دعا المفوض الاوروبي للشؤون الداخلية فرانكو فراتيني في لندن، الاربعاء الماضي، الى "اسلام اوروبي". وصرح فراتيني للصحافيين في اعقاب اجتماع للوزراء الاوروبيين عقد بعد ستة ايام على مخطط ارهابي في بريطانيا لتفجير طائرات في الجو "نريد اسلاما اوروبيا". قال ذلك وهو يعلق على مشكلة مسلمي اوروبا وعقدة استعصاء الاندماج الايجابي في مجتمعاتهم الجديدة في مهاجر الغرب. مع أن هناك تفاوتا في مقدار هذا الاستعصاء، ونواة الاستعصاء الصلبة تكمن في العقدة الباكستانية، حسبما يبدو، وكما سيأتي معنا في السطور التالية. لكن قبل ذلك دعونا نتوقف عند حكاية الاسلام الاوروبي هذه. ربما يرى البعض منا ان هذه الدعوة تدخل في اطار الاعتداء على الهوية الاسلامية، منذ كارثة 11 سبتمبر، وذلك الهجوم الذي أراد تذويب "إسلامنا" وتدويره ليصبح ألعوبة بيد الشرق والغرب. ربما يصلح هذا الكلام لو أنه لا توجد مشكلة فعلية، لها مظاهر امنية واجتماعية خطيرة تتعلق بوضع الجاليات المسلمة في الغرب، تعرضهم لمخاطر حقيقية، مع تزايد الاعمال الارهابية التي يقوم بها بعض ابناء المسلمين في مهاجرهم الغربية. إضافة الى زاوية اخرى في النظر، زاوية تاريخية وعلمية، وهي ان ما جرى على الارض منذ فجر الاسلام، لم يكن قراءة واحدة للاسلام. الاحداث السياسية الكبرى، وصراعات الخلفاء والسلاطين والملوك والدول، ومن قبلها احداث الفتنة الكبرى، وما جرى بعد ذلك، وبسبب ذلك، من تشعب الفرق والاتجاهات داخل خيمة الاسلام، كل ذلك ترك بصماته الواضحة على اتجاهات التفسير والقراءة للاسلام بين المسلمين انفسهم. وكل يعتبر قراءته وتفسيره هما الاسلام الحق الصريح. فأصبح لدينا إسلام شيعي واسلام سني واسلام معتزلي، وداخل كل اسلام من هذه الاسلامات ألوان تصل الى حد انشاء قراءة جديدة تختلف تماما عن الاولى، كما حصل مع الاسلام الباطني الاسماعلي داخل الوعاء الشيعي.. وكما حصل من خلافات قرائية كبرى بين المنتمين للسنة ما بين اشعرية وماتوريدية وسلفية اهل حديث، وايضا داخل الاطار المعتزلي، ناهيك من قراءة الخوارج، التي تمثل اقصى الراديكالية الاسلامية، وداخلها هي ايضا يمين ويسار ووسط، تفرعت عنها الاباضية التي اخذت من المعتزلة كثيرا من اصولها، كما الزيدية (الشيعية) في أصلها، ونفس الشيء، اعني التنوع والانقسام الدائم، كما هي آلية الحياة في الخلية الحياة، آلية الانقسام والانتشار، حصل هذا الشيء داخل القراءة السنية، ويكفي ان نقرأ عن الخلافات الحادة بين اهل الرأي (تيار ابي حنيفة) واهل الحديث في صدر الاسلام، للدرجة التي جعلت بعض صقور اهل الحديث الأُوَل يفتون بمروق وظلال ابي حنيفة، اول امام من أئمة المذاهب السنية الرسمية! ونجد هذه النصوص في كتاب مثل كتاب السنة لعبد الله بن احمد بن حنبل، او كتاب الضعفاء للعقيلي .. وحتى لحظة الفقيه الشامي ابن تيمية في القرن السابع الهجري الذي حاربه علماء سنة اخرون، وهو الفقيه الحنبلي، واتهموه بالضلال، وحرضوا عليه السلطان، ونفس الشيء حول الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الذي حورب من علماء سنة اخرين، بل وعلماء حنابلة. إذن، كانت هناك دوما خلافات وتنوعات، تحدث باسباب الاختلاف الثقافي الذي يتحكم بنظر الفقيه وجماعته التي يمثلها، او بسبب اختلاف وتضاد المصالح السياسية، كما يحصل الان في العراق من انبعاث الادبيات الطائفية المقيتة، وصرنا نسمع بمصطلح "الامويين الجدد" على سبيل اللمز من السنة، كما يفعل عبدالعزيز الحكيم، او مصطلح الصفويين الجدد كما يصنع طائفيون سنيون في سياق وصف شيعة العراق كلهم، والحق ان كلا الفريقين ينعش هذا الهجاء الطائفي ويعمقه مدفوعا، شعر او لم يشعر ، بدافع المصلحة السياسية التي يعتقد ان الطرف الاخر يهددها وينتقص منها. اي ان اشخاص مثل الحكيم او حارث الضاري، هما المستفيدان من بقاء اجواء الشحن الطائفي، لانهما يذوبان ويتبخران في ظل خطاب فوق طائفي، خطاب وطني. وتلك حكاية أخرى. الغرض، ان القول بأن الحاجة تدعو الى إسلام اوروبي، ليس امرا يعني هدم الاسلام نفسه، لأن خطوط الاسلام العامة واصوله الاساسية ستظل محفوظة، ولا تنازل عنها، فمثلا لن يلغى القرآن او تطرح سيرة نبي الاسلام، بل يعني ان يأخذ الفقيه وزعماء الجالية بنظر الاعتبار كونهم يعشيون في اوروبا وهم محكومون بقانون غير قانون بلدانهم، وألا يصبحوا هم النشاز الوحيد في المجتمع. والبعض يسأل: لماذا يستطيع الصيني او الهندي او المكسيكسي او غيرهم ان يعيشيوا في هذه المهاجر الغربية، من دون ان يفقدوا هوياتهم الاصلية، وهذا ما لم يطلب من المسلمين اصلا، وهو سؤال قاس وخشن، ولكن يجب ان نطرحه على انفسنا قبل ان يطرحه الاخرون، الذين يتحرجون من طرحه حتى لا يتهموا بالعنصرية. تفكرت في هذه المسائل وأنا أقرا عن حياة المجموعة التي اتهمت بالضلوع في مؤامرة تفجير الطائرات في بريطانيا الايام الماضية، والتي تكشفت عن تورط حلقة باكستانية من مسلمي بريطانيا، تزعمتهم العائلة الباكستانية رشيد وأخوه ووالدهما عبد الرؤوف، او رؤوف من برمنغهام. التقارير الصحافية تقول إن رشيد رؤوف مرّ بحياة معقدة ناجمة عن وقوعه بين ثقافتين، إذ ظلت باكستان تشكل إغراء قويا بالنسبة له حيث هرب إليها عام 2002 بعد أن طُعِن عمه بطريقة غامضة في برمنغهام وهناك انتمى إلى مجموعة إسلامية متطرفة. وأن الابن الأصغر، طيب، زار باكستان ايضا. العائلة البريطانية ـ الباكستانية، كانت تعيش في جراب عازل من الانشطة والتقاليد والهموم يعزلها تماما عن إيقاع المجتمع البريطاني، يعزلها "عزلة شعورية" على حد التعبير الاثير لسيد قطب. أناس موجودون في ضواحي لاهور، وروالبندي، او بيشاور، اكثر من برمنغهام او لندن او مانشستر. هل هذا بسبب وجود عنصرية ضدهم في بريطانيا ؟ لا أدري، ربما، لكن هناك ايضا عنصرية ضد السود وضد الآسيان .. وضد غيرهم، لماذا تختلف ردة فعل الجالية الباكستانية بالذات ؟ حسب تقرير لـ "لنيويورك تايمز" نشرته "الشرق الاوسط" فإن مسؤولا من الشرطة البريطانية قال: "إن استهداف أفراد أسرة رؤوف كان بسبب العلاقة بالجماعات المتطرفة في باكستان وظلت هذه لسنوات تعمل يدا بيد مع القاعدة". والصورة التي رسمها الأصدقاء والجيران والعاملون مع عبد الرؤوف الاب هي لرجل شديد التدين مع تصميم بعدم التخلي عن الأواصر بباكستان أو بتقاليدها وسط الحياة العلمانية البريطانية. وحسب التقرير فعبد الرؤوف يمثل نموذجا للمهاجرين الناجحين في عملهم من أصل باكستاني، حيث أدار فرناً لصنع الخبز وبيع الحلوى القادمة من باكستان. وكان مشاركا بشكل عميق في تشكيل جمعية "إعانة الهلال" الخيرية التي تبرعت بالنقود لضحايا الزلزال الأخير في كشمير وضحايا تسونامي في آسيا عام 2004، وطرحت اسئلة لاحقا حول مصير تلك الاموال. رؤوف، شأن كثير من المهاجرين الباكستانيين في بريطانيا، قام بصورة متكررة بزيارة قريته الأصلية " هافيلي بيغال" حيث يحتفظ ببيت ويمول حسب التقارير بناء جامع. ويقول أصدقاء انه كان هناك لحضور حفل زفاف عندما اعتقل أبناؤه. وكان راسخا في معتقداته بحيث انه اقام مركز دراسة صغيرا للأطفال المسلمين في غرفة في الجزء الخلفي من بيته في شارع سانت مارغريت في برمنغهام. وقالت جارة لهم هي جون ليثبريدج، ان ما يتراوح بين 12 و20 من الصبيان كانوا يحضرون الدروس ثلاث الى اربع مرات اسبوعيا. وكانت زوجة رؤوف، التي لم تغادر البيت من دون حجاب على رأسها ووجهها، تعطي دروسا في القرآن للبنات. ولو رجعنا الى حياة الشبان الباكستانيين الذين كانوا وراء تفجيرات 7/7 العام الماضي في قطارات لندن، لوجدنا نفس القصة، أناس يعيشيون في معازل تامة عن المجتمع ، فما السبب يا ترى في استعصاء الجالية الباكستانية، على الاندماج لا الذوبان ! مع أننا لا ننفي وجود المشكلة لدى جاليات اخرى، لكنها لافتة في هذه الجالية بالذات. حتى العرب المهاجرون، الذين هوجموا كثيرا بعد احداث 11 سبتمبر، نجدهم أيسر اندماجا واقل استعصاء من الباكستانيين! هل نحن ازاء "عقدة باكستانية" تتعلق بالجاليات المسلمة في اوروبا؟ وهل بمقدورنا القول إن "لاسلام الهندي"، بالمعنى الشامل لكلمة الهند، هو السبب في تجذر الشعور بالهوية والتخندق حولها، واستعداد المزاج الباكستاني الدائم للتطرف الاسلامي، آخذين بالاعتبار انفجار الجماعات الاسلامية في باكستان، التي وضعت حكومة مشرف على صفيح ساخن ، لا ندري عقباه. هل السبب يكمن في قصة تاريخية، أقدم، منذ انهيار سلطة الحكم المغولي الاسلامي في امارة دلهي بعد ان تعاقبت الاسر الملكية المسلمة على حكم الهند طوال قرون، لتأتي شركة الهند الشرقية الانجليزية وتفرض الاستعمار، ويتحكم البريطانيون في شبه القارة الهندية بما فيها باكستان، قبل انشائها الحديث، لتصبح البنجال تحت حكم بريطانيا في عام 1757 وتلحق بها السند في 1843 ثم البنجاب في 1849. واستمر وجود أباطرة المغول في دلهي ولكنهم كانوا مجرد أداة في يد البريطانيين. وفي عام 1857 اندلعت ثورة سيبوي ( الجندي الهندي) ضد الحكم البريطاني كآخر محاولة لاعادة حكم آخر إمبراطور مسلم "بهادور شاه" الثاني للحكم ولكن الثورة أخمدت وانتهى عهد المغول، ومعه عهد "الحكومة الاسلامية" وتذكروا هذا المصطلح جيدا : الحكومة الاسلامية. بعد هذا الانهيار تحولت موازين القوى السياسية في الهند واصبح الامر مداولة بين الهندوس والمسلمين، ومع أن المسلمين كانوا يتقاسمون النصاب السكاني، بالنصف تقريبا مع الهندوس، لكن تطورات الاحداث وصعود خطاب الهوية، مع جرح سقوط امبراطورية المغول (وهذا يفسر نشوء حركة إعادة الخلافة العثمانية بالهند اول شيء، وهذا ايضا موضوع آخر) الى ان انفصل المسلمون بباكستان، وبقي بعضهم في الهند مشكلين ما نسبته 25 من سكان الهند، ويتحولوا الى اقلية. هل كل هذه الاحداث، التي مر بها المسلمون الهنود / الباكستانيون، وانهيار سلطة الحكم الاسلامي، ومرارة الاستعمار التي جربوها قبل المنطقة العربية بنحو قرن، هي التي اورثتهم ذلك المزاج المتعصب المتخندق حول الهوية الاسلامية، وبالتالي طرحت سؤال: الحكم الاسلامي، بعد الهجوم على حكمهم، لنصل الى لحظة ابي الاعلى المودودي، الوالد الشرعي لمفهوم "الحاكمية" الذي يعتبر حجر الزاوية في خطاب الحركات الاسلامية المسيسة كلها؟ اسئلة يجب التوقف عندها كثيرا لنتفحص ملامح الاسلام الهندي هذا، ومنتجاته، التي لم تتوقف عند طالبان، ولن تنتهي عند رشيد رؤوف الاخير، وربما تسنح الفرصة لذلك. [c1]* كاتب سعودي[/c]
|
فكر
الإسلام الأوروبي والإسلام الهندي !
أخبار متعلقة