عمار محسن كريم في زمن نعيشه مليء بالأزمات التي غدت وكأنها القاعدة التي تؤطر عموميات حياتنا وماعداها استثناء حتى تعايشنا مع أزماتنا وأصبحنا جزءاً منها لم يقل يوماً الاديب الروسي ( ايليا هرنبرغ ) : ( بمقدور الانسان أن يتعايش مع أى شيء وإن كان الطاعون ) ومن متابعة فاحصة لواقعنا الثقافي المأزوم يبرز تساؤل قد يبدو لأول وهلة إنه ليس بالجديد وهوهل مانعانيه اليوم في واقعنا الثقافي هو أزمة ثقافة أم أزمة مثقفين ؟ ومن البديهي أن ينقسم متابعو الشأن الثقافي عند اجابتهم عن السؤال إلى فريقين احدهما يرى أن مانعيشه هي أزمة ثقافية والأخر يتصور أن الأزمة مرتبطة بأزمة وجود مثقفين وأغلب الظن أن الاجابتين الافتراضيتين ربما جانبتا الحقيقة فلامعنى للفصل بين الثقافة والمثقفين فعدم وجود مثقفين يؤدي حتماً إلى اضمحلال للثقافة كما أن التهميش القسري لدور الثقافة يعني انكفاء المثقفين وانضمامهم أو إلحاقهم عنوة بطوابير المحبطين والمهمشين في واقعنا المحلي فالعلاقة بين كل من الثقافة والمثقفين هي علاقة محكومة بجدلية يتكامل فيها فاعل مع فعل وكاتب مع نص أ و مبدع مع فكرة فلاشك أن الأزمة الحقيقية التي يعاني منها مجتمعنا كما تعاني منها المجتمعات العربية الأخرى تتمثل في وجود طلب محدود على الثقافة الجادة لأسباب معروفة فكم عدد الذين يبحثون عن الاصدارات الثقافية أو الدوريات الفكرية بعد أن طغت النزعات الاستهلاكية لدى العامة فاصبحت سلوكية وثقافة بديلة تترسخ كل يوم حتى غدت المتع الصغيرة أمتع وأهم بكثير من ارهاق العقل في أفكار ونظريات وجدليات والانكى من ذلك أن الأفكار الكبرى في واقعنا اصبحت تقدم وتناقش بصورة مسطحة تعكس انماء النزعة الاستهلاكية كما يحصل على سبيل المثال عندتعامل وسائل اعلامنا المرئية مع قضايا كالحرية والديمقراطية وحرية الرأي والصحافة والعدل والمساواة وغيرها من أفكار اصطلحت البشرية على ضرورة توافرها وانماءها داخل أي مجتمع فالطلب اليومي الأن ليس على الثقافة الجادة فالجمهور الذي أعتاد على ثقافة الاستهلاك ونمطيتها السريعة والسهلة كاستخدام الهواتف النقالة والتباهي بانواعها واسعارها وميزاتها أصبح ينشر وجبات ثقافية سريعة ومثيرة قادرة على جذبه واستثارة اهتمامه والا فإنه سيمر بما يعرض أمامه من اصدارات ثقافية فكرية غير آبه لانها بضاعة لاتعجبه ولاتبهره في واقع كهذا يصبح من العسير وجود طلب ثقافة هادفة ومما يزيد في تفاقم الأزمة الراهنة أن العديد من مثقفينا غارقون في نظريات ومراجعات وسجالات بعيدة عن الواقع الذي يعيشونه فهم لايملكون تقديم تصور واقعي يستطيع الجمهور العريض من البسطاء فهمه واستيعابه والالتفاف حوله وإذا ماسعوا لذلك فانهم يقدمون افكارهم بلغة صعبة لايفهمها العامة وبالتالي فهم يقدمون فكراً نظرياً لايتعدى محيط دائرتهم المغلقة اضافة إلى استخدامهم مصطلحات لاتوجد في قاموس البشر العاديون الذين هم الاداة الفعالة في التغيير فعند القاء نظرة على الثقافات العالمية وادابها نجد أن أعظم الادباء العالميين من شعراء وروائيين تعاملوا مع شخصيات اجتماعية ضعيفة خانعة لكنهم نفخوا فيها الروح والهمة ثم اعلنوا انتصارها في النهاية وهو ليس انتصاراً لابطال أعمال أدبية فحسب بل هو انتصارهم من خلال ابطالهم فشكسبير أعلن انتصاره من خلال هاملت المتردد وكافكا من خلال المصاب بالرعب ومارسيل بروست من خلال مارسيل الذي يعاني الربو وفولكنر من خلال بنجي المعتوه والأمثلة كثيرة فقد قدم الادباء شخصياتهم وهي في حالة بحث عن معنى عكس الكثير من ادبائنا الذين سعوا إلى التقوقع فليس غريباً أن تتراجع الثقافة ونعيش نكوصاً ثقافياً ويتم تهميش المثقفين في مجتمعاتنا في الوقت الذي يطغى فيه صعود نجوم الفن والرياضة والمفارقة أن الكم الهائل من الاصدارات الواردة الينا والممولة من دول غنية ذات الطباعة الفاخرة والاخراج الفني المتميز والورق الرائع والتي تعج باخبار الفن والفنانات وفضائحهم والحوارات (الفلسفية!) مع المطربات في الوقت الذي غيبت اصدارات ثقافية وأدبية رصينة من المكتبات وحرمنا من دوريات وفصليات متميزة مثل مجلات ( ابعاد ) و(المنطلق الجديد) و( أبواب ) و( قضايا فلسفية ) والكثير الكثير فاللوم يجب أن لايقع على جمهورالشارع الذي استسلم لاصحاب الفكر المسطح الاستهلاكي بعد أن أصبحوا هم فرسان الساحة دون منافس .
|
ثقافة
أزمة الثقافة وطغيان ثقافة الاستهلاك
أخبار متعلقة