض أن لا يحجبها تلاقي شعارات أحدهما مع بعض الأهداف الوطنية، كتحرير الأرض ونصرة النضال الفلسطيني، أو تقاطع دعايات الآخر مع المهام الديمقراطية وإشاعة الحريات واحترام حقوق الإنسان. ـــــــــــــــــــــ * كاتب سوري - دمشق
|
فكر
أي شرق أوسط نريد؟!
أخبار متعلقة