من روائع الشاعر الراحل نزار قباني
قراءة / صقر عبدالله "ابو حسن" لست بالناقد أو الباحث او المتخصص في شرح اسرار قصيدة بلقيس لنزار قباني..ولكنني ايقنت ان بلقيس القصيدة عميقة المعاني لدرجة ان كلماتها تنبؤات وأسرار عديدة.انكشفت مرة واختفت مرات كثيرة.. أحببت قصيدة بلقيس ولا اعرف لماذا؟ حتى ا نني احتفظ بعدد من مقاطعها بذاكرتي. ليس لشيء،لكن من اجل ان امد ذلك الحب إلى اطراف اذهان كثيرة.عندما تبدأ الكلمات مكبوتة حزينة مكبله بها من الالم الكثير وبها من الحقد الاكثر فإنها تبدأ مموهة كلمات في معانيها رسائل عديدة وأحلام وأوهام متنوعة كلمات يفيض من حروفها الإبداع الخالص والجمال الصافي وايضاً السحر تناغم شاعري دقيق في المعاني والكلمات ربط اجزاء هذا التناغم شاعر المرأة كما وصف لكننا وصفناه باسمه نزار قباني لان الاسم دائما هو الاقوى حضوراً والابقى دوماً.. اجاد القباني في فك ي الوثاق الذي يقيد القصيدة العربية غير الموزونة عندما ابتدع اسلوباً جميلاً حاول من خلالة ا ن يخطو خطوات عديدة بالشعر إلى الأمام وفي قصيدة بلقيس التي نشرها بعد مقتل زوجته بلقيس والتي كانت موظفة بالسفارة العراقية ببيروت والتي طالها الدمار ابان الصراع المسلح بين الفصائل اللبنانية هذا الصراع الذي قاد إلى حرب اهلية قتلت بلقيس فرثاها نزار قباني بقصيدة طويلة يقول مطلعها:[c1]شكراً لكمشكراً لكم.. فحبيبتي قتلت.. وصار بوسعكم ان شربوا كأسا على قبر الشهيدةوقصيدتي اغتيلت..وهل من أمة في الأرضإلا نحن نغتال القصيدة[/c]شاعرية قباني جعلته دائماً يغرد خارج سرب شعراء عصره حتى اصبح عدد كبير من الشعراء ينضم إلى سرب قباني..ابتداً القصيدة بشيء من الحلم الذي وفد فجأة..ففي الوقت الذي يكون فيه الحزين يبوح بشيء فمن الممكن ا ن يبوح بالحقد. بالكراهية. بالألم بالبغض تجاه قاتل زوجته او حبيبته تجاه من افقده شـيئآً يحبه لكن قباني بدأ القصيدة بالشكر لمن تتلطخت يداه بدماء بلقيس فهي منذ قتلت علق على صدرها وسام التضحية ولقب شهيدة..قباني حاول ان يبوح بشيء ليسمعنا معانيه تفاصيله اجزاءه ففاضت عواطف الشجون بكلمات القصيدة فحاول ان يشكف الوجه القبيح لمن يحاول ان يغتال القصيدة.[c1]لكن اغتيال القصيدة فقط؟ ام هناك اغتيال آخر؟!قتلوك يابلقيسأية أمة عربية تلك التيتغتال اصوات البلابلاين السمؤال؟والمهلهل؟والغضاريف الاوائل؟قبائل اكلت قبائلوثعالب قتلت ثعالبوعناكب قتلت عناكب..[/c]مع ان بقليس مجرد إمرأة إلا انها ومن خلال القصيدة اصبحت انثى تحمل كل معاني الانوثة والجمال ولإلهام.ومع ان بلقيس وكما هو ثابت تاريخياً ملكة لمملكة سبأ باليمن القديم لكن نزار قباني وصفها بانها اجمل الملكات في تاريخ بابل.. قباني لم يتوقف عند وصف بلقيس باجمل اللكمات فقد امتد وصفه ليصفها على انها ليست إمرأة كباقي النساء فهي السحر الجارف الذي يتخلل الأنثى اين كانت واينما كانت في المقطع السابق اعاد قباني إلى اذهاننا ذلك التاريخ القديم من عصر الجاهلية عصر الصراع من اجل لاشيء إلى عصور القبيلة وحروبها الطاحنة التي تحرق كل شيء وتصيغ التراب بلون الدماء اسطورة السموأل وابو ليلى مع الاسف الآخر هو ايضا عربي الموت الذي كانت تتباركنه القبائل فيما بينها امتد منذ عصر الجاهلية الى اليوم .اختفت حرب القبائل لتظهر حرب الفصائل وحرب الدول وحرب تصفية الحسابات حرب بمعناها ومفهوما الماساوي وابجدياتها المحزنة وتراكماتها المرعبة.[c1]بلقيسلاتتغيبي عنيفان الشمس بعدك لاتضيء على السواحلسأقول في التحقيقان اللص اصبح يرتدي ثوب المقاتلواقول في التحقيق ان القائد الموهوب اصبح كالمقاولواقول:ان حكاية الاشعاع..اسخف نكتة قيلتفنحن قبيلة بين القبائلهذا هو التاريخ.. يابلقيسكيف يفرق الإنسانمابين الحدائق والمزابل[/c]كره قباني السلطة واظهر كل اوراقة الحقودة تجاه صناع القرار ، فما باح به الشاعر وصف للهمجية والصراع والموت بلا قيمة او حظ سوى انه وضع في خانة البسطاء والجاهلية الجديدة كيف يفرق الإنسان العادي في ظل واقع يحيط به العنف بين الحدائق والمزابل!قباني حاول ايجاد حيز ولو بسيط في النص للحبكة الدرامية التسلسلية فقد صنع تحقيقاً بينما هو اصبح متهماً وهم متهمون ! من هم كل من قتل ودمر وزيف وصنه بعيون الاطفال الخوف هم من التفت حول ايديهم الاشلاء هم من كان بايديهم صنع السلام لكنهم زرعوا بدلاً عن السلام الحرب! هم كان يرجو منهم فخذلوه في وقت هو في امس الحاجة إليهم من هم ! انهم العرب.[c1]بلقيسياعصفورتي الاحلىيا ايقونتي الاغلىويادمعاً تناثر فوق خد المجدليةاترى ظلمتك إذا نقلتكذات يوم من ضفاف الاعظميةببيروت.. تقتل كل يوم واحداً مناوتبحث كل يوم عن ضحيةوالموت في فنجان قهوتنافي مفتاح شقتناوفي ازهار شرفتناوفي ورق الجرائدهانحن يابلقيسندخل مرة اخرى لعصر الجاهليةهانحن ندخل في التوحشوالتخلف والبشاعة والوضاعةندخل مرة اخرى عصور البربريةحيث الكتابة رحلةبين الشظية.. والشظيةحيث اغتيال فراشة في حقلهاصار القضية..[/c]في كل عبارات قصيدة بلقيس نحس من خلال الكلمات التي نقرأها ان قباني قد تمكن منه الحزن مهما اخفاه وتستر به خلف كلمات غير جادة ارتمى الشاعر بحضن العروبة ليبوح لها ومن خلالها عن حال العرب اليوم مرة أخرى نعود للجاهلية لكن بوحشيتها وتخلفها وبشاعتها ووضاعتها. ندخل مرة أخرى عصور البربرية بثوب جديد وزمن جديد لكن العقلية الجاهلية بالأمس هي العقلية الجاهلية اليوم، اصبحت مدينة بيروت التي احبها الشاعر وعاش فيها تدفئة دثار العائلة تقتل ويقتل فيها كل شيء يمت اليه الجمال بصلة، أصبح الموت يسكن بيروت ! حتى الكتابة وامتهان القلم والأوراق مجرد رحلة صعبة مرعبة قد تكون العودة منها مستحيلة، لأنها ببساطة رحلة بين الشظية والشظية، كم عدد الأحلام التي نسفتها الحرب؟ اعتقد أنها عديدة جداً لم يستوعبها النص لكنها وصلت من خلال كلمات القصيدة..[c1]بلقيسياعطراً بذاكرتيويا قبراً يسافر في الغمامقتلوك في بيروت مثل أي غزالةمن بعدها.. قتلوا الكلام..[/c]التناغم الشاعري المحزن والترابط المعنوي بين مقتل بلقيس والعنف والصراع والحرب في لبنان صوره قباني بكلماته الهادئة التي ما تلبث أن تعصف بقوة مخلفة ورائها حزنا دفينا.. على الرغم من معاني القصيدة المحزنة إلا أنها لا تخلو من الدعوة نحو الصمود والاصطفاف.. وعلى الرغم من تحامل قباني في هذه القصيدة على السلطة والساسة ورجالها إلا ان عبارات القصيدة لا تخلو من التمجيد والتذكير بمجد قد أفله الزمن.الذين قتلوا زوجة قباني بلقيس وكما قيل بالقصيدة - قتلوا حب قول الشاعر في نفس الشاعر، كما انهم أفقدوه إحدى ملهماته لقول الشعر.. في مقاطع عديدة من قصيدة بلقيس عطر العلاقات الأسرية يفوح من بين الكلمات.. حتى التفاصيل الدقيقة في حياته مع زوجته المقتولة في الأيام السابقة ذكرها بشيء من الألم المكبوت.. الم عجز عن اخفائه. الم الفراق الم الشعور بالوحدة، الم الشعور باليتم لولديه زينب وعمر وهما يحاولان تناسي أمهما، الشعور بالألم بكل تفاصيله وأوجاعه..[c1]بلقيسكيف تركتنا في الريح..نرجف مثل أوراق الشجر؟ وتركتنا -نحن الثلاثة- ضائعينكريشةتحت المطر..أتراك ما فكرت بي؟وأنا الذي يحتاج حبك.. مثل زينب أو عمربلقيستذبحني التفاصيل الصغيرة في علاقتنا..وتجلدني الدقائق والثواني..فكل دبوس صغير.. قصةولكل عقد من عقودك قصتانحتى ملاقط شعرك الذهبيتغمرني، كعادتها، بأمطار الحنان ويعرش الصوت العراقي الجميل..[/c]قباني تعدى مرحلة الحب للأنثى في نفسه لتبكيه لحظات الأسى.. كما ابكته الذكريات الجميلة لأيام مضت. بلقيس في كل مكان صنعتها ذاكرة قباني والثراء البلاغي التي تحملها القصيدة جعلتها تتميز عن باقي القصائد القبانية ليس لأن بلقيس مجرد حلم جميل نسيانه صعب وذكره مؤلم وترديد تفاصيله محزن.. ترديد بلقيس في كل مقاطع القصيدة ليس لإملاء فراغ لغوي بل لتزداد القصيدة تطريزاً بزخارف الكلمات الهادئة التي تنقل الاحساس ببساطة وموضوعية ضد الحوار مع الحبيب..[c1]بلقيسلو أنهم حملوا الينا..من فلسطين الحزينة..نجمة..أو برتقالة..لو أنهم حملوا إلينا من شواطئ غزة حجراً صغيراً أو محارة..لو أنهم من ربع قرن حرروا..زيتونة..أو أرجعوا ليمونةومحوا عن التاريخ عارهلشكرت من قتلوك.. يا بلقيس..يا معبودتي حتى الثمالة..لكنهم.. تركوا فلسطينليغتالوا غزالة.!! [/c]الانفعال واضح في كل كلمات هذا المقطع، الانفعال النفسي والحسي وأيضاً الشاعري لو على الرغم من المفهوم العام بعدم جدوى هذه الكلمة إلا أن قباني استعان بها ليكشف لنفسه أولاً وللإنسان العربي ثانياً ان الفشل في تحرير فلسطين من قبضة الاحتلال أجدى من الصراع الداخلي وليكشف كذلك مدى العجز العربي بكامله في استرداد حتى زيتونة على الرغم من مضي نصف قرن.مفارقة عجيبة ابتدعها قباني بين بلقيس وبيروت والحرب وأيضاً التخاذل العربي.. لماذا الموت؟ لماذا الصراع؟ لماذا الحرب والدمار؟ أسئلة طرحها قباني لنتكفل نحن بالاجابة عليها وأيقن أن لهذه الأسئلة وغيرها إجابة واحدة هي.. لأجل.. لاشيء.. لاشيء.!!