مع الأحداث
أزعم أن قصور معرفة التاريخ الحقيقي للعرب والتباس مفهوم العروبة وتعريف العرب هو ما يفسر دور الكثيرين من قادة الرأي العام العربي في الترويج لعوامل فرقة العرب, بدلا من دورهم في التنوير الواجب بواقع’ الوحدة رغم التنوع’ بين الشعوب العربية! ولست قوميا عربيا! بل أقول هذا من موقع الوطنية المصرية, مدركا أن عهد مصر بالتعريب يقل عن ربع تاريخها المكتوب, وأن الحقبة القبطية في تاريخها قد امتدت لأكثر من ألف عام نصفها بعد الفتح الإسلامي العربي, ومسلما بحداثة عهد مصر المعاصرة بفكرة’ العروبة’ ودعوة’ القومية العربية’, ومعتزا بالانتماء للحضارة المصرية الفرعونية العظيمة!والحديث عن’ التاريخ الحقيقي للعرب’ تبرره حالة فقدان الاتجاه بين صفوف النخبة السياسية والثقافية المصرية إزاء مسألة دور مصر الإقليمي! أقصد توزعها بين: موقف’ وطني انعزالي’ يعززه واقع تفكك العالم العربي نتيجة التمايز والأنانية والاقتتال والمؤامرة! وموقف’ ليبرالي مستغرب’ ينشد الالتحاق بالغرب في سياق العولمة أو المتوسطية أو حتي الشرق أوسطية! وموقف’ إسلاموي سلفي’ يعلي فكرة إحياء الخلافة علي الولاء للوطن المصري أو الانتساب للهوية العربية! وموقف’ قومي عربي’ يغذيه حنين إلي زمن الصعود الناصري الذي ولي وانقضي بما له وما عليه! ولعل السياق الموضوعي لحالة فقدان الاتجاه هذه يكمن في واقع انقسام البلدان العربية منذ تصادمت أيديولوجيا في زمن الحرب الباردة, وتمايزت ماليا في حقبة النفط, وتفرقت بانفراد السادات بمبادرة السلام, ثم تمزقت بارتكاب صدام لجريمة غزو للكويت! أضف إلي هذا, إخفاق دعوات التكامل الاقتصادي العربي ووأد المحاولات العربية للتصنيع المستقل وتهميش الاقتصادات العربية في سياق العولمة, من جهة, ثم إعلان أمريكا حربها ضد’ الإرهاب’ والسعي إلي تفكيك’ النظام الإقليمي العربي’في سياقها, من جهة ثانية, واشتعال حرائق الاقتتال الأهلي في’ البلدان العربية’ التي أهدرت حقوق المواطنة فوجدت القوي الدولية والإقليمية سبيلا لتأجيجها, من جهة ثالثة!وفي ذكرى مرور خمسين عاما على إعلان دولة’ الوحدة’ بين مصر وسوريا وإن أودي بها انفصال’ الجمهورية العربية المتحدة’ وعمرها ثلاث سنوات لا غير! ورغم حالة الفرقة والتفكك التي يعانيها العالم العربي عشية قمته المرتقبة في دمشق وإن سادت هواجس مبررة بشأن رؤية العرب لها باعتبارها’ قلب العروبة’ النابض!.. أقول إنني رغم هذا وذاك وجدت طرحا جديدا جسورا وجديرا بالتعريف في كتاب’ التاريخ الحقيقي للعرب’, الذي فاجأني مؤلفه بيير روسي بأطروحات’ غائبة’ عن العقل العربي و’مشوهة’ في العلم الغربي! وبإيجاز, فإن الباحث الفرنسي أستاذ التاريخ اليوناني يدحض, من جهة, فكرة أن’ فضل العرب الحضاري’ على أوروبا يقتصر على دورهم في ترجمة التراث الإغريقي, وهو ما يكتفي به’ المنصفون’ من مؤرخي الغرب حين يشيرون إلي’ فضل العرب’, ويوظفه العنصريون من ساسة الغرب الساعين للانتقاص من دور العرب والحط من قدرهم! ويتحدي, من جهة ثانية’’ مسلمة’ أن’ تعريف العرب عرقيا’ يقتصر على بدو شبه الجزيرة العربية دون غيرهم, كما روج’ علماء’ الغرب الذين درسوا تاريخ’ الشرق الأدني’ ويدرسون حاضر’ الشرق الأوسط’,فخدموا وما زالوا ساسة الغرب الساعين إلى تفكيك المنطقة بل وتفكيك دولها. ويفسر, من جهة ثالثة, حقيقة انتشار الإسلام واللغة العربية, كاشفا جذور’ كراهية العرب والمسلمين’ في الغرب, وهي الكراهية التي يغذيها منظرو’ الحرب الأمريكية ضد الإرهاب’ بزعم تطور من أنه وليد: إرهاب’ منظمات إسلامية’ وفاشية’ الإسلام السياسي’, إلي كونه نتاج’ المجتمعات العربية المسلمة’ بل ثمرة’ دين ونبي’ الإسلام ذاته!وأعود إلى’ التاريخ الحقيقي للعرب’, فأتذكر ما كتبه ول ديورانت في المجلد الأول عن نشأة الحضارة:’ الشرق الأدنى’ من موسوعته قصة الحضارة:’ قد تكون قبيلة البدو- كبدو بلاد العرب- على درجة نادرة من الفتوة والذكاء لكن ذكاءها بغير الحد الأدني من الثقافة الذي لابد منه وبغير اطراد موارد القوت ستنفقه في مخاطر الصيد ومقتضيات التجارة بحيث لا يبقى لها منه شئ لوشي المدنية’ موضحا أن الزراعة هي أول صورة تبدت فيها’ الثقافة’, حيث تفهم’ الثقافة’ هنا بمعني’ الحضارة’. ويتحدى روسي هذا النفي لدور العرب في نشأة الحضارة, بأن هذه النشأة كانت في بلدين عربيين على ضفاف نيل مصر وبين نهري العراق! ورافضا الادعاء الكاذب بأن الغرب قد حضر بلدان العرب لأن الحقيقة هي العكس! ومستنكرا أن الغرب قد أنقص قدر العالم العربي وكاد يدفنه حيا! يطالب روسي المفكرين والعلماء العرب بدحض هذا الدجل الذي بات تاريخهم ضحية له! ويوضح أن’ نزعة المركزية الأوروبية قد عينت مصادر الحضارة الغربية في شبه الجزيرة الهيلينية المجدبة في اليونان وعلي ضفاف نهر التيبر الفقيرة في إيطاليا, بينما’ الحضارة العربية الكبري’ قد بسطت معرفتها وقيمها على العالم القديم... منذ كتبت في فجر التاريخ على ضفاف النيل وبين النهرين’. ومدركا أنه حيث يتحدث عن’ الوطن العربي’ يعارض نظرية مقدسة تجعل من العربي شخصية صحراوية انبثقت في التاريخ في عهد غير محدد أو معروف, ومستنكرا ما كتبته دائرة معارف الإسلام’’ إن عهود العرب الأولى في التاريخ غامضة جدا إننا لا نعرف من أين أتوا ولا ما هو وجودهم البدائي’, يضيف إنه آن الأوان’ كي ندرك إنه إذا كان غربنا محبوبا وغنيا وجميلا ومنظما فإنما يعود فضل ذلك كله إلى’ الامبراطوريات العربية الكبري’ التي خلقت وأوجدت مثل هذه السعادة’! مشيرا إلي’ دول المصريين والبابليين والسوريين الكنعانيين والإغريق الحيثيين حيث ولدت الحضارة وازدهرت, ولم تكن أثينا وروما سوي انعكاس لها’.ثم يفصل روسي في شرح إسهام الحضارة العربية الإسلامية. ومشيرا إلى أن اللغة العربية قد لقيت حظا لم تعرفه أية لغة أخرى في انتشارها, وأن الإسلام قد انتشر بيسر دون جيوش جرارة وسيوف مسلطة مزعومة! يفسر هذا بالتقارب الثقافي التاريخي لشعوب’ الشرق’ حتى الهند وتخوم أوروبا المتوسطية, والرغبة في التحرر من نير الروم وعرش كسري, وترحيب أقباط مصر والمسيحيين الشرقيين عموما خلاصا من اضطهادهم دينيا من قبل’ الفرنجة’ بذريعة الخلاف حول طبيعة السيد المسيح!ثم نقرأ في موسوعة جمال حمدان’ أن عرب الجزيرة من الساميين بل هم قلب السامية إن لم يكونوا أصلها’. لكن عالمنا العظيم, وإن وقع في’ شرك المفهوم’, تقوده موضوعيته للتسليم بحقائق حاسمة الأهمية, بينها أنه’ ليس من شك أن الساميين والحاميين الذين ينتمي المصريون إلى المجموعة الأخيرة منهما هما تعديلان من عرق جنسي مشترك أو فرعان من شجرة واحدة وأن التمايز بينهما إنما تم في زمن ليس بالبعيد جدا بدليل أوجه التشابه العديدة بينهما لغويا وحضاريا, فضلا عن الصفات الجسيمة ذاتها التي تجعلهما معا أقارب للأوروبيين من جنس البحر المتوسط!, وموضحا’ أن العروبة مضمون ثقافي لا جنسي أولا’ يؤكد أن كل الغطاء البشري الذي يغطي ما يعتبر الآن العالم العربي هو أساسا فرشة واحدة من جذر واحد وإن تطورت اللغات والألسن, ويسجل قرب اللغة العربية السامية من اللغة المصرية القديمة الحامية السامية, ويعلن إن مقياس العروبة ليس جنسيا ولكنه كمية اللسان العربي التي’ استعيرت’!لكن الباحث الفرنسي يمضي لأبعد من’ باحثنا العروبي’, إذ يعلن دهشته من أن العرب قد وافقوا على تعريف أنفسهم من قبل أجانب بأنهم’ ساميون’, وهو’ اختراع متولد عن خيال اللغويين الألمان.. لا أثر له قبل القرن18’ ويقول: إن الأمر سيكون بسيطا للغاية لو قلنا’ العرب’ بوجودهم الاجتماعي والثقافي واللغوي المستمر منذ آلاف من السنوات! ورافضا ما وصفه’ زيفا وضلالا باسم السامية المزعومة لفصل العرب عن المجموع الثقافي المصري والكنعاني والبابلي’! يؤكد أن’ اللغة العربية المعاصرة قد تطورت عن اللغة الآرامية, التي تطورت بدورها عن اللغات المصرية والكنعانية والأناضولية والآشورية البابلية حيث توجد في أصولها جميعا العناصر الأساسية للغة العربية’! ومشيرا لأن الإغريق كانوا يعترفون بأنهم تلاميذ المصريين والبابليين, يفسر تشويه الغرب لتاريخ وتعريف العرب برغبته في جعل العبرانيين الجدود’ الساميين’ لحضارة’ العرب’ وتبرير عدوانه على العرب! الباديء منذ اضطهاد الكنائس الشرقية والحروب الصليبية! [c1]* عن/ صحيفة “الأهرام” المصرية[/c]