اضواء
خلال السنوات الثلاث الماضية، أصبحت مسألة جلب الاستثمار الأجنبي للمملكة أولوية، وأصبح لها حضورها الكبير في المشهد الاقتصادي الإعلامي، لا يكاد يمر أسبوع واحد دون إعلان كبير عن تدفق استثمار خارجي أو عن شراكات اقتصادية تجمع بين المستثمر المحلي والأجنبي أو قروض تمويلية بالمليارات. جميل أن تتحرك تلك الرؤية التي تخطط لمستقبل اقتصادي متنوع المنافذ والمصادر، وجميل أن تتحرك تلك الآلة التمويلية الضخمة للاستثمار في واجهات اقتصادية في المملكة. إلا أن هناك تساؤلات عدة، على الاقتصاديين والمعنيين أن يجيبوا عليها. هناك حلقة مفقودة، هذه الحلقة المفقودة لم تستقر بعد في موقعها الطبيعي بين مشروع التنمية الوطنية وآليات الاستثمار عبر واجهات الاستثمار الأجنبي أو الشراكات المحلية، باعتبار أن كل مستثمر هو عنوان عمل وقطاع إنتاج وعوائد متحققة. من يتحدث من أولئك الاقتصاديين يتحدث عن آليات وعناوين رئيسية باذخة، ولكنه لا يكشف بدقة كيف يمكن أن تتحول إلى جدوى يمكن قياسها في مشروع التنمية الوطنية، وما أدوات قياس تلك الجدوى، وما تأثير تلك المشروعات الضخمة في وعي وحياة مواطن. اخطر ما يصيب التنمية الوطنية، التعامل معها كجزر معزولة، وغياب المفهوم الشامل للتنمية. اليوم عناوين كبرى لمشروعات وبيئة استثمار أجنبي جاذبة وتأسيس بنى تحتية تحقق شروط هذا الجانب سواء من الناحية المادية أو التشريعية التنظيمية. إلا أن هذا التعامل مع عناوين اقتصادية ضخمة، يظل موجهاً للمتخصصين ورجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال، وكثيراً ما غُيب وعي المواطن في حلقة البحث عن استثمار يعني له شيئاً في النهاية ويحقق له إيجابيات يومية ويؤسس حلول مشكلات تأكل من رصيده التنموي. لهيئة الاستثمار أن تفخر بأن المملكة احتلت عام 2007 المركز الأول بين أكثر دول الشرق الأوسط للتدفق الفعلي للاستثمار الأجنبي، إلا أن هذا العنوان الجميل والكبير، لا يمكن أن يعزز حضور الوعي العام في هذه المسألة، سوى من خلال شرح أبعاد مثل هذا التأثير في التدفق على حياته اليومية. ليس كل المجتمع رجال أعمال أو متمولين أو ممولين أو عاملين في مشروعات استثمار. القطاع الأوسع منه، يقيس مدى نجاح الاستثمار بالمتحقق أو ما يمكن أن يتحقق. الإعلام الاقتصادي مشغول بالعناوين الكبرى. وهذا لا يعفيه من أن ينزل إلى أرض اليومي ليقول للناس ماذا يعني كل هذا؟ وكيف يمكن أن يتحول تنويع مصادر الدخل الوطني إلى مستوى التأثير الإيجابي عليه؟ وما المتوقع من فرص العمل على خلفية هذا الاستثمار؟ ومتى وكيف؟ في منتدى التنافسية الدولي الذي عقد بالرياض خلال الأسبوع الماضي، قال الأستاذ عمرو الدباغ محافظ هيئة الاستثمار إن المملكة حققت المركز الأول بين دول الشرق الأوسط للتدفق الفعلي للاستثمار الأجنبي، والمركز العشرين في العالم وفقاً لتقرير منظمة (الاونكتاد) بعد أن بلغت الاستثمارات الأجنبية المباشرة المنفذة بالمملكة على أرض الواقع 68مليار ريال. وأن نتيجة لتحسن تنافسية البيئة الاستثمارية في المملكة زادت قيم تراخيص الاستثمار الصادرة عن الهيئة بشكل كبير، حيث أصدرت الهيئة خلال العام الماضي تراخيص لمشروعات مشتركة وأجنبية بلغ تمويلها 334 مليار ريال، بنسبة نمو 32 بالمئة مقارنة بعام 2006، وبيَّن أن الهيئة استطاعت تجاوز هدفها المعلن في بداية عام 2007 والقاضي بترخيص مشاريع بتمويل يصل إلى 300مليار ريال مع نهاية العام نفسه. هذه المعلومات تثير الإعجاب، وينطوي عليها تقدير المنجز. إلا أن السؤال الباقي لم يُجب عليه المحافظ. ما المتوقع أن توفره هذه الاستثمارات من فرص العمل؟ وكيف يمكن قراءة الجدوى في مثل تلك المشروعات كعوائد على المملكة أو عوائد على المنتج الوطني أو على المواطن - الهدف النهائي للدولة - في مثل هذه القطاعات. وما الفترة الزمنية المتوقعة لتحقيق ذلك. كيف يمكن أن تتحرك الخطة التنموية جنباً إلى جنب مع تلك الاستثمارات المتدفقة. ما مدى قياس التوجه نحو التعليم والتدريب الذي يمكن أن يضخ في أوصال هذه المشروعات قوى عمل وطنية.. إلخ من هذه الأسئلة التي لم يُجب عليها بعد. هناك قضية غاية في الأهمية علينا أن نكتشف أننا بعيدون عنها اليوم وفي عدة مجالات. وهذه القضية محورها السؤال الذي يمكن طرحه هنا وبكل وضوح: هل يمكن خلق بيئة استثمار مميزة من خلال تسهيلات أو قوانين أو إعفاءات أو بنية مادية تحتية؟ أين ذهب الوعي الوطني في مجمل هذا المشروع. كيف يمكن حشد الطاقات الوطنية في صلب الانسجام مع مشروعات الاستثمار الكبرى سواء الأجنبية أو ذات الشراكات المحلية؟ إن كان ذلك على مستوى الإعلام أو التعليم أو التدريب أو قياس الجدوى - لا على قطاع الاقتصاد الرسمي وعوائد الصادرات - بل أيضاً على مستوى الشرائح اليومية التي تتعامل مع هذه التحولات في سياق الاقتصاد والاستثمار المفتوح. في نظري أن هيئة الاستثمار لا تحتاج فقط لدعم أجهزة الدولة وتضافر جهود الأجهزة المعنية لتحقيق أهدافها فقط، بل لا بد من إعادة صياغة مفهوم الإعلان الاستثماري وفق أيضاً مصالح المواطنين، سواء من حيث الإعلام الأمين والدقيق الذي يضع المواطن في صلب هذه التحولات ولا يخاطب فقط شرائح الاقتصاديين ورجال الأعمال، كما لا يكتفي بالعناوين الرئيسية للاستثمار ويغفل القضايا الوطنية الشائكة المرتبطة بهذا الاستثمار كعوائد أو نتائج تترتب على كل هذا في جوانب أخرى، فنحن اليوم لا نسمع سوى وجهات نظر من طرف واحد ومقتضبة وبعيدة عن القراءة النقدية. الأمر الآخر، هل تتحرك خطط التدريب والتعليم جنباً إلى جنب من تلك المشروعات الاقتصادية حتى يمكن فعلاً أن تكون عامل توفير فرص عمل مجدية، وهو الأمر الذي يربط المواطن بتلك المؤسسات الاستثمارية ومن خلالها يدرك آثارها على حياته، فلا تنمية حقيقية ومتواصلة بدون دعم الشرائح الاجتماعية الواسعة لتلك المشروعات وارتباطها بشكل أو بآخر بوعيها الاقتصادي.. وصولاً إلى مستوى أن تكون شركات واستثمارات تعمل في إطار العوائد المتحققة داخلياً، مثل عوائدها على المستثمر الأجنبي أو الشريك المحلي على حد سواء. الخشية أن تأتي هذه الشركات بأطقمها الفنية والإدارية والتشغيلية لنكون فقط الفرصة المتحققة والبيئة المثلى للاستثمار، وقد ترحل دون أن تخلف أثراً تراكمياً يمكن البناء عليه. التوجهات الاقتصادية الحالية لتوفير أجواء استثمار آمنة ومغرية وجاذبة لن يتحقق عبر آليات قانونية أو توفير أنظمة مرنة أو بنى تحتية مستوعبة توفرها مدن اقتصادية حديثة وبالغة الكلفة اليوم، بل تتوفر أيضاً من خلال خلق شعور عام بالعائد الكبير لدعم هذا التوجه وقياس آثاره بين فترة وأخرى واستلهام نتائجه على المستهدف الرئيسي في مشروع تنمية. [c1]عن / صحيفة (الرياض) السعودية [/c]