نزار خضير العبادياكتسبت مدينة عدن أهميتها التاريخية في الفترة السابقة لظهور الاستعمار الأوروبي الحديث .. كونها تمثل سلة الغذاء اليمني، حيث كانت المنفذ التجاري الرئيسي لليمن الذي يعود على الدولة بثلثي مدخولات خزائنها –خاصة- وأن تحصيناتها الطبيعية كانت تدرأعنها أخطار الطامعين بها من الممالك والسلاطين، مما جعلها من أكثر محطات العالم التجارية أمناً، وشجع الوصول إليها والارتباط مع التجار اليمنيين بمصالح مختلفة.وإدراكا لهذه الأهمية فقد عمل الطاهريون عند تفكيرهم باستلاب الحكم اليمني من الرسوليين على مد جسور العلاقة مع (آل احمد)- سكان عدن الأصليين لضمان مؤازرتهم ودعمهم، ثم بدأوا بالاستيلاء على عدن قبل أي مدينة يمنية أخرى عام(858هـ). وعندما شعر الملك الطاهري عبد الوهاب بن داود بدنو أجله كتب لولده (عامر) تصريحاً يسمح له بالدخول إلى عدن، وأوصاه بألا يذيع نبأ وفاته إلا بعد أن يتمكن من الاستيلاء على المدينة وإقرار أمنها وإدارتها.وبالإمكان ملاحظة قوة المكانة الاقتصادية والسياسية لمدينة عدن من خلال جعلها مدينة محرمة على الجميع دخولها بغير إذن صريح من الملك عبد الوهاب بن داود، حفاظا على أمنها، حتى إذا ما وافته المنية عام(894هـ) أعلن ولده (عامر) نبأ وفاة والده من داخل عدن بعد أن هيأ كل أموره فيها.. وبالتالي فإنها كانت آخر معاقل الدولة الطاهرية التي تقهقرت إليها، ولم يستطع أحد انتزاعها من أيديهم إلا على يد الأتراك الذين غدروا بآخر حكام عدن الطاهريين وهو عامر بن داود الذي صلبه الأتراك على سارية إحدى سفنهم مع عدد من وزرائه.لكن هذه المدينة ما لبثت أن تحولت إلى قبلة أنظار العالم برمته بعد اكتشاف (بارثلمي دياز) للطريق الملاحي الجديد الذي أطلق عليه (رأس الرجاء الصالح) الذي حول الأهمية المحلية لمدينة عدن إلى أهمية استراتيجية عالمية مرتبطة بشؤون التجارة العالمية ومصالح عدد كبير من كبريات الدول الأوروبية والأفريقية والأسيوية- في وقت لم يكن أحد في العالم يعلم بوجود يابسة خلف البحار تقطنها ثلة من الهنود الحمر البدائيين، ولم يكن يخطر ببال بشر أن أولئك البدئيين العراة سيتطورون بعد بضع قرون إلى (شعب الولايات المتحدة الأمريكية).مع نهاية الألفية الأولى ومدخل الألفية الثانية من التاريخ الميلادي للعالم كان الشرق برمته محط إثارة وإعجاب الغرب، والسر الذي يتوقون للوصول إلى مفاتيح ثرائه التجاري وتوابله التي تسحر روائحها أنوف الأوروبيين.. إلى الدرجة التي أولاها ملوك أوروبا اهتمامهم الخاص، وحدا الأمر بملك البرتغال (هنري الملاح) إلى إيفاد بعثة تجسسية تستكشف طرق تجارة الشرق ومراكزها الحيوية، فكان إن عادات إليه البعثة بعد حوالي عام تضع بين يديه تقريرها الخطير الذي توصي به الملك بأنه إذا ما أراد السيطرة على تجارة العالم فما عليه إلا أن يضع يديه على منطقتين فقط وهما (هرمز) و (عدن).ومنذ تلك اللحظة – أي قبل ألف عام تماماً- لم يستقر لمدينة عدن حال، وأخذت الحملات الأجنبية المختلفة (الحبشية، والفرنسية، والبرتغالية، والأسبانية، والإيطالية، والبريطانية) تتكالب على عدن لاحتلالها والفوز بمركزها الجيوبوليتيكي دون أن ينجح أحد منهم في بلوغ مأربه.فمدينة عدن أصبحت نقطة منتصف الطريق بين أوروبا وجنوب شرق آسيا، ومياهها عميقة جداً وخالية تقريباً من الشعاب المرجانية، وتطل على مساحة واسعة من البحر العربي والمحيط الهندي، وتصنف مياهها بكونها (مياه دافئة). وبمرور الزمن تعاظم النشاط التجاري الأوروبي مع الهند وبقية دول جنوب شرق آسيا فأصبحت تلك الدول تخشى على مصالحها الكبيرة من التعرض للمهاجمة أو الابتزاز من قبل الدول التي بمقدورها فعل ذلك إذا ما أرادت.. فبات التفكير بعدن أشبه بالبحث عن شرطي حراسة يؤمن السلامة.لكن بعد عدة عقود من الزمن أضيف للقضية بعدآخر.. إذ نجحت بريطانيا باستغلال ما شاعت تسميته بـ(الكشوف الجغرافية) لتبسط نفوذها على الهند ومناطق عديدة في جنوب شرق آسيا وحولتها إلى مستعمرات تابعة لسيادتها. وكذلك فعل البرتغاليون والأسبان في مناطق الخليج العربي، وتحولت تلك الحقبة إلى عصر صاخب للصراعات الدولية بين دول أوروبا لالتهام دول آسيوية وأفريقية تنافساً على المصالح والتراث، إلى درجة وصف تسابقها على أفريقيا بأنه (عطش أوروبا للذهب).ومن هنا احتدم التنافس الدولي على عدن، وأمسى الكل يعد خططه، ثم يحاول، حتى إذا ما فشل فكر بخطط بديلة يعيد الكرة بها ويجرب حظه في الوصول إلى هذه البقعة من العالم التي لو كان بمقدورهم التبؤبما ستؤول إليه في عصر البترول لما أبقت ملوك أوروبا أحداً من شعوبها إلا ونحرته على أسوار عدن حتى يجعلوا من جثثهم سلالم يعتلونها لبلوغ المدينة واحتلالها.[c1](دوريا دولت) واحتلال عدن[/c]يتميزالبريطانيون عن غيرهم من القوى الاستعمارية بأنهم يجيدون “فن” الاحتلال، وأنهم سبقوا غيرهم إلى اكتساب الخبرة في معارك من هذا النوع، وتمرسوا على خديعة الحرب على أرض أوروبا قبل أن يصدروها للعالم برمته.فالبريطانيون بدأوا رحلة التنافس على احتلال عدن بجملة من الارتباطات المهنية التجارية مع اليمن من خلال شركات الملاحة. وكانوا يهدفون من تلك الخطوة تحقيق أمرين: أولهما- استكشاف المنطقة عن كثب، وإنشاء قواعد العملاء والجواسيس- وربما بعض الصداقات أيضاً التي قد تخدمهم في المراحل القادمة. أما الأمر الثاني- فهو محاولة تفجير خلافات نوعية بشأن مصالحهم واتفاقياتهم مع اليمنيين، ثم تطويره ليتحول إلى مبرر لتدخل عسكري مباشر يوصلهم إلى قلب عدن.وعلى الرغم من نجاحهم النسبي في الأمر الأول، لكنهم أخفقوا في تطوير ذرائعهم وخلافاتهم مع اليمنيين إلى الحد الذي يبرر لهم استخدام القوة.. فلم يكن من صاحبة الجلالة الملكية للعرش البريطاني إلا أن ألقت بالمهمة على عاتق أحد جنرالاتها المشهورين للتصرف بالأمر على وجه السرعة، وكان ذلك الرجل (ستا فورد بتسورث هينس) من مواليد عام 1802م.استهل (هينس) مهمته بالتقدم بشكوى لحاكم عدن يدعي فيها بأن السفن التجارية البريطانية المسافرة بين بريطانيا ومستعمراتها في جنوب شرق آسيا تتعرض لاعتداءات من قبل بعض المناطق اليمنية الخاضعة لسلطة عدن.. وحذر من عواقب تكرار مثل هذا العمل. لكن (العبدلي) استطاع احتواء الموقف ونفي الادعاءات والتفاهم مع البريطانيين بهذا الشأن.أما (هينس) فلم يهدأ له بال حتى تجهز للخطوة الأساسية إذ رفع العلم البريطاني على سفينة تجارية هندية يطلق عيها اسم (دوريا دولت)، وجعلها تمر بشاطئ عدن، وهناك ادعى أن قبائل إحدى المناطق اليمنية اعتدوا على السفينة ونهبوها وقتلوا بعض رجالها رغم أنها ترفع العلم البريطاني.. ومن غير أن يتيح فرصة للدفاع أو شرح الموقف، وجه (هينس) مدافعه نحو عدن وباشر بضربها بقوة.. ثم أنزل بعض رجاله على شواطئ عدن لمحاولة الدخول إلى المدينة واحتلالها، إلا أنهم واجهوا مقاومة شديدة من أهالي عدن الذين قتلوا عدداً كبيرا من القوة المهاجمة واضطر الأخرون للفرار.وعلى أثر هذه الواقعة كتب (هينس) لحكومته طالباً الدعم والتعزيز، إلا أن الرد كان سلبيا حيث اعتذرت حكومته عن إمكانية إرسال أي قوة إضافية سواء من بريطانيا أو من مستعمراتها ونصحته بالتصرف وفقاً لإمكانيات القوة المخصصة تحت قيادته. فعمل (هينس) على المناورة بأسلوب الكر والفر لعدة أسابيع، ثم هجم بكامل قوته على عدن وتسنى له دخولها في يوم 19 يناير 1839م، وزف في اليوم نفسه (بشائر) احتلاله لعدن إلى بريطانيا فكان أن استغربت حكومته من المفاجأة، وعندما سألوه عن الكيفية التي نجح فيها من اقتحام عدن رغم تحصيناتها وقلة أفراد قوته، أجابهم بأنه كان يستعين باليهود في عدن لتزويده بالمعلومات وتحركات القوات اليمنية وأحجامها، وأنه كان يشتري منهم هذه المعلومات”العظيمة والثمينة” بثمن بخس جداً، ولا يستحق الحديث عنه.[c1]“بطل” الاحتلال يموت في زنزانة بريطانية..![/c]أعطى القائد (هينس) أوامراً لقواته بقتل كل من يقاوم أو يعارض أو يتسبب بقلق لهم أو يشتبه بتحركاته. فأشاع جنده القتل والتنكيل بالأهالي الذين لم يمنعهم ذلك من مواصلة المقاومة وبالمقابل لم تكن تلك المقاومة بقادرة على منع قوات الاحتلال البريطانية من مده نفوذها وبسط سيطرتها على جميع أرجاء عدن، وكان الفضل في هذا للسلاح الحديث الذي استخدمه البريطانيون وللإمكانيات المادية الهائلة ثم إلى القوة البشرية الكبيرة التي تعززوا بها لاحقاً، علاوة على فرض الحصار على الأنشطة الاقتصادية التي كان يمارسها سكان عدن مما جعلهم ذلك في ضائقة شديدة للغاية.وعندما وجد (هينس) قواته في حالة انتشار وسيطرة مستقرة كتب لحكومته مطالباً إلحاق عدن بإدارة حكومة صاحبة العرش الملكي مباشرة على غرار الهند.. فكان أن حصلت الموافقة الملكية في شهر سبتمبر 1839م على إلحاق عدن بحكومة بريطانيا في (بومبي)، كما صدر مرسوماً ملكياً في نفس اليوم يقضي بتعيين (ستا فورد بتسورث هينس) حاكماً بريطانياً على مستعمرة عدن.وهكذا أصبح (هينس) أول حاكم بريطاني لعدن، فأخذ يتبع سياسة خاصة في التعامل مع الأهالي، فصار يبذل الأموال للشيوخ ورؤساء القبائل والواجهات إلى جانب عدد كبير من العملاء الذين جندهم لتعقب أنشطة المقاومة الشعبية. أما أسلوبه الآخر فهو منح الأوسمة والنياشين والألقاب، وإقامة الاحتفاليات التكريمية لبعض الشخصيات التي يعتقد أنها ذات نفوذ وسطوة في المجتمع.. والأسلوب الثالث بتأليب البعض على البعض الآخر، ومناصرة جهة على أخرى وإشاعة الفرقة بين القبائل والجهات اليمنية المختلفة.. لكن أسلوبه الرابع كان يتمثل بالزج في السجون واغتيال الشخصيات الوطنية البارزة وافتعال الحوادث التي تضر بمصالح البعض الآخر فمن يرفض التعاون معه أو العمل بالسر لصالح قوات الاحتلال.واستمر (هينس) بمنصبه حتى شهر يونيو 1854- أي ما يقارب الخمسة عشرة عاماً- إذ ما لبثت حكومته أن أنكرت جميل صنعه لها، فاتهمته بالتبذير وتبديد الأموال البريطانية هباءً، وبسوء التصرف.. فكان أن انتهى الأمر بـ(بطل احتلال عدن) أن اقتيد مكبلا بالقيود من عدن إلى بريطانيا، وتمت إحالته إلى محكمة عسكرية حكمت عليه بالسجن، وتم إيداعه إحدى الزنزانات البريطانية في يوليو 1954م وقضى بقية عمره فيها حتى مات داخل الزنزانة في عام 1860م.وعلى ما يبدو أن البريطانيين سرقوا من (هينس) بطولة احتلال عدن في التهم التي وجهوها إليها، لكنهم نسوا أن يسحبوا من تحت أقدامه بساط بطولة تمثيل الدور الأطول في تاريخ الاحتلال البريطاني لعدن، فالفترة التي أمضاها حاكماً لعدن كانت أطول مدة يقضيها حاكم بريطاني في اليمن منذ الاحتلال وحتى الاستقلال.. ومن المؤكد أن موت (هينس) كان يعني لصانعي القرار السياسي البريطاني آنذاك موت كل الأسرار الخاصة بالاحتلال البريطاني لعدن ومخططات المرحلة القادمة.[c1]المُحتل صار اثنين، واليمن شطرين[/c]بفقدان اليمن لثغرها العريق اختلت الموازنة السياسية عند اليمنيين، وتضاعفت همومهم فالبريطانيون لم يكترثوا لما يدور حولهم في بقية أرجاء اليمن، وكل همهم انصب في كيفية تأمين وجودهم، واستغلال عدن استغلالاً أمثل لتطوير مصالحهم التجارية وتلبية احتياجات سفنهم من الفحم والمؤن الأخرى والقوى البشرية العاملة.كما حرص البريطانيون على تأمين محمية عدن من الأنشطة المناهضة للاحتلال والقادمة من مناطق الجوار لعدن، فأخذ قادة الاحتلال يقلدون الأساليب التي كان يتبعها (هينس) في استمالة الأهالي.. لكنهم في هذه المرحلة أضافوا عليها أسلوب إبرام اتفاقيات صداقة وتحالف مع شيوخ وسلاطين عدد من المناطق الجنوبية المحادية لعدن.. وتعهد البريطانيون في تلك الاتفاقيات بالحماية والدفاع عنها، وخصصوا مرتبات مجزية لمشائخها وسلاطينها ما لبثت أن تحولت إلى أدوات ضغط وابتزاز لهم، وكثيراً ما كانت تخذلهم بمجرد توريطهم أو انتفاء الحاجة من خدماتهم.. في الوقت الذي وقف الأئمة في صنعاء عاجزين عن فعل شيء، غير مدركين لخطورة الوضع، تشغلهم عنه صراعاتهم الداخلية على السلطة والمصالح والولاءات.وهكذا وجد العثمانيون ما يشجعهم في اليمن من انهيار للعودة إليها ثانية في عام 1872م ليدخل اليمنيون في دوامة المواجهة مع محتل ثاني يمد خطاه سريعاً ليبسط نفوذه على مختلف البقاع اليمنية الشمالية والوسطى.. وهو الأمر الذي أثار مخاوف الإنجليز الذين بادروا على الفور إلى التفاوض مع الأتراك بشأن مناطق النفوذ البريطاني التي لا يحق للأتراك تجاوزها، وأبرم الطرفان اتفاقية بهذا الخصوص عام 1873م. ثم تمد تجديدها لاحقاً في تسعينات ذلك القرن وأسموها اتفاقية (المحميات التسع).لكن في العام 1914م تجددت خلافات القوتين الغازيتين، واحتدم الوضع بينهما ثم انتهى بتوقيع معاهدة تثبيت حدود مناطق نفوذ الطرفين المستعمرين اشتهرت بمعاهدة 1914- فكانت بمثابة أول مؤامرة استعمارية على اليمن تسببت بتشطيرها إلى يمنين (شمالية وجنوبية) حملت الشعب اليمني عبئها الثقيل وتكاليفها الباهضة منذ ذلك الحين وحتى إعادة توحيد البلاد عام 1990م في عهد الرئيس علي عبدالله صالح. [c1]المملكة المتوكلية والاستعمار البريطاني[/c]عندما نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914م وقف الإمام يحيى بن حميد الدين على الحياد، فلا حارب الأتراك في جهاته مستغلا الظرف، ولا شاركهم مع باقي قبائل اليمن الأسفل في حربهم القصيرة ضد المحميات في الجنوب والتقدم إلى لحج بقيادة الوالي العثماني علي سعيد باشا الذي نجح في دخول لحج عام 1915م، وتسبب بقلق كبير للإنجليز الذين كانت قواتهم منهمكة بمواجهة الألمان ويمرون بظرف صعب لا يتيح تقديم أي دعم لوجودهم في جنوب اليمن.ورغم أن الإمام يحيى حافظ على قواته بعيدا عن أية مواجهة لكنه لم يستفد منها لاحقا في مقاومة الإنجليز. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 وتوقيع أطراف الحرب معاهدة (فرساي) خرج الأتراك من اليمن وفقا لبنود المعاهدة تاركين للإمام يحيى الكثير من المعدات والأسلحة والذخائر. لكن الإنجليز كانوا قد احتاطوا لأنفسهم مسبقاً. فهم ما أن وضعت الحرب العالمية أوزارها حتى بادروا إلى الاستيلاء على تهامة حتى الحديدة لتكون مناطق مقايضة مع الإمام الذي أدرك الإنجليز وبحكم طبيعة الأمور في اليمن أنه بعد خلاصه من الأتراك سيتطلع إلى تحرير الجزء المحتل من قبلهم، وهو ما حدث بالفعل.لكن الإنجليز وجريا على سياستهم المشهورة (فرق تسد) قاموا عام 1921م بتسليم ما احتلوه من المناطق التهامية إلى حليفهم (الأدريسي) الذي كان قد أبرم معهم عام 1915م معاهدة صداقة وهكذا حوصرا الإمام وحرم من الموانئ المدرة للمال، وانشغل بحرب ضاربة مع الأدارسة وعدد من القبائل اليمنية.. وانتهى به الأمر إلى مواجهات عام 1926م مع السعودية التي عقد معها حسن الأدريسي معاهدة حماية، ثم تطورت الأوضاع وانتكست قوات الإمام في حرب 1934م أمام السعودية، وبالنتيجة وقع الطرفان معاهدة الطائف في نفس العام.وبالعودة إلى المواجهة مع الإنجليز فإن الإمام كان قد حاول بسط نفوذه على المحميات في الجنوب، ودخلت قواته الضالع أوساط العشرينيات، ثم حاول مناورة الإنجليز من خلال توقيع اتفاقية صداقة مع إيطاليا عام 1926م التي كانت تحتفظ بمستعمرات في الساحل الأفريقي المقابل، كما عقد معاهدة صداقة وتعاون مع الاتحاد السوفيتي عام 1928م وشجعه ذلك على دخول العواذل العليا والسفلى إلى جانب تدعيم قواته في الضالع والبيضاء.وكانت بريطانيا مدركة المغزى كل ذلك ويقظة تنتظر الفرصة المناسبة. فجاء رد فعلها عنيفا جدا وأشعلت حربها ضد الإمام عام 1928م مستخدمة الطائرات الحربية التي ألحقت ضرراً هائلاً بقوات الإمام، كما ألقت المنشورات التهديدية، فتقهقر الإمام على أثر ذلك وهزمت قواته واضطر للدخول في مفاوضات خلصت إلى توقيع اتفاقية حسن الجوار وانسحاب الإمام فيما بعد من المحميات التي دخلها، واضطر للتسليم بالوجود البريطاني في عدن لمدة أربعين عاماً قادمة- وهي مدة الاتفاقية- لكن هذه الهزيمة النكراء والاتفاقية المجحفة، والتخلي عن المزيد من المناطق للإنجليز وغيرها من ظروف المجتمع اليمني الداخلية، كلها بمثابة عوامل أساسية في غاية الأهمية في تأليب الوضع الشعبي ضده، ونهوض الهمم النضالية، ودخول اليمن في حقبة تاريخية جديدة ستقودهم إلى كل ما يصبون إليه- كما سنرى لاحقاً.[c1]من النضال الثوري إلى الكفاح المسلح[/c]إن المعاناة المشتركة للشعب اليمني في كلا الشطرين وضعته في خندق واحد يحاول بلورة اتجاهاته النضالية الوطنية التي تحرره مما يعانيه. وعلى هذا الأساس نشأت بعض الصحف الوطنية الداعية إلى التحرر وتبلورت توجهات وطنية واعية بين صفوف بعض طلبة اليمن في القاهرة، وانتظمت العديد من الشخصيات اليمنية المثقفة في إطار سياسي جريء يحرك الأحداث انطلاقاً من عدن بقيادة احمد النعمان ومحمد محمود الزبيري وغيرهم، واقترن الحديث في النضال والتحرر بالحديث عن وحدة اليمن، وواحدية العمل الوطني في جميع أرجاء اليمن.وقد تهيأت الكثير من الظروف والمتغيرات السياسية التي أخذت بيد الحركة الوطنية اليمنية مثل تصاعد الدعوة إلى الوحدة العربية بعد تألق الرئيس عبدالناصر بدوره في العمل القومي، بجانب تصاعد حركة المقاومة ضد الإنجليز في أماكن مختلفة من العالم بحيث أن حركة (أيوكا) التي يقودها (جيري فازل) في قبرص تبنت عمليات فدائية ضد الجيش البريطاني أجبرته على نقل مقر قيادة قواته في الشرق الأوسط من قبرص إلى عدن. وهذا الأمر أعطى حماساً لليمنيين لتصعيد المقاومة. علاوة على ذلك فإن نجاح اغتيال الإمام يحيى عام 1948م واشتداد الحركة الثورية المناهضة للحكم الإمامي ف في الخمسينيات عززت ثقة اليمنيين بقدراتهم على التغيير والنضال حتى الاستقلال. فضلاً عن البدء بإقامة التنظيمات السياسية في اليمن والتي كان بعضها متأثراً بالتيارات الفكرية العربية القومية، وبطبيعة الحال أعطت تلك التنظيمات للحركة التحررية صبغتها التنظيمية وخبراتها التي ساعدتها على التصدي للمؤامرات الاستعمارية البريطانية التي حاولت فصل عدن عن بقية الجسد اليمني، وبعد فشلهم حاولوا إنشاء دولة في الجنوب تضم مستعمرة عدن وبعض المحميات الغربية، ثم طوروا الفكرة إلى إنشاء (الاتحاد الفيدرالي للجنوب العربي) كنواة لتلك الدولة التي يعتزمون إنشائها.وعلى ضوء تلك الظروف، وما حظيت به الحركة الوطنية من خبرات وتجارب –خاصة- في الخمسينيات خلال أنشطتها الرامية إلى إسقاط النظام الإمامي من جهة أو من خلال تأثرها بالحركات العربية الأخرى، أخذت فكرة الكفاح المسلح تتسلل إلى التنظيمات السياسية اليمنية بعد أن أدركت عدم جدوى الحوار أو النضال السلمي، وكانت حركة القوميين العرب من أوائل المتبنين لخيار الكفاح المسلح، إلا أن العقبة الوحيدة التي كانت تقف أمام الوطنيين هي افتقارهم للقاعدة المساندة، أو ما يطلق عليه في الحروب الكبيرة (العمق الاستراتيجي للمعركة).لكن مع انتصار ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م في القضاء على النظام الكهنوتي الرجعي وإقامة نظام جمهوري، فإن انفراجا كبيراً في قضية النضال التحرري من الاستعمار البريطاني قد فتح آفاقه للوطنيين فمن جهة أدركت القوى الوطنية أهمية العمل المسلح في التغيير والتحرر من خلال ما أثبتته تجربة تنظيم الضباط الأحرار بثورتهم السبتمبرية، ومن جهة أخرى أصبحت ساحة الشطر الشمالي ليست مهيأة وآمنة لتحركاتهم فقط، بل ومصدر الدعم والمؤازرة وجبهة المواجهة الحقيقية مع المستعمر، خاصة وأن الدفاع عن الجمهورية كان عملاً انصهرت فيه الآلاف من أبناء الجنوب للانخراط في صفوف الحرس الوطني بوازع ذاتي مستند إلى خلفية الانتماء الواحد لأبناء الشعب اليمني. [c1]الإنجليز بين (نت كراكر) و (دنكن ساندز)[/c]وهكذا تطور حوار التنظيمات السياسية إلى عقد لقاء صنعاء في مايو 1963م الذي اجتمعت له العديد من القوى على رأسها حركة القوميين العرب، وقاد الحوار إلى تشكيل الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل، على أساس تبني خيار الكفاح المسلح لطرد المستعمر، وتزامن ذلك مع احتدام صدامات بين القبائل والقوات البريطانية في ردفان، فكان أن احتشدت الجهود صوب هذه الجبهة لتبرز وجودها الوطني في الساحة ولتشغل فجر شرارة الانتفاضة المسلحة في ردفان التي انطلقت من أرضيتها ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963م.إن تصاعد حركة الكفاح المسلح ونجاح ثورة 14 أكتوبر دفعت بالإنجليز إلى قيادة خمس حملات عسكرية تاريخية لاحتواء الوضع المنهار.. فكانت حملتهم الأولى قد أطلقوا عليها اسم (نت كراكر) بمعنى (كسارة جوز الهند) واستغرقت الفترة (4-31) يناير 1964م اشتركت فيها طائرات (هنتر) و (شاكيلتون) و (بليفيدر) و (ويسكس) وبمجرد أن بدأت إنزالها على الجبال المحيطة بوادي (ربوة) حتى تم التصدي لها بقوة واضطروها للتراجع عن الخطة كاملة.ثم أعقبوها بالحملة الثانية باسم (رستم) للفترة (1 فبراير-13 أبريل 1964م) وكان هدفها الوصول إلى وادي (تيم) لكنها فشلت وتم قتل خمسة جنود بريطانيين مع قائد سريتهم. فكان رد الفعل البريطاني هو إرسال 8 طائرات هنتر لضرب (حريب) وهدم المنازل وقتل المدنيين مما صعد الأمر من روح المقاومة والكفاح.وجاءت الحملة الثالثة للفترة (14 أبريل- 11 مايو 1964م) بقيادة (جون كابون) القائد العام للقوات البرية في الشرق الأوسط، وأطلقوا عليها (رد فورس) بقوة لواء كامل، وكان هدفها وادي (تيم) ووادي (ذنبه)، لكنها قوبلت بمقاومة شديدة أفشلت الحملة واضطرت قائدها إلى إلغاء إنزال الكوماندوس.. ولهذا أعقبوها بحملة رابعة (11-23 مايو 1964م) بقيادة (بلاكر) وهدفها جبال (البكري) وفشلت أيضاً في بلوغ أهدافها.وفي الفترة (24 مايو –23 أغسطس 1964م) انطلت الحملة الخامسة، وكان هدفها جبل (الحورية) واشترك فيها المظليون ودعم جوي كثيف، وكانت بقيادة (بلير) ثم خلفه (بلاكر) لكن مصيرها لم يختلف عن سابقاتها وأسقط الثوار طائرة هيلكوبتر من طراز (آر. أن. ويسكس) وفي موقع آخر تم إعطاب طائرتين من ضمن ثلاث مخصصة لعملية استيلاء على جبل (ودنا).وأمام هذه المقاومة الصلبة في ردفان بدا الانهيار والإحباط واضحاً عند البريطانيين مما استدعى الأمر مجيء (دنكن ساندز) وزير الدفاع البريطاني في أوج الطقس الحار إلى جبال ردفان على أمل أن يساعد وجوده في رفع معنويات القوات المحتلة، لكن كان كل شيء يجري على العكس تماماً. [c1]الموت القادم من الريف[/c]في الوقت الذي كانت قوات الاحتلال تكرس حملاتها على ردفان كانت جبهة الضالع قد بدأت هي أيضاً في كفاحها منذ 24 فبراير 1964م بالهجوم على دوريات السرية (5) من الكتيبة الثانية، ثم تلتها عمليات زرع الألغام في طرق سيارات الجيش التي كانت كثيراً ما تقع في كمائن الثوار.. كما امتد النشاط إلى القيام بعمليات نوعية كإطلاق النيران بكثافة على منزل الضابط السياسي في الضالع، وكذلك ضرب معسكرات الجيش الاتحادي بالرشاشات والبوازيك وقتل عدد من أفراده وتدمير بعض المعدات والثكنات.وفي عام 1965م بلغ عدد القتلى الإنجليز في هذا العام بالضالع فقط (24) جنديا وضابطا وإصابة ما يزيد عن (113) منهم، واصبح إلقاء القنابل على جنود الاحتلال مشهدا مألوفا لا تكاد منطقة يمنية لا تعرفه، وكذلك الحال في زرع الألغام وانفجار العربات البريطانية المختلفة بحيث أن الإنجليز من شدة وضراوة المقاومة التي واجهوها اضطروا في 22/8/1966م إلى إصدار أمر بإغلاق الحدود بين الشمال والجنوب.ولم تكن مقاومة الريف مقتصرة على الضالع وحدها، بل إنها كانت تشمل جميع مناطق الجنوب بما فيها حضرموت ويافع وحريب والشعيب وبلاد العواذل ودثينة ولحج وغيرها.. ونتيجة لهذا الامتداد لحركة الكفاح المسلح أخذت قوات الاحتلال بإنشاء الوحدات الخاصة للتدخل السريع، كذلك قوة للألغام وغيرها. إلا أن كل ذلك لم يوقف من تصعيد المقاومة لعملياتها، وتطوير أساليبها في المواجهة، بحيث أصبحت تستهدف كبار القادة العسكريين ومراكز القيادة العسكرية الحيوية،و المركبات الخاصة بالضباط، كذلك أماكن هبوط الطائرات ومنازل قادة الجيش، وفي كل تلك العمليات كانت المقاومة تقدم الشهداء من خيرة أنبائها وبالمقابل تحصد المئات، بل الآلاف من قوات الاحتلال، وكان كلما مضى زمن كلما كانت رائحة الموت القادم من الريف اليمني أشد غزارة، وأقوى بأساً على إرجاف فرائص الغزاة، وتحويل أعمارهم إلى محض زمن لترقب الموت على أرض غريبة، لا تجيد حتى الصلاة الكنائسية قبل إيداع الجثمان بين ثراها.. [c1]الكفاح حتى الاستقلال[/c]عدن لم تستكن يوما في جوف ليل غاصب، تسمع فيه وقع أقدام المستعمر وهو يجوس الديار فيبطش بهذا ويجور على ذاك ويصاد ر حرية آخرين.. فقد ظلت عدن ثائرة تناضل لاسترداد حقها من الكرامة من يوم أن اغتصبها الأجنبي. وإذا ما سكنت يوما فليس أكثر من أن تلعق جراحاتها، وتعيد رص صفوف أبنائها وتتأمل فيما ستقوم به غداً لكسر شوكة الاحتلال وتطهير الأرض من دنسه.فعندما أقام الإنجليز (الاتحاد الفيدرالي للجنوب العربي) كان المغزى مفهوما لأبناء عدن وجاء رأيهم فيه يوم 10 ديسمبر 1963م بأن ألقوا بقنبلة في المطار أودت بحياة (جورج هندرسن) مساعد المندوب السامي البريطاني، وجرح إلى جانبه (53) من كبار الموظفين الإنجليز والوزراء الاتحاديين بما فيهم المندوب السامي البريطاني نفسه السير (كنيدي ترافيسكس). ومن يومها دخل الكفاح المسلح في عدن طوراً جديداً ومنظما وخطا خطواته التنفيذية العملية بدءاً من 6 نوفمبر 1964م بزيارة (انتوني جرينود) وزير المستعمرات الجديد والذي أزاح المندوب السامي في عدن (كنيدي ترافيسكس) من منصبه، ثم صار يحاول إقناع الوطنيين بالاشتراك في حكومة الاتحاد بعد أن كان يقطع الوعود على نفسه قبل الفوز في الانتخابات بأنه سيعدل من السياسة البريطانية بعدن.ومنذ تلك الزيارة ارتفعت وتيرة المقاومة، وفي 24/12/1964م قتلت ابنة قائد سلاح الطيران للشرق الأوسط بقنبلة رماها أحد المقاومين إلى منزل ضابط في (خور مكسر) وفي عيد رأس السنة الميلادية ثم قتل أول ضابط يمني يعمل بالمخابرات البريطانية هو (فضل خليل) بالرشاش وسط سوق مزدحم في (كريتر) وبلغت حصيلة شهري نوفمبر وديسمبر من العام 1964م في عدن بـ(36) بين قتيل وجريح. أما في العام 1965م فقد ارتفعت الإصابات إلى (237) بين قتيل وجريح ناجمة عن (286) عملية قامت بها المقاومة.وركز رجال المقاومة في البداية على اغتيال رجال المخابرات البريطانية بالذات. فمن أصل (22) حادثة اغتيال تمت بنجاح في عام 1965م كانت (10) منها موجهة ضد ضباط مخابرات و إحداها في (الشيخ عثمان) تركت فوق جثة المقتول ملاحظة تقول: هذا العميل نفذت فيه الحكم الجبهة القومية. وعلى إثر ازدياد نشاط المقاومة لجأت الحكومة البريطانية في يونيو 1965م إلى إصدار قانون الطوارئ وحظرت بموجبه نشاط الجبهة القومية واعتبرتها حركة إرهابية.وفي 29 أغسطس 1965م قامت الجبهة باغتيال ضابط المخابرات البريطاني (هادي باري) وهو يمر بسيارته ذاهباً إلى عمله صباحا ثم تبعه بأيام اغتيال (آرثر شارلس) رئيس المجلس التشريعي، فتسبب ذلك بهزة عنيفة للإنجليز فرضوا على أثرها منع التجوال في (كريتر). وهو الأمر الذي لم يردع المقاومة بل دفع الحركة العمالية والمؤسسات الوطنية الأخرى إلى إعلان الإضراب العام في 2 أكتوبر 1965م فرد الإنجليز على هذا بأمر الجيش النظامي بقمع المظاهرات، وتم اعتقال (760) شخصاً وتم زج عدد من زعماء الحركة العمالية بالسجون وإغلاق صحيفتين.. كما أنشأ الإنجليز لواء خاصاً بعدن يسمى بلواء (أيدن بريجيد) وتم تقسيم عدن إلى أربع مناطق أمنية إضافة إلى إجراءات أخرى كثيرة تستهدف الحد من نشاط المقاومة.وفي 22 فبراير 1966م اضطرت بريطانيا إلى أن تعلن في ورقة الدفاع البيضاء بأنها (ستسحب قواتها من قاعدة عدن عام 1968م) لكن ذلك زاد من نشاط الثوار وتكثفت العمليات العسكرية خاصة بعد أن ثبت لهم أن نية بريطانيا كانت في إعطاء الاستقلال في عام 1968م لحكومة الاتحاد بعد أن تقوم بدعمها بالأسلحة وتوفر لها الحماية الجوية من على مسافة قريبة منها.لكن في 13 يناير 1966م ساهمت وساطات خارجية في التقاء جبهة التحرير والجبهة القومية وإعلان الدمج القسري لهما، مما تسبب في الركود النسبي بأنشطة المقاومة لكن الأمر لم يستمر طويلاً، إذ عادت الجبهة القومية للعمل مستقلة بذاتها عقب انعقاد المؤتمر العام الثالث لها في (خمر) بتاريخ 29 نوفمبر 1966م وتم انتخاب سالم ربيع علي مسؤولاً عن جناحها العسكري.. ومثل ذلك تحولا حاسما في مسار الكفاح المسلح والحركة الوطنية. فقد تضاعفت العمليات العسكرية التي تستهدف قوات الاحتلال إلى ستة أضعاف عما كانت عليه في العام السابق، إذ بلغت في عام 1967م حتى شهر أكتوبر منه فقط (2908) حادثة تسببت في (1248) إصابة بين قتيل وجريح بحسب وثائق قوات الاحتلال نفسها.ولأول مرة في هذه السنة تستخدم الأسلحة الصغيرة بكثرة إلى جانب القنابل كذلك زادت المظاهرات والتجمعات وانضمت إليها المرأة على نحو ملحوظ وبارز، وأصبحت الإضرابات العامة الطويلة من مميزات هذا العام أيضاً.وعلى أثرها زاد ارتباك الإنجليز، وأقدموا على تجريد البوليس المدني من صلاحياته في حفظ الأمن ليجعلوها بيد القوات البريطانية، وأعلن منع التجول بعد قيام الجبهة القومية بتنظيم إضراب عام في 19 يناير (يوم الاحتلال البريطاني لعدن) وتساقط عدد من الشهداء من جراء الالتحام مع القوات البريطانية وفي 28 فبراير قام أحد الفدائيين بتفجير لغما في منزل الضابط السياسي (انتوني انجليدو) في شكل لعبة أثناء حفلة عشاء تم فيها قتل امرأتين وجرح (11) آخرين، وبعد أسبوع حدثت عملية مماثلة.وأمام عجز قوات الاحتلال في الوقوف بوجه العمليات الفدائية والمظاهرات والإضرابات والألغام وغيرها، اضطرت لعمل مراكز مراقبة فوق قمم ومنحدرات جبل (شمسان) ذات نواظير وأجهزة لا سلكي لتحذر من خلالها قواتها.. ولكن دون جدوى.وعندما جاءت بعثة الأمم المتحدة في 3 أبريل 1967م صعد الثوار كفاحهم المسلح وبقيت البعثة حبيسة فندق (سيفيو) لتغادر بعد خمسة أيام غاضبة، ورافق ذلك إضراب عام أيضاً. وكانت البعثة قد زارت سجن المنصورة في اليوم الثالث لها فقابلها المعتقلون بالتظاهر والهتاف بحياة الثورة وسقوط الاستعمار. وفي ذلك الأسبوع وحده بلغت الحوادث (280) حادثة تسببت في إصابة (64) بين قتيل وجريح وشهد شهر أبريل موجة صاخبة من الاغتيالات والتفجيرات.وفي الأول من مايو 1967م بدأت السلطات البريطانية بتسفير عوائلها من عدن بحيث يقدر عدد الذين غادروا خلال أسبوعين (8000) شخص، وأقدمت بريطانيا على استبدال مندوبها السامي (ريتشارد ترنبول) باللورد (همفري تريفليان). ونتيجة لأحداث نكسة الخامس من حزيران 1967م اشتدت المقاومة وأجبرت الإنجليز على نقل الكتيبة البريطانية من مقر قيادتها الرئيسية في (خور مكسر) إلى مستشفى (عفارة) في الشيخ عثمان.وفي 19 يونيو أعلن وزير خارجية بريطانيا عن سياسة حكومته القاضية بتحديد تاريخ الاستقلال ووعد بتقوية الجيش الاتحادي ودعمه جوياً بعد الاستقلال من حاملات طائرات بريطانية.. وهذا الإعلان أدى إلى انفجار الوضع في اليوم التالي في انتفاضة عارمة انطلقت من (معسكر ليك)، و(مدنية الاتحاد)، و (معسكر شامبيون) و (معسكر البوليس المسلح) هاجم فيها الثوار المعسكرات وأطلقوا السجناء وأحرقوا المكاتب الاتحادية واحتلوا مبنى السكرتارية العامة ونهبوا الأسلحة والذخائر من معسكر النصر وتمركزوا فوق البنايات، كما أطلقوا النيران على التجمعات البريطانية، وتحول يوم 20 يونيو 1967م إلى يوم مشؤوم في تاريخ الجيش البريطاني، إذ خسر فيه (23) قتيلاً و (31) جريحاً.خلال الأسبوعين اللاحقين بقيت (كريتر) بأيدي الثوار، لكنهم ما لبثوا الانسحاب منها بعد حصار قوات الاحتلال للمدينة، واستأنفت الهجمات بكثافة خلال الفترة يوليو- سبتمبر 1967م في (الشيخ عثمان) والمنصورة وتعرض الإنجليز لأكثرمن (80) حادثة ولاذوا يحمون أنفسهم داخل الثكنات.وفي 23 أغسطس 1967م وجهت الجبهة القومية (8) قنابل (مورثر 8 مم) إلى دار المندوب السامي البريطاني في منطقة (حصينة وعسكرية). وفي 28 سبتمبر وقف هجوم عنيف بالمورتر ضد ثكنات (كانت) في (التواهي). لكن بعد سبتبمر توقفت هجمات الثوار في (عدن الصغرى) و (الشعب) و (الشيخ عثمان) بعد أن اضطرت قوات الاحتلال الانسحاب منها نهائياً وتسليمها لقوات جيش الاتحاد، وكانت القوات البريطانية قد أكملت انسحابها من الأرياف في يوليو تقريباً، ومن (عدن الصغرى) في 13 سبتمبر، و (الشيخ عثمان) في 24 سبتمبر، وتجمعت في خنادق جديدة في (المملاح) التي بقيت فيها حتى تاريخ الانسحاب النهائي في نوفمبر 1967م.ويجدر الذكر أن الفترة الواقعة بين 6-11 سبتمبر كانت قد شهدت انفجار الاقتتال بين جبهة التحرير والجبهة القومية، ثم انفجر القتال ثانية في 3-6 نوفمبر 1967م وكان هذه المرة حاسمة لصالح الجبهة القومية حيث أعلنت القوات المسلحة وقوفها إلى جانبها بصفتها ممثلة وحيدة للشعب.لقد مثل الانسحاب البريطاني من عدن وبقية المدن اليمنية صفحة سوداء في تاريخ القوات الاستعمارية لم يمنح أي منهم فرصة تأدية التحية ومصافحة الأيادي كما جرت العادة عند تسليم الاستقلال، فقد خرجت بريطانيا مكرهة تجر أذيال خيبتها أمام شعب فقير الإمكانيات، عزلته ظروف الاحتلال والنظم الرجعية عن امتلاك أبسط حقوق العيش الكريمة.. لكن الشيء الوحيد الذي لم يقو أحد على سلبه إياه كان إرادته وعزيمته وتشبثه بإنسانيته وحقه في الحياة الحرة الكريمة.. وربما كان ذلك هو الجانب الوحيد الذي تفوق فيه اليمنيون على قوات الاحتلال القادمة من أقصى بقاع الأرض لتتطفل على حياة ومقدرات الشعوب الفقيرة.. ولهذا السبب فقط انتصر اليمنيون، وأعلنوا استقلال بلادهم في 30 نوفمبر 1967م، ولم يقفوا عند هذا الإنجاز، بل أعادوا وحدتم اليمنية في 22 مايو 1990م، وباتوا اليوم مثلاً يحتذى به في الوحدة والديمقراطية والنهوض وصناعة السلام.
من الاحتلال.. إلى الثورة والاستقلال
أخبار متعلقة