من حق اليمنيين أن يسعدوا ويفخروا في آنٍ واحدٍ بالتطور الذي تشهده التحولات الديمقراطية في اليمن لجهة ما تنفرد به من تميزٍ وقدرة متسارعة على الانجاز في ظروف بالغة التعقيد.بعض هذه الظروف يعود إلى أنّ اليمن جزء ٌمن بيئة إقليمية تتجاوب ببطء وحذر شديدين مع تحديات الإصلاح السياسي ورياح التغيير الديمقراطي ، فيما يعود البعض الآخر إلى ظروف داخلية تتسم بتعقيدات موروث التخلف ورواسب الثقافة الشمولية ، وهو موروث لا يمكن إنكار أو تجاهل تأثيره السلبي على مضاعفة كوابح النمو ، وإبطاء مفاعيل التجديد الديمقراطي.مما له دلالة أنّ الشوط الذي قطعته العملية الديمقراطية منذ قيام الجمهورية اليمنية ، وبناء أول نظام سياسي تعددي في الثاني والعشرين من مايو 1990م ، يؤشر على مسار ثابت ومتجذر للمشروع الوحدوي الديمقراطي بما هو مسار وطني نهضوي حضاري متعدد الأبعاد.بوسع كل متابع محايد وموضوعي للمشهد الانتخابي الراهن الذي تتبارى فيه كافة الأحزاب والتنظيمات السياسية وقوى المجتمع المدني من أجل الفوز بالسلطة وتداولها سلمياً عبر الانتخابات الرئاسية والمحلية ، أن يلاحظ صعود ورسوخ الموقع المتقدم للتجربة الديمقراطية اليمنية قياساً على تجارِب ديمقراطية أخرى في العالمين العربي والاسلامي .لعل أبرز ما يميز المشهد الانتخابي الراهن هو المشاركة الفاعلة لمختلف الأحزاب السياسية في عمل ونشاط اللجنة العليا للانتخابات بوصفها الجهاز الفني الذي يتولى مهام إدارة وضبط العملية الانتخابية وفقاً للقانون، بالإضافة إلى التنافس المفعم بالحيوية والفاعلية والتعددية في قوائم وبرامج المرشحين للانتخابات الرئاسية والمحلية ، والتي تجسد هي الأخرى مستوى متقدما ًمن المشاركة الفاعلة والواسعة لمختلف ألوان الطيف الحزبي والسياسي في البلاد.يزيد من حيوية المشهد الانتخابي الراهن ، حصول المرشحين المتنافسين في الانتخابات الرئاسية على نصيب وافر من التغطيات الاخبارية في مختلف وسائل الاعلام الرسمية والظهور اليومي في التلفزيون الرسمي الى جانب مشاركة كافة الأحزاب والتنظيمات السياسية من خلال اللجنة العليا للانتخابات واللجان الانتخابية الفرعية في توفير فرص متساوية للدعاية الانتخابية لكافة المرشحين المتنافسين من دون تمييز، وضمان حيادية المال العام والوظيفة العامة ووسائل الإعلام ودور العبادة والمؤسسات والمنشآت التعليمية والعسكرية.لا ريب في أنّ السمات الإيجابية التي يتميز بها المشهد الانتخابي الراهن تضيف زخماً إضافياً إلى مفاعيل العملية الديمقراطية الجارية في البلاد منذ ستة عشر عاماً ، وهو ما جعل مساحة هذه العملية وعمقها أكبر من عمرها المتواضع ، ولعل ذلك يعود إلى أصالة عملية التحول نحو الديمقراطية التعددية التي تحققت بالتزامن مع تحقيق الوحدة اليمنية بوسائل سلمية وديمقراطية ، وبواسطة إرادة وطنية داخلية محضة ، وبعيداً عن أية إملاءات أو ضغوط خارجية ، الأمر الذي جعل من الوحدة والديمقراطية مكونين رئيسيين لأكبر عملية إصلاح سياسي وطني كان اليمنيون سباقين في تحقيقها والشروع في تنفيذها بإرادتهم الحرة ومن دون ضغوط أو مطالب خارجية.ثمة مظاهر عديدة لرسوخ وتطور العملية الديقراطية في اليمن وهو الرقم القياسي الذي وصل إليه سجل قيد الناخبين ، وهو رقم غير مسبوق في العالم العربي والاسلامي وربما في ديمقراطيات أخرى ، من شأنه ان يفتح آفاقاً واسعة للتغلب على مصاعب الديمقراطية ومعالجة تناقضاتها، وردم فجوة عزوف " الأغلبية الصامتة " عن المشاركة في العملية الديمقراطية على العكس مما تعانيه تجارب ديمقراطية عربية وعالمية تتسم بضعف نسبة المسجلين في كشوفات الناخبين قياسا الى اجمالي من يحق لهم التصويت في الانتخابات العامة !وكما هو معروف فقد انتهت عملية تسجيل وقيد الناخبين والناخبات في خريف عام 2002 قبيل الانتخابات البرلمانية الاخيرة التي جرت في ابريل 2003 وسط حراك سياسي وجماهيري اتسم بالحيوية والفاعلية والإنجاز ، ولم يخل في الوقت نفسه من مناخ محموم تداخلت فيه ظلال التجاذبات والاستقطابات الحادة بين اللاعبين الفاعلين في ساحة التعددية الحزبية .وفي الاتجاه نفسه انتهت قبل ثلاثة شهور عملية مراجعة جداول القيد وتسجيل الناخبين الجدد ممن بلغوا السن القانونية التي تؤهلهم لممارسة حقهم الدستوري في الانتخابات الرئاسية والمحلية القادمة ، حيث أسفرت العملية الأولى عن قيد وتسجيل سبعة ملايين ونيف من الناخبين والناخبات في عام 2002، فيما اسفرت العملية الثانية عن تسجيل اكثر من مليون ناخب جديد في العام الحالي 2006 .ومما له دلالة عميقة ان المؤشرات الإحصائية قدرت اجمالي عدد الذين يحق لهم المشاركة في العملية الانتخابية بما يقارب تسعة ملايين ناخب وناخبة.. بمعنى أنّ حصول الغالبية الساحقة من الذين يحق لهم المشاركة في العمليات الانتخابية ارقام قيد و بطاقات الاقتراع.صحيح أنّ البلاد تشهد في الطريق الى الانتخابات الرئاسية والمحلية حراكاً جماهيرياً مصحوباً بتجاذبات واستقطابات حزبية حادة في المجال السياسي للمجتمع المدني الذي انخرط بهمة ونشاط في هذه العملية ، وحصد في نهاية المطاف نسبة قياسية في سجل القيد ومشاركة تنافسية ساخنة للفوز بمنصب رئيس الجمهورية وعضوية المجالس المحلية في المحافظات والمديريات ، بيد أنّ البقاع الرمادية التي تركت بعض الظلال القاتمة على هامش السجل، كانت ضعيفة وغير قادرة على تسويد صورة المشهد وتطويق بريقه المدهش.للدهشة هنا وجهان.. الأول يتمثل في حقيقة أنّ عملية القيد والتسجيل اكتسبت قوة دفع هائلة وعكست ما يختزنه المجال السياسي للمجتمع من ميول قوية نحو الديمقراطية التعددية ، وقدرات متنامية على ممارستها ، واستعداد لترسيخ تقاليدها ومراكمة المزيد من الخبرات والإنجازات التي يستحيل من دونها التخلص من رواسب الثقافة السياسة الشمولية ، وإعادة بناء السياسة في مجتمع مثقل بمصاعب النمو، ومحاصر، بالكوابح والعوائق التي تحول دون تطوره الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.الوجه الآخر الدهشة يتمثل في ذلك الحجم الهائل من التنافس الحيوي بين الأحزاب السياسية - في السلطة والمعارضة على حدٍ سواء ــ ويتضح هذا التنافس بجلاء من خلال الاقبال الواسع على تسجيل الناخبين في قوائم القيد المدى الكبير لقوة الدفع التي أسفرت عن سجل قياسي وغير مسبوق في تاريخ الديمقراطيات الناشئة والحشود الهائلة التي تشارك في حملات الدعاية الانتخابية للمرشحين الذين يمثلون احزابا وفاعليات سياسية كبيرة.من نافل القول إن عزوف ما تسمى في الأدب السياسي بالأغلبية الصامتة من الناخبين عن المشاركة في عمليات القيد والتسجيل والانتخابات في بعض التجارب الديمقراطية العربية والاجنبية ، يشكل تحدياً حقيقياً أمام شرعية الخيارات والبدائل السياسية التي تصل إلى السلطة بواسطة الأغلبية.. فثمة ديمقراطيات ناشئة ومتطورة وعريقة يحتوي سجل القيد فيها على نسب أقل، ولا يتجاوز في أحسنها 50 من إجمالي المواطنين الذين يحق لهم المشاركة في الانتخابات، فيما تبلغ نسبة المشاركين في الاقتراع أقل من 50 من المسجلين الحائزين على بطاقات الاقتراع أو أكثر قليلاً ، وهي محصلة تؤشر على احتقان المجال السياسي في تلك المجتمعات، وانسداد قنوات المشاركة السياسية وخمول مفاعيل المجتمع المدني.. وفي نهاية المطاف تشكل تلك المحصلة خصماً من رصيد الديمقراطية وتقاليدها وثقافتها السياسية.حقاً أنّه لمدهش أنّ يتجاوز سجل قيد الناخبين في بلدٍ فقير ومحاصر بمصاعب النمو، فجوة عزوف " الأغلبية الصامتة" عن المشاركة في العملية الديمقراطية، وهو ما يشكل حافزا ً لتعظيم مفاعيل قوة الدفع الكامنة في المجتمع ، باتجاه مواصلة ردم هذه الفجوة في الانتخابات الرئاسية والمحلية التي تشهد تنافسا مدهشا بين مختلف الاحزاب والفاعليات السياسية والاجتماعية في البلاد ، وإضفاء أكبر قدر من الشرعية على السلطة المنتخبة وتوسيع قنوات المشاركة السياسية للمجتمع المدني.ــــــــــــــــــــنقلاً عن / صحيفة "26 سبتمبر"
|
فكر
مشهد انتخابي يخلو من فجوة الأغلبية الصامتة
أخبار متعلقة