لليمن لا لعلي عبدالله صالح ( 12 )
في الحلقة الماضية تناولنا مغزى خلو أي إشارة إلى خطر الإرهاب وسبل تعزيز مكافحته في الوثيقة الانقلابية المسماة (مشروع الإنقاذ الوطني) التي أصدرتها أحزاب ((اللقاء المشترك)) بقيادة حزب التجمع اليمني للإصلاح خلال شهر رمضان الماضي. ولما كان تجاهل خطر الإرهاب امتداداً لموقف راسخ تميز به حزب التحمع اليمني للإصلاح الذي يقود ويوجه تكتل ((اللقاء المشترك)) منذ وقت مبكر، حيث انبرى حمود هاشم الذارحي وهو أحد القيادات السلفية البارزة في حزب ((الإصلاح)) إلى الإشادة بأحداث 11 سبتمبر الإرهابية عبر صحيفة ((العاصمة)) التي يصدرها حزب الإصلاح وذلك في عددها الصادر بتاريخ 31أكتوبر 2002م . ولعل أبرز ما لفت انتباه المراقبين والمحللين في حديث الذارحي الذي نشرته صحيفة « العاصمة « بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لأحداث 11 سبتمبر الإرهابية, قوله إن تلك الأحداث (أسهمت في تقريب المسافات بين آمال الحركات الإسلامية وحلم إقامة دولة الخلافة على مناهج النبوة) !!إلى ذلك تصدىّ نواب حزب « الإصلاح» وعلى رأسهم الدكتور منصور الزنداني والشيخ محمد الحزمي بشراسة غير مسبوقة للبرنامج الوزاري الذي تقدمت به حكومة حزب المؤتمر الشعبي العام لنيل الثقة الدستورية من مجلس النواب, بعد فوزه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة لعام 2003م، على نحو ما أوضحناه في الحلقة السابقة, استناداً إلى ما نشرته صحيفة «الصحوة» لسان حال حزب التجمع اليمني في عددها الصادر يوم الخميس 19 يونيو 2003م , والذي أبرزت فيه بخطوط سميكة وعناوين غليظة اعتراضات نواب حزب « الإصلاح» على ما جاء في برنامج حكومة المؤتمر الشعبي العام من التزام وتصميم على مكافحة الإرهاب ، ومطالبتهم بشطب هذه المهمة من البرنامج الوزاري!!!؟؟ بوسعنا القول إن القراءة الدقيقة لأبعاد المشروع ((الإنقاذي)) الذي أشهرته أحزاب «اللقاء المشترك» بقيادة حزب التجمع اليمني للإصلاح في شهر رمضان المنصرم، ستساعدنا على معرفة جذور هذا المشروع الذي لم يصدر من فراغ ، بل هو نتاج لتراكم معقد من المواقف والممارسات والتوجهات والأفكار الملتبسة بمشروع إقامة الدولة الدينية التي يجاهد في سبيلها (الإخوان المسلمون) سواء من خلال التجمع اليمني للإصلاح الذي يختبئون خلفه ، أو من خلال الجماعات والواجهات والتحالفات السياسية والقبلية. بمعنى أن هذه القراءة تتطلب العودة إلى جذور هذا الحراك في مساراته الأولى, على نحو ما فعلناه عند استحضار اعتراض نواب حزب «الإصلاح» على تضمين برنامج حكومة المؤتمر الشعبي العام التزامات وتعهدات بمكافحة الإرهاب، ومطالبتهم بشطب كل ما يتصل بمكافحة الإرهاب من البرنامج بحجج واهية أوضحنا هشاشتها وإفلاسها في الحلقة السابقة من هذا المقال .في هذا السياق يمكن العودة ــ أيضا ــ إلى البيان الختامي الصادر عن المؤتمر الثالث لحزب التجمع اليمني للاصلاح الذي انعقد في صنعاء اواخر عام 2002م ، حيث حاول ذلك البيان إظهار القلق على الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية بعبارات خطابية تحريضية ، فيما حرص أيضاً على تسويق المشروع السياسي لحزب «الإصلاح» كوصفة سحرية جاهزة - لا يأتيها الباطل - لإنقاذ البلاد من المخاطر التي تهدد حاضرها ومستقبلها ، وإخراجها مما وصفه ذلك البيان «النفق المظلم» ؟؟ بيد ان قرارات وتوصيات ذلك المؤتمر لم تتطرق على الإطلاق للأضرار المباشرة والخطيرة التي أصابت بلادنا من جراء الأعمال الإرهابية التي تسببت في استنزاف امكانات وقدرات هائلة لمواجهتها على المستوى الأمني، وكبدت اقتصادنا الوطني خسائر فلكية بلغت ملياري دولار حتى نهاية عام 2002م فقط، في قطاعات حيوية مثل السياحة والبيئة والنقد والمصارف والنقل والموانئ والملاحة البحرية والنفط والإستثمار والتحويلات الخارجية ، بالإضافة إلى الأضرار التي الحقتها تلك الجرائم الإرهابية بسمعة اليمن ومصالحها في الخارج ، ناهيك عما يترتب على استهداف المصالح الأجنبية في الموانئ والأراضي اليمنية من مخاطر إضافية تصل ذروتها في توفير الذرائع للقوى التي تتربص ببلادنا، وتسعى إلى التحريض ضدها بدعوى عدم التزامها بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية الخاصة بمكافحة الارهاب ومنعه من الحصول على ملاذ آمن .اللافت للانتباه أن المؤتمر الثالث لحزب التجمع اليمني للإصلاح تناول على استحياء موضوع الإرهاب في الباب السابع من بيانه الختامي الذي تم تخصيصه للقضايا العربية والدولية ، حيث ندد البيان من خلال سطر واحد فقط بكل (أشكال وصور الإرهاب ، وبالخلط بينه ومقاومة الاحتلال) . وقد تمت صياغة هذا السطر بعمومية فضفاضة تنطوي على نوع من « الاحتيال والتمويه» بهدف الهروب إلى الأمام ، وعدم تحديد موقف واضح من الأعمال التي ارتكبتها في بلادنا جماعات متطرفة تتستر بالدين وتتاجر بالقضية الفلسطينية ، وتصر على تقسيم العالم المعاصر إلى فسطاط للإسلام وآخر للكفر!!!ومما له مغزى عميق ان البيان الصادر عن المؤتمر الثالث لحزب التجمع اليمني للاصلاح خصص فقرة مستقلة لجريمة اغتيال الشهيد جارالله عمر الأمين العام المساعد للحزب الإشتراكي اليمني الذي لقي مصرعه في قاعة ذلك المؤتمر، لكن البيان خلا من أي إدانة للدوافع التي برر بها القاتل جريمته الارهابية الشنعاء ، واعلنها بوضوح وصراحة .والأكثر إثارة للدهشة هو إفراط البيان في الهروب من مواجهة الحقيقة التي وردت على لسان القاتل، وسجلها المحققون من «ضباط»الأحزاب السياسية المعارضة على شريط فيديو اثناء استجوابه في منزل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر رحمه الله ، بعد وقت قصير من ارتكاب تلك الجريمة الارهابية . حيث اتهم البيان أجهزة الأمن بما أسماه «محاولة أخفاء الحقيقة وتضليل الرأي العام».ولم يكتف البيان بهذا التدليس والتلبيس ، بل تمادى في محاولة تبييض صورة الجماعات الإرهابية بأسلوب يثير الكثير من علامات الاستفهام, خصوصاً عندما ساوى حزب «الإصلاح» بين اغتيال الشهيد جارالله عمر ، ومصرع المدعو أبو علي الحارثي أحد زعماء «القاعدة» ووضعهما في خانة واحدة ، ثم طالب الحكومة بكشف ما اسماها «ملابسات هذه الحوادث الأمنية» !!!؟؟ثمة جذور أخرى للطابع الانقلابي الذي تميزت به وثيقة مشروع «الإنقاذ الوطني» التي اصدرتها أحزاب « اللقاء المشترك» في شهر رمضان المنصرم . وتعود هذه الجذور إلى الفترة التي سبقت الانتخابات البرلمانية الأخيرة لعام 2003م ، حيث وجه الرئيس علي عبدالله صالح آنذاك دعوة لبدء صفحة جديدة مع أحزاب «المعارضة» بهدف تحقيق اصطفاف وطني لدعم عملية بناء الدولة الوطنية الحديثة، وتعميق المسار الديمقراطي للنظام السياسي التعددي, ومكافحة التطرف والإرهاب.كان رد احزاب (اللقاء المشترك) حينها ينطوي على فرض شروط ذات طبيعة انقلابية تستهدف تحويل الاصطفاف الوطني إلى مشروع للانقلاب على الديمقراطية والتعددية، والتسلل إلى السلطة عبر الأبواب الخلفية بدلاً من صناديق الأقتراع.. وقد جاء الرد في صيغة مشروع تحت اسم ( رؤية احزاب « اللقاء المشترك» للاصطفاف الوطني ) ، نشرته صحيفة «الصحوة» الناطقة بلسان حال حزب التجمع اليمني للاصلاح في عددها الصادر يوم الخميس 27 فبراير 2003م, قبل شهرين من التاريخ المحدد للانتخابات البرلمانية .اعترف بانني دهشت كثيراً حينها عندما قرأت تصريحاً للأخ علي صالح عباد «مقبل» الأمين العام السابق للحزب الاشتراكي اليمني في صحيفة (الأيام) يوم السبت الموافق 1مارس 2003م نفى فيه أن يكون حزبه قد وافق على هذا المشروع قبل نشره . بيد أن ذلك النفي ـ الذي كان محصوراً في أسباب إجرائية فقط ـ لا يبرئ الحزب الاشتراكي اليمني من المسؤولية عن محتوى ذلك المشروع الذي نشرته «الصحوة» باسم أحزاب «اللقاء المشترك» ، حيث حرص الأمين العام السابق للحزب الاشتراكي على تجنب أي إشارة انتقادية إلى محتوى الوثيقة ، واكتفى بإبداء التحفظ بحجة نشرها قبل التوقيع عليها عقب اجتماع عقدته قيادات أحزاب «اللقاء المشترك» قبل يومين من نشر هذه الوثيقة في صحيفة «الصحوة» .بوسعي القول إن الذين طالعوا مشروع رؤية احزاب «اللقاء المشترك» للاصطفاف الوطني الذي نشرته صحيفة «الصحوة» في عددها الصادر يوم الخميس 27 فبراير 2003م، صدموا منذ البداية بديباجة ذلك المشروع الذي تحدث عن (ضرورة ترسيخ ودعم أسس الديمقراطية الشوروية والتعددية السياسية كشروط أساسية لبناء الدولة) . ومبعث هذه الصدمة أن الفكر الإسلامي منذ ارتباط الإسلام السياسي بالفكر الملكي الوراثي السلالي الذي دشنته الخلافة الأموية عام 41 هجرية تحت مسمى مذهب (أهل السنة والجماعة)، وحتى سقوط نظام الخلافة السُنيّ في العقد الثاني من القرن العشرين المنصرم ، لم يبلور على امتداد الف واربعمائة عام مناهج وآليات ومؤسسات وسلطات واضحة ومحددة للشورى التي وردت في القرآن الكريم كتكليف ديني ودنيوي بعد الصلاة والزكاة .ناهيك عن أن الفقه الإسلامي لم يبلور احكاماً واضحة وصريحة للشورى ، ولم يورد لها باباً خاصاً على غرار مافعله الفقهاء مع الصلاة والصيام والزكاة والخمس والمواريث والحيض والنفاس والنكاح والوضوء ونقائض الوضوء والحلال والحرام والغزو والجهاد ودار الحرب ودار السلام ، وهو ما سنأتي اليه بالتفصيل في المحور الثانى من هذا المقال حيث سنتناول بالنقد والتحليل بنية الخطاب السلفي العام في اليمن .وحين يتم ربط (الشورى) بالديمقراطية على نحو ما جاء في ذلك المشروع الذي نشرته صحيفة (الصحوة)، فان ثمة خوفاً لا يجوز اخفاؤه من حدوث تلاعب أو خلط بين الاوراق والألفاظ والمعاني هروباً من الاختلافات الكبيرة والواسعة في المفاهيم والأطر والآليات، وهي اختلافات يستند إليها الفقهاء السلفيون وشيوخ الجماعات الاسلامية المتطرفة التي تسير على نهجهم النقلي في موقفهم المعادي للديمقراطية، بذريعة تعارضها مع (الشورى) الإسلامية، واتهام من يوافق على الديمقراطية من (الإسلاميين) بالتغريب والخروج عن الجماعة ، ومهادنة النظم والطوائف الممتنعة ، وعدم البراء من الأفكار التي تصدر عن الغرب الكافر!! وفي توجه سافر لمصادرة حرية الاختيار، أشارت الديباجة بوضوح لا لبس فيه إلى تعددية سياسية بدلاً من تعددية حزبية وفكرية ، بمعنى الدعوة إلى نظام شمولي أوامري مركزي يتم تجميله بهامش من التعدد المؤقت في الآراء والتصورات السياسية اثناء المرحلة التي تسبق اتخاذ القرارات ، وهو ما يحدث عادة في أنظمة الحزب الواحد أو الجبهة الوطنية المتحدة . على العكس من التعددية الحزبية التي تتجسد فيها خيارات برامجية ورؤى فكرية متعددة ، استناداً إلى منظومة واسعة من الحريات والحقوق المدنية والسياسية ، تدعمها ضمانات وآليات دستورية للتعبير عن الرأي والفكر والحصول على المعلومات, وحق الأقلية في مواصلة موقفها المعارض لسياسات وبرامج الأغلبية.صحيح ان مشروع رؤية احزاب «اللقاء المشترك» للاصطفاف الوطني لعام 2003م والذي لا يمكن فصله عن مشروع « الإنقاذ الوطني» لعام 2009م، اشار في بعض فقراته إلى التعددية الحزبية ، بيد انه اقترح صيغة للاصطفاف الوطني تلغي حق الأحزاب والتيارات الفكرية والسياسية في التنافس على كسب ثقة الناخبين من خلال برامج ومشاريع سياسية مختلفة ، وتحرم المجتمع ــ بالضرورة ــ من حقه الذي يضمنه دستور الجمهورية اليمنية في اختيار انسب الخيارات وأفضلها ملاءمة لتطوره اللاحق عبر صندوق الاقتراع . فأحزاب (اللقاء المشترك) طالبت في ذلك المشروع بدمج التعددية الحزبية في أطار (منظومة سياسية متكاملة) تجسيداً لما أسمته (الديمقراطية الشوروية) .. ثم اقترحت بعد ذلك تشكيل لجان متخصصة من أحزاب هذه (المنظومة) للقيام بإلغاء أو تعديل كافة السياسات والبرامج الحكومية التي نفذتها حكومة المؤتمر الشعبي العام خلال السنوات السابقة لانتخابات 2003م بموجب تفويض دستوري حصل عليه الحزب الحاكم من أغلبية الناخبين والناخبات في الانتخابات البرلمانية السابقة ، خلال الأعوام 1993ـ 1998ـ 2003م .. وهو ما يعني تغيير كافة السياسات والبرامج الحكومية بواسطة (لجان متخصصة) تستمد شرعيتها من (المنظومة السياسية) التي اقترحتها وثيقة احزاب (اللقاء المشترك) في عام 2003م ومشروعها لما يسمى (الإنقاذ الوطني) في عام 2009م، لا من خلال تداول سلمي للسلطة يستمد شرعيته من إرادة الناخبين والناخبات عبر صناديق الاقتراع .والثابت أن القاسم المشترك بين مشروع رؤية أحزاب «اللقاء المشترك» للاصطفاف الوطني قبل انتخابات عام 2003م ، ومشروع هذه الأحزاب لما يسمى (الإنقاذ الوطني) لعام 2009م على طريق الانتخابات البرلمانية التي تقرر تأجيلها إلى عام 2011 م ، هو الإفراط في اختزال دور الأحزاب السياسية في إجراء جراحة دستورية كبيرة تستهدف تعديل شكل النظام السياسي التعددي وتغيير مؤسساته الدستورية المنتخبة . وقد كان المدخل الأساسي إلى المشروع الأول في عام 2003م والمشروع الثاني في عام 2009م هو الدعوة لإصلاح النظام الانتخابي عن طريق الأخذ بنظام القائمة النسبية الذي يحتاج تطبيقه إلى تعديل مادة دستورية واحدة فقط ، فيما تطمح أحزاب (اللقاء المشترك) إلى استغلال فتح هذا الباب لتمرير تعديلات دستورية واسعة تحقق الأهداف الانقلابية التي يتطلع إلى تحقيقها حزب التجمع اليمني للإصلاح بصورة أساسية، سواء في المشروع الأول الذي نشرته « الصحوة» باسم أحزاب اللقاء المشترك في أواخر فبراير 2003م ، أو في المشروع الثاني الذي أعلنته أحزاب «اللقاء المشترك» تحت مسمى«الإنقاذ الوطني» ، في منتصف سبتمبر 2009م ، وهو ما سنتناوله في الحلقة القادمة من هذا المقال بإذن الله .[c1]* عن/ صحيفة ( 26 سبتمبر) [/c]