مبادرة الرئيس حول التعديلات الدستورية
د. عبدالواحد عبده هديش[c1]تمهيد:[/c]إذا ما تفحصنا العنوان الرئيس للندوة « استيعاب الواقع وتحولات العصر». بإمكاننا قلب طرفي المعادلة، والقول « تحولات الواقع واستيعاب العصر» وهذا إذا مااخذنا بالاعتبار ان العامل الحاكم والمحدد في تطور المجتمعات الإنسانية، هو العامل الداخلي، وبقدر وحجم هذا العامل ومتطلباته، يتم التعامل مع العصر واستيعاب معطياته.ومع ذلك فان إعادة موضع طرفي المعادلة، كما أوضحته فيما سبق لان يؤدي إلى تغيير جوهري في المعنى والهدف، وذلك لان طرفي المعادلة في كلا الحالتين يؤكدان على التفاعل بين الواقع المعطى تاريخياً في اليمن وبين العصر التاريخي والحضاري الذي يحيط به عالمياً.والى ذلك ولفهم أفضل لموضوعات هذه الندوة، أرى بالضرورة وانطلاقاً من الفذلكة السالفة، ان نحدد طبيعة المرحلة التاريخية والحضارية التي يمر بها اليمن اليوم، وطبيعة العصر التاريخي والحضاري الراهن الذي يجمع اليمن في وجودة مع بقية الشعوب في العالم.فمن أين نبدأ؟ هل من العصر؟ أم نبدأ من الواقع اليمني؟ هل نبدأ من الجزئي؟ أم نبدأ من الكلي؟ والحقيقة عندي، مادمنا في عنوان ندوتنا هذه قد وجدنا ترابطاً بين الواقع وتحولات العصر فأنني اختار البدء من الكلي أي من العصر وذلك للأسباب الآتية:-ان الكلي، وإذ يطوي الجزئي فيه، فانه يمتلك التأثير على الجزئي، اياً كان مدى ومستوى وعمق هذا التأثير.-وبالنظر إلى المعطيات السياسية والحضارية لعصرنا الإنساني/ العالمي اليوم نجد للعوامل الخارجية، ثاتيراً كبيراً على العوامل الداخلية، خاصة، عندما يكون المجتمع المعني ذا حظ قليل من العصرنه وذا مرتبة اقل في سلم التقدم.-1 إلى جانب ذلك يتمتع المجتمع الدولي اليوم بمؤسسات لا تعنى بدولة واحدة ولا تخص إحداها فقط، بل تمتلك من السلطات السياسية والأخلاقية مايجعل من نفوذها يشمل دول العالم جميعها، حتى وان خالط بعضاً من أهدافها، مصالح سياسية أو اقتصادية أو جيو سياسية للدول العظمى والنافذة.[c1]اولاً: ماهي سمات هذا العصر على الصعيد السياسي وماتاثيراته على المسار التاريخي للشعوب؟[/c]1 - ان العالم أصبح يمثل شبه وحدة منظمة في منظومة واحدة، ليس مظهرها فقط الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المختلفة فحسب، ولكن القانون الدولي في الشكل والنظام الحضاري المتحد في الجوهر. فالقانون الدولي الذي يلتزم به كل دولة بمقتضى استقلالها يبلور التزامات الدول بعضها إزاء بعض.وكما ان في هذه الالتزامات امتيازات تحققها الدول، فان فيها كذلك واجبات. وكما ان فيها مكاسب لتدعيم الحرية والمصالح، وفي السيادة المطلقة فلا يمكن لأي دولة ان تضمن أمنها من الدول الأخرى، إذا لم تمنح هي هذا الأمن للدول الأخرى.2 - الحياة الاقتصادية والاجتماعية لأية دولة، لم تعد ملكها ( ملكية مطلقة) وإذا أخذنا المثال الاقتصادي الاستثماري فالدول جميعها تعمل على تطوير بناها الاقتصادية والاجتماعية ولما تتطلبه هذه من التجهيزات الكبرى، لم يعد في الإمكان ان تقوم بها دولة بمفردها وبجهودها المالية وخبرتها وأطرها وكادراتها، أي ثمة ضرورة للتبادل في مختلف المجالات، وقد أصبح هذا التبادل نوعاً من التجارة الدولية، وهي تجارة منظمة تخضع لقوانين الربح والخسارة وأكثر من ذلك فهي تخضع لضمانات، وفي مقدمة الضمانات، النظام الذي تسير عليه الدولة التي تتبادل معها والدول التي لديها الإمكانيات الأكبر لا تقوم بالمغامرة بأموالها وخبراتها في أنظمة لا يضمن نظامها مصير هذه الأموال والخبرات(1) إلى ذلك لكي تندمج أي دولة في النظام الدولي بصيغته هذه عليها ان تنظم نفسها على النظام نفسه المعترف به دولياً وإلا أصبحت نشازاً في المنظومة الدولية يمكن بسهولة ان تخرج منها. معنى ذلك ان اختيار النظام الديمقراطي، أصبح عالمياً وضرورة تاريخية وليست مجرد رغبة.وإذا كانت تلك ، هي التوجهات السياسية في المضمون التاريخي والحضاري وخاصة بعد سقوط ونهاية الحرب الباردة فإنها تؤثر، ولاشك في ذلك، على النظم السياسية للبلدان في القارات المختلفة، بحيث تجد كل دولة نفسها أمام ضرورة ان توائم وضعها ونظامها السياسي، مع جملة تلك المؤثرات لكي تكون جزءاً من المجتمع الدولي.لكن السؤال هنا، هل تستطيع كل الدول من مواءمة نفسها مع تلك المتطلبات؟ هل يقبل وضعها السياسي الراهن ان يقوم بذلك؟ هل يسمح مستوى تطورها التاريخي والحضاري بانجاز ذلك؟وللإجابة عن تلك الأسئلة، وقبل الحديث عن موقع ومكانة المبادرة لنا ان نستعرض بعجالة، كيف يشخص الفكر السياسي العالمي اليوم، طبيعة وأنواع الدول في عالم اليوم، وهو يصنفها إلى خمس مجموعات على النحو الآتي:أ-دول في النظام الدولي: ويعنى بها تلك الدول الراسخة في النظام الديمقراطي.ب-دول في المرحلة الانتقالية إلى النظام الدولي: وهي تلك الدول التي دخلت في تجارب سياسية حديثة في البناء الديمقراطي لنظام الدولة.ج-دول مارقة عن النظام الدولي أو خارجة عن النظام الدولي: ويقصد بها تلك الدول التي لها مهام إرسالية، أولها منظور مختلف للعالم، كما يصنفها البعض بدول دكتاتورية النمو.د-دول ضعيفة أو هشة: وعموماً، توصف بها الدول التي لاتمتد سلطتها على كل مساحتها الجغرافية، وينتشر فيها الفساد بأشكاله المتنوعة. المالي الاقتصادي السياسي.. الأخلاقي... الخ.هـ-دول فاشلة: وهي التي فقدت فيها الدولة سلطتها ونفوذها وتمتلئ بالمنازعات الداخلية بأشكال مختلفة بما فيها الحروب الأهلية.[c1]ثانياً: لسنا هنا في وارد تطبيق هذا التصنيف على بلادنا، إذ ليس مكانه هنا. غير أنني وجدت ان يؤخذ هذا التنصيف بالاعتبار بشان بلادنا عند القيام بأي تصور للبناء الديمقراطي، وذلك لأنه بقدر ما يكون ملزماً لليمن الاستجابة لمعطيات العصر في سياق بناء الدولة الحديثة فان من الضروري معرفة الكوابح الداخلية أمام بناء الدولة الحديثة في اليمن. ولن يتسنى لنا ذلك، إلا بمعرفة في أي من التصنيفات تلك تقع بلادنا. ومع ذلك من المهم ان نلقي لمحة تاريخية سياسية سريعة على تحولات الواقع اليمني، خلال أربعة عقود ونيف من الزمن تسبق لحظتنا هذه، لكي نعرف إلى أي مدى نحن مهياون لاستيعاب تحولات العصر.[/c]وبحسب E.Gilson المؤرخ الأمريكي فان معرفة: (التاريخ شرط مسبق للذكاء السياسي، فمن دون تاريخ لا تتوفر للمجتمع ذاكرة مشتركة عن مكانته في أزمنة سابقة، وعن قيمة المركزية وعن القرارات التي اتخذت في الماضي... لان الذاكرة التاريخية هي مفتاح الهوية الذاتية اللازمة لرؤية موضع الإنسان في مجرى الزمن ورؤية الروابط التي تصله بالبشرية كلها).(2) وفي هذا السياق عندما نقوم بالبحث التاريخي عن بلادنا في العقود الاربعة سالفة الذكر على مستوى بناء الدولة نجد له تعبيرين رئيسين:1 - منذ العام 1962-1990م عاش اليمن بشطريه وكل منهما بطريقته الخاصة تحت ظلال دولة تستمد شرعيتها من ما يمكن تسميته بالشرعية الثورية بما لهذا الشرعية من إنحيازات إيديولوجية اجتماعية وتجاوزات حقوقية بناءً عليها.2 - منذ عام 1990م دخلت البلاد مرحلة تاريخية جديدة كان لها ان تمثل وضعاً أرقى من مرحلة الثورة اليمنية، وهي مرحلة الوحدة اليمنية وارثة كل مشكلات مرحلة الشرعية الثورية، بما تضمنته من جروح نشأت في المجتمع اليمني بشطريه السابقين مايتطلب تصحيحها وإزالتها بآليات الشرعية الدستورية.والشرعية الدستورية هي التي تقوم على حكم الشعب كله بدون تصنيفه فئوياً او طبقياً، وتكون الدولة هنا معبرة عن مجموع الشعب كله بدون استثناء، وهي الشرعية التي تعلي من شان المواطن المتساوية وحقوق الإنسان، والحفاظ على التنوع وتمكينه من التفاعل الايجابي والتبادل السلمي للسلطة والإعلاء من شان القانون، كون تطبيقه الصارم لا يستثني احداً أو طبقة اجتماعية أو فئة كون هذه الممارسة للقانون شكلاً من أشكال العدالة الاجتماعية والمساواة، وإذ اكتفى بذلك، حيث ان التفاصيل من شان المتخصصين في القانون، انتقل للحديث عن المبادرة متخذاً ماسبق الحديث عنه خلفية فكرية للتعاطي مع المبادرة وسوف ابتع بشأنها نفس المنهجية، أي بآخذ الموضوع اجمالاً وما تعينه دلالاته في التحليل الأخير، أي قراءة سياسية تاريخية بخلفية فلسفية.[c1]ثالثاً: قراءة في المبادرة[/c]1 - ان الاستخلاص الأول من قراءة المبادرة إنها تنحو منحى بناء الدولة الحديثة، وهو أمر ضروري بالنسبة لليمن اليوم، للاندماج في المجتمع الدولي، كما إنها تستوعب عدداً من المبادئ المتعلقة بالشرعية الدستورية، وهو مايتضح في بندها المتعلق بالحكم المحلي وسلطاته الواسعة، إضافة إلى مبدأ الانتخاب الديمقراطي لمؤسسات الدولة الحديثة. غير ان مايجب ان توضحه المبادرة في هذا السياق، هو الأمور المتعلقة بالفصل بين السلطات والبعد المؤسسي للأجهزة التنفيذية والتشريعية.فان البعد المؤسسي ديمقراطياً يمنع من شخصنه السلطة والاستفراد بها وفي ذلك خلاص من إحدى معطيات مرحلة الشرعية الثورية نقول هذا على الرغم من أهمية دور الشخصية في التاريخ وليس هذا معيباً في العمل السياسي، بل هو واقع مطلوب ومرغوب في المجتمعات الأقل حداثة فالمؤسسية في هذا المضمار تحد من ان يتحول هذا العامل معيقاً لتطور المجتمع وهذا أمر يساعد على استقرار السلطات وتفاعلها بحيث يعرف كل ذي سلطة وصل إليها باختيار الشعب وانتخابه، ان سلطته تنتهي حيث تبدأ سلطة الآخرين فلا تسطو سلطة على سلطة او تغيبها والبعد المؤسسي في ذلك يبدو في القوانين التنظيمية التي تفصل ما جمله الدستور وتضع التراتب لتنفيذ مايجب تنفيذه من أحكامه، ولهذا نرى ضرورة ان تعنى المبادرة بالقضايا المتعلقة بالبعد المؤسسي وان تضعه مبدأ من مبادئها.2 - أرى ان المبادرة وفي مقاصدها النهائية في بناء الدولة اليمنية الحديثة، لتكون واسطة لتحقيق نقلة حضارية لدى الشعب اليمني، بحاجة إلى رؤية فكرية سياسية تؤطرها، ولتشكل إجابة عن أسئلة لواقع وطموح الشعب اليمني في التقدم الحضاري. ونؤكد هنا هذا الجانب الفكري السياسي لما له من أهمية قصوى لان مواقف سابقة على أكثر من صعيد معرفي نظري في مراحل تاريخية سابقة قام بها مفكرون في إنحاء شتى من الوطن العربي ومنها اليمن في ظلال أزمنة تاريخية لم تكن تتوفر لهم فيها مثل هذه الفرصة، تجربة ملموسة لبناء الدولة العربية الحديثة كضرورة تاريخية على عكس ماهي عليها الأمور اليوم في اليمن على ان تعنى هذه الرؤية بمتطلبات التحديث السياسي والحداثة والإشكاليات الثقافية والحضارية التي تشكل الواقع اليمني اليوم، وهي اجمالاً قضايا كان يعبر عنها في العقود السابقة تحت عنوان الأصالة والمعاصرة، ونحن نفهم اليوم المعاصرة بمعنى إنتاج للهوية الوطنية بشروط العصر، وازعم ان المبادرة قد لامست إلى حدٍ كبير بعض الإجابات، في ما يتعلق بقضايا التحديث السياسي لليمن وفقاً لخصائصه الحالية.3-اتساقاً مع منهجنا في قراءة المبادرة والخلفية التاريخية للواقع السياسي في البلاد نتمنى على صاحب المبادرة ان يضيف إليها مبدأ يتعلق بتصفية الإرث السياسي التاريخي السلبي والذي هو من رواسب ومخلفات الشرعية الدستورية والذي لا يزال فاعلاً بشكل وعوائق متعددة في الحياة السياسية اليوم، حتى تجد لها موقعاً قانونياً ملزماً في الدستور، لتخلص منها بشكلاً منطقي وعادل.[c1]ختاماً[/c]ان الواقع السياسي اليوم يكثف في معطياته الايجابية والسلبية كنقطة تحول تاريخية، يجعل من هذه المبادرة في حال استيعابها لجملة القضايا، بعيداً عن الانتقائية فرصة تاريخية نظرية ستشكل منعطفاً تاريخياً ايجابياً للبلاد، إذا ماطبقت في الواقع العملي، ويمكن حينها ان نحلم بالسلام والديمقراطية معاً وهما اللذان يأتيان بالازدهار للأمم والشعوب القادرة ... فهل نحن قادرون؟ ان صيغة هذا السؤال تعبر عن الموضوع بكونه تحدياً تاريخياً أمام كل اليمنيين.[c1]الهوامش[/c]1 - أزمة المفاهيم وانحراف التفكير، عبدا لكريم غلاب سلسلة الثقافة القومية(33) مركز دراسات الوحدة العربية،ط1، 1998م،ص 105.2 - فكرة التاريخ،ر.ج. كولنجود، ترجمة: محمد بكير خليل، راجعة: محمد عبدالواحد خلاف، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر،1968م القاهرة،ص7.[c1]المصادر والمراجع التي وقفنا عليها:[/c]1 -عبدا لكريم غلاب، المرجع المشار إليه أعلاه.2 -الثقافة العلمية واستشراق المستقبل العربي، مجموعة من الكتاب، س. كتاب العربي رقم(67) يناير 2007م.3 -حرية الفكر وإبطالها في التاريخ، سلامة موسى، دار العلم للملايين، بيروت أغسطس 1974م.4 - الإسلام وأصول الحكم، علي عبدالرازق، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1993م.5 - أسطورة الإطار في الدفاع عن العلم والعقلانية كارل ر.بوبر، ترجمة أ.د.يمني طريف العيد، سلسلة كتب عالم المعرفة الكويتية، رقم(262) ابريل/مايو 2003م. 6 - محمد مالكي قراءة في النمط النبوي الخليفي في القيادة السياسية العربية والديمقراطية المؤلفة بشير محمد الخضرة، مجلة المستقبل العربي يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية، عدد(327)،بيروت،2006م.7 - نص المبادة الرئاسية للتعديلات الدستورية المنشورة في صحيفة الأيام العدنية الصادرة بتاريخ 25 سبتمبر 2007، العدد(5207)،ص3.[c1]* قسم التاريخ-كلية التربية صبر-جامعة عدن[/c]