من مذكرات معتقل في سجون الاحتلال البريطاني
بتاريخ 20 / 6 / 1965م وفي تمام الساعة الثالثة صباحاً وتحت سكون الليل الدامس داهم الضباط والجنود البريطانيون منزلي في حارة حجيف ـ التواهي بعد أنْ تمّ تطويق الحارة من جميع الجوانب والأطراف، ثمّ بدأ الزحف نحو المنازل المجاورة لمنزلي في الحارة فتسلق الجنود إلى سطوح المنازل وهم يصوبون الرشاشات والبنادق العامرة بالذخيرة الحية إلى وجوه من يواجهون من المواطنين حيث أطلوا على شرفات المنازل وتقافزوا إلى السطوح للكشف عن مخادع الأسر النائمة التي كانت تهرب من حرارة الصيف للنوم تحت الهواء الطلق في السطوح وهي في ملابسها الشفافة أو الشبه عارية من الملابس.استيقظ الجميع من النساء والأطفال والرجال والبنادق مصوبة إلى رؤوسهم وصدورهم لم يدركوا تحت غشاوة النوم ما أصابهم هل هو كابوس الليل أم ماذا ؟! تعتليهم الدهشة وينتابهم الخوف لا يستطيعون التحرك حتى لستر عوراتهم، وكشافات الجنود تتجول بالضوء على الأجسام العارية بينما نظراتهم تتنقل بعد الإضاءة التي تقفز من بقعة إلى أخرى، ومن منظر إلى آخر من المناظر التي تستهوي نزواتهم الشيطانية التي تترافق مع القهقهات الصبيانية التي تنطلق من الأفواه المخمورة للضباط والجنود الإنجليز فتستفز هذه الحركات الشهوانية بعض المواطنين الذين ثاروا على عرضهم وكرامتهم واشتبكوا مع الجنود بالأيدي والحجارة والصراخ يرتفع من حناجر النساء والأطفال حتى تدافع كبار الضباط إلى مكان الواقعة لفض الاشتباك بعد أنْ تهشمت أنوف الرجال وتقطعت سواعدهم من شدة الضرب الذي أصابهم بأعقاب البنادق والقبضات المتوترة، والطعن الذي مزق سواعد المواطنين وأجسامهم بشفرات (السونكي) التي كانت مثبتة إلى فوهات البنادق المعمرة.في هذه الأثناء كان منزلي محاصرًا والأبواب قد تكسرت فاندفع ضباط المخابرات والجنود يتدفقون من كل حدبٍ وصوب إلى داخل الدور الأول للمنزل وانهالوا ضربًا وركلاً على عمي العجوز وزوجته اللذاين كانا نائمين في هذا الدور من المنزل فألقوهما أرضًا ومشوا على جسديهما كانوا متوجهين إلى الدور الأعلى حيث كنت نائمًا مع ابن عمي وأخي وإذا بالجنود المدججين ينتشرون على سطح المنزل وإلى غرفتي والبنادق مصوبة إلى جسمي من كل ناحية ومسدسات ضباط المخابرات “هِلْيَر وبـِيرْي” قد وضعت إلى الخلف من رأسي وصوَّبت الأخرى إلى صدغي الوجه والصدر وهما يوجهان الكلام على أثني قائلان : (ضبطناك بعد أنْ أتعبتنا ومارست التمويه معنا) وأنا واقف كالمسمار أنظر إلى حركة المفتشين للمنزل وهم يكسرون الدواليب والأرض والجدران يمزقون الكتب والأوراق وينعثون الأشياء رأسًا على عقب.كان إيقاظي والآخرين قد تمّ بواسطة الركل القوي بأحذية الجنود الثقيلة وبأعقاب البنادق الصلدة، ثمّ انهالوا عليَّ بالضرب بالقبضات والعصي وأعقاب البنادق، بعد أنْ صلبوا اليدين إلى الخلف، ووضعوا عليها القيد الحديد المضغوط على الرسغين الذي ضغط على الجلد واللحم معاً ومزقهما حتى انحدرت قطرات الدم على بطن الكفين والأصابع مع الدم الذي كان ينزف من ظهري المقطع بالسونكي، ومن فمي المشقق باللكمات وكل تلك الدماء كانت تنزف على ملابسي التي مزقها الجنود وكان منظري والدم يملأ جسمي قد أجبر عمي وزوجته على الصراخ والبكاء خوفـًا عليَّ فدفعهم الضباط بقوة حتى أسقطوهما أرضًا ولم يسمح لهما برفع رأسيهما إلا بعد أنْ غبت عن المنزل والحارة معًا.كان جميع المواطنين قد فاض بهم العجب من هذه المداهمات وتبادر إلى أذهانهم ألف سؤال وسؤال عن سبب حشد هذه القوة العسكرية الضخمة ومداهمة هذه المنازل والحارة بأكملها ولم تبارحهم الأسئلة إلا عندما شاهدوني وأنا أجرجر بين أيدي ضباط الاستخبارات والجنود المسلحين يحيطون بي من كل جانب بينما ينهالون عليَّ بالركل والضرب والدم ينزف من أنحاء جسمي حتى فاض الحزن والألم من وجوه المواطنين وهم يشاهدون هذا المنظر المؤلم.. كان الرعب يشقُ صدور المواطنين وهم يلاحظون شغف الجنود والضباط إلى ضرب من يصادفونه من المواطنين أمامهم.. كانت الأيدي والعصي والبنادق تتحرك إلى كل اتجاه لضرب المواطنين الذين أخرجوهم من منازلهم وبطحوهم أرضًا، وبعضهم أجبروهم على رفع الأيدي إلى الأعلى فوق رؤوسهم وهم واقفون لا يتحركون ولا يتفوهون ببنت شفه.أما أنا فقد ساقوني ركلاً ورفسًا وسحلاً أحيانـًا حتى أوصلوني إلى ظهر السيارة التي وضعوني عليها مبطوحًا على الأرض وأحذية الجنود تتناولني ركلاً على الخدود والضلوع والسيقان والدوس بقوة على أطراف القدم بعد أنْ خلعوا الحذاء الجلدي الذي كنتُ ألبسه وسرقوا ساعة اليد والدبلة من يدي، وفتشوا جيوب قميصي وبنطلوني الممزقين ونهبوا القلم الذهبي الثمين وما تبقى من النقود داخل الجيوب، وأثناء سير السيارة لم يسمح لي حتى بالأنين من شدة الضرب ومن ضغط الأحذية الثقيلة التي كانت تدوس على رقبتي وعلى الخلف من رأسي، وأطراف الساقين واليدين.كنت قد بارحت الحارة، وأنا أسمع أصوات الأطفال والنساء والعجائز ترتفع مستغيثة من هول الضرب الذي حق بهم، ومن هول المنظر المرعب والجو الإرهابي والحقد الدفين الذي تنفث به صدور ووجوه الجنود والضباط الاستعماريين، وكانت تلك الليلة بالنسبة للسكان ليلة سوداء ومن أسوأ الليالي التي مرَّت في حياتهم.. لقد داهمت القوات البريطانية المنازل الساكنة والآمنة وكسرت ومزقت كل شيء، وهتكت الأعراض دون وازع من ضمير ودون مراعاة للتقاليد العربية والإسلامية.. وبلغني فيما بعد أنّ أعمال التفتيش والنهب استمرت طوال النهار والمواطنون تحت رحمة الجنود والضباط، لا يأكلون ولا يشربون، ولا يتحركون من أماكنهم، وأبقوهم على هذا الحال حتى بارحت القوات العسكرية أطراف الحارة في وقتٍ متأخر من بعد ظهر ذلك اليوم المشؤوم.في منطقة التواهي وتحديدًا في جبل رأس مربط مكان التعذيب وجدت نفسي بين أيادي قوة جديدة، تناولتني تلك الأيدي الخشنة من على ظهر السيارة سحبًا على الأرض والركلات والضربات تنهال على كل أنحاء جسمي. سحبوني طلوعًا في سُلَّم بناية التحقيق والتعذيب إلى الدور الثاني ورأسي يتدحرج على درج السُلَّم، ثمّ ارض الممر الإسمنتي حتى عتبة إحدى الغرف الصغيرة فقذفوا بي بقوةٍ إلى أرض الغرفة التي سمعت فيها أصوات وصرخات تأتيني من الغرف المجاورة لها.. وإذا باثنين من المعذبين يدخلون عليَّ أحدهم يرفعني من شعري طالبًا مني خلع ملابسي، والآخر ينهال عليَّ ضربًا بالعصا القصيرة الصلبة التي كانت تهوي بقوة على أكتافي وظهري وسيقان الأرجل واللكمات بالقبضة القوية تتوالى على وجهي فتحدث الشقوق على جلد الوجنتين وتتقصف الشفاه وتجرح اللثتين ما يسبب نزيفـًا ينهمر من الخدود والشفاه وشقوق الأسنان إلى جانب الرعاف الذي يفيض دمًا ينسابُ على الأكتاف والبطن والصدر والسيقان.يستمر هذا الضرب بعد أنْ يطلب مني رفع الأيدي إلى أعلى الرأس، والجري بشكل دائري على الغرفة وبأسرع ما لديَّ من طاقة الجري السريع، والمعذبون الثلاثة ينهالون عليَّ باللكم القوي والضرب بالعصي على أنحاء الجسم ومن ثمّ الركل المستمر بحذائهم القاسي والمدبب .. واللطم المستمر على الخدين والرقبة والصدر يرافق كل ذلك البصق على الوجه والتفوه بشتائم قذرة وإهانات تمس من كرامتي وكرامة أسرتي.. هذه الحالة تستمر لعدة ساعات دون أنْ يوجه إليَّ أي سؤال عن أي شيءٍ كان يتعلق باعتقالي.استمر التعذيب على هذه الطريقة البشعة زهاء ثماني ساعاتٍ يومياً من لحظة دخولي سجن مربط.. بعد أنْ يأمروني بأنّ أبقى واقفـًا رافعاً يدي إلى أعلى الرأس.. ثمّ يأمروني بأنْ أستقيم على قدم واحدة واللطم واللكم والضرب بالعصي والركل بالأحذية تنهال على أنحاء جسمي لمدة ساعة كاملة ثمّ يعاودون الكرة بنفس الطريقة ينهالون عليَّ بالضرب وأنا أجري بأقصى سرعة دائريًا داخل الغرفة ويستمر التعذيب وفي وقتٍ واحدٍ زهاء الربع ساعة كنتُ خلالها أسقط على الأرض وأنا في حالة إعياء تام عاجز عن النهوض فيشدني المعذِّب من شعري ويطلب من أنْ أُعيد المشي بأقصى سرعة وبصورة دائرية على جوانب الغرفة، ولما لم تسعفني حالتي على الاستمرار ينهالون عليَّ بالضرب المبرح وأنا في حالة من الإغماء الشديد أغيب عن الوعي ساعتين أو أكثر لا أعرف كيف ينقلوني من غرفة التعذيب.ولما أفيق أجد نفسي في زنزانة أخرى، مظلمة مبلطة بالإسمنت مغمورة بالماء البارد ليس فيها لا فراش ولا أي شيء غير الحشرات، والقاذورات والأوساخ والدماء عالة على الجدران ثمّ الرائحة النتنة تجوب فضاء الغرفة، والأصوات التي تصمُ الآذان ترتفع من الفتحات الصغيرة التي على باب الغرفة مصحوبة بركلات الأحذية القوية للجنود البريطانيين على الأبواب الحديدية مع القهقهات الساخرة التي تصاحب زخات البول التي تندفع من الفتحة التي تحت الباب إلى داخل الغرفة فتسبب لي الغثيان والدوران والتوتر العصبي الشديد.. وأبقى على هذه الحال لعدة ساعات دون أكل أو ماء.وفي الساعات الأولى من الليل يأتي مرة أخرى المعذِّبون بصحبة الجنود إلى داخل الزنزانة فينقلوني سحلاً على الأرض والسُّلَّم إلى زنزانة التعذيب في الدور الثاني حيث يبدأ مسلسل التعذيب من جديد، ولكن هذه المرة بتوجيه بعض الأسئلة التي تكون مكتوبةً يرددها المعذِّب على مسمعي دون توقف ويطلبُ مني الرد عليها أولاً فأول، إما بالاعتراف أو النكران.. ولما لم يسمع مني غير النكران يستشيط غضبًا ويشدِّد من ضرباته القوية بالأيدي أو بالعصا ويطلب من زملائه الآخرين الدخول إلى الزنزانة لمساعدته في مواصلة الضرب والاهانات وهو يستريح على الكرسي يشربُ الماء ويدِّخن السيجارة أمامي بزهوٍ واحتقار لكرامتي ومشاعري الإنسانية.لا يتوقف التعذيب.. يستمر لعدة ساعات.. وأحيانـًا يتجاوز الأربع ساعات في الصباح وكذلك في المساء.. يأتي أحيانـًا المحقق الإنجليزي الذي يظهر من كلامه أنـّه رجلُ رحيم.. ويطلب مني فقط الاعتراف بدلاً من النكران وينصحني أنْ أجنـِّب نفسي قسوة التعذيب الذي قد يصل بي إلى حافة الموت، وأفقد حياتي دون أنْ يُبالي بي أحد، يتظاهر بالرحمة على حالتي والحرص على حياتي ويسرفُ بالنصائح وهو يعبِّر عن أسفه لعدم استجابتي لنصائحه المتكررة..!!؟ولما لم يجد مني غير النكران والتصميم على تحدي جلاديه يخرجُ من الزنزانة وهو متوتر الأعصاب متوعدًا بتشديد التعذيب وتجديد وتنويع وسائله.. وطبعًا ما يحصل بعد أنْ يخرج هذا المحقق من الزنزانة يدخل المعذِّبون بوجوههم المتشنجة وقبضاتهم المتوترة.. فيبدؤون عملية الجلد والتعذيب المعتادة اللطم والركل واللكم والضرب بالعصا والبصق والشتائم والاهانات ورفع الأيدي إلى أعلى الرأس والمشي أو الجري الدائري على جوانب الغرفة وهكذا دواليك ثمّ تدخل مرحلة الأسلاك الكهربائية والكرسي الكهربائي كوسيلة أخرى للتعذيب.يبدأ التعذيب بوضع أطراف الأسلاك على أطراف الجسم الرأس والأعضاء التناسلية، وتبدأ الهزات الكهربائية تتوالى على جسمي حتى ينتابني الإعياء وفقدان الوعي.. ثمّ يهيلون الماء البارد على جسمي ويعاودون التعذيب بالكهرباء ووضع أطراف اليدين تحت أرجل الطاولة الخشبية ويجلسُ اثنان أو ثلاثة أو أكثر من الجنود على ظهر الطاولة ويأتي المعذِّب ليسحبني من قدماي وهو يحرِّك جسمي يمنة ويسرة ويشدُّني إلى الخلف وأناملي تعتصر تحت أرجل الطاولة حتى يختلس الجلد وتتقطع أطراف الأصابع، ثمّ ينزف الدم الذي لا يتوقف فتستمر العملية لمدة ثلاثة أيام دون توقف.. ثمّ يبدأ المحققون الذين يأتون من خارج طقم المعذِّبين ويبدأ التحقيق السلمي الذي يستخدم فيه الترغيب والتظاهر باحترام الإنسان واحترام رأي الإنسان وحقه في المطالبة بالحرية وتحرير وطنه بالوسائل السلمية... وتبدأ التوجيهات بإعطائي الماء، والسماح لي بالخروج لقضاء الحاجة والحصول على الوجبات الثلاث يوميًا.يستمر هذا الحال لمدة يومين حتى أستعيد عافيتي.. ثمّ أعود مرةً أخرى إلى حلبة التعذيب والمُعذِّبين.. تتجدد وسائل التعذيب بأخذي إلى أقبية داخل جبل مربط هذه الأقبية تكون شديدة الظلمة إلا من نورٍ ضعيف يأتي من الشقوق الصغيرة الموجودة على أعلى الجدران في هذا القبو، يتركوني جالساً على حجر مرتفع والحشرات الزاحفة تتحرك داخل القبو بما فيها الثعابين والعقارب والفئران من كل حجم ولون تمر من جانبي وأمامي، وخلفي يمنةً ويسرة، وأنا متوتر ومتسمر في جلسة القرفصاء على الحجر أحبس أنفاسي وأدعو الله أنْ يجنبني كل مكروه، أبقى على هذه الحالة لمدة ثلاث أو أربع ساعات.. ثمّ فجأة يدخل المعذِّبون إلى داخل القبو وبمجرد دخولهم تتجفف أرضية القبول من الحشرات والثعابين.. ثمّ يأخذوني إلى زنزانة التعذيب في المبنى المجاور لهذه الأقبية ويباشرون التعذيب بالضرب وتوجيه الأسئلة التي تكون مكتوبة على ورق في أيدي المعذبين ويطلبون الرد عليها بالاعتراف أو النكران.وهكذا تستمر العملية لمدة يومين أو ثلاثة.. ثمّ ينتقل التعذيب ليلاً إلى الأقبية في بطن الجبل.. ولكن هذه المرة يكون على جدران القبول هياكل عظمية وجماجم لإنسان ورؤوس حيوانات مختلفة مع أصوات تأتي من خارج القبو أنين واستغاثة وصرخات من هول الضرب والتعذيب.. ثمّ زئير لحيوانات متوحشة.. كأصوات الكلاب وزئير الأسد وغيرها من أصوات الحيوانات الأخرى.ثمّ يأتي المعذبون بعد أربع أو خمس ساعات ليأخذوني إلى مكان على شاطئ البحر.. يبدأ التعذيب في هذا الشاطئ بتغطيس رأسي في الماء لأكثر من مرة وبصورة متكررة والأسئلة تنهال عليَّ ويطلبون الرد عليها دون تردد.. وعندما لا يجدون الردود التي ترضيهم يأخذوني إلى عمق الماء يربطون قدماي بحبل موثق على مؤخرة القارب الذي يكون على أهبة الحركة لسحلي على سطح الماء لعدة دقائق وبسرعة هادئة أولاً.. ثمّ السرعة الفائقة حتى تغمرني الأمواج وتمتلئ بطني بالماء المالح فينتشلونني من بين الماء إلى سطح القارب، ثم ينكسون رأسي إلى البحر على جانبي القارب لإخراج الماء من بطني ويتركونني لبعض دقائق ويعاودون الكرة بالسحل من خلف القارب إلى أنْ تغمرني الأمواج وأشرب من ماء البحر حتى تمتلئ بطني وأنقل مرة أخرى إلى ظهر القارب لإخراج الماء المالح ومن ثمّ توجه إليَّ الأسئلة المعتادة مع طلب الرد عليها بالاعتراف أو النكران حتى ينتابني الإعياء وأفقد الوعي ولم أفق إلا وأنا داخل الزنزانة الإسمنتية المظلمة نائماً على أرضية عارية مغمورة بالماء البارد والجدران ملطخة بالأوساخ والدماء والرائحة الكريهة تنبعث من كل أرجاء الزنزانة الضيقة والموحشة.كان المعذِّبون يطلبون مني الاعتراف أمامهم بأنني المسؤول الأول عن الفرق الفدائية التي تعمل داخل أحياء التواهي والمعلا وخور مكسر وفي المعسكرات المتواجدة داخل هذه الأحياء، ثمّ يطلبون مني الاعتراف بأماكن الأسلحة الخفيفة في هذه الأحياء وأسماء أعضاء الخلايا والفرق الفدائية التي تعمل أيضًا داخل هذه الأحياء والمنازل والسيارات التي تستعمل لأغراض الاجتماعات وتدريب الفدائيين، والاعتراف بأسماء القيادات الرئيسية التي تدير العمل السياسي والفدائي داخل مدينة عدن وعناوين منازلهم أو الأماكن التي يرتادونها أو يختفون فيها.. وعن كيفية إخفاء الأسلحة والطرق التي تدخل بها إلى عدن.. وغيرها من الأسئلة التي تحمِّل الإنسان أوزار المواجهة المسلحة مع بريطانيا وقتل جنودها وقضّ مضاجع قواتها العسكرية وقياداتها السياسية والمدنية.كانت المعلومات تأتيني بواسطة رسائل صغيرة من الأخوين في الخارج محمد صالح يافعي “مطيع” وعبدالفتاح إسماعيل أطلع من خلالها على أي جديد يحدثُ في الخارج ويشدان من معنوياتي على الصمود وأنّ أعمال التعذيب مهما كانت لن تؤدي إلى القتل كما تدعي المخابرات ولن تستمر أكثر من أسبوعين.. كانت هذه الرسائل تصلني بواسطة شخص مضمون يعمل في الشرطة المدنية مكلف بإحضار وجبات الطعام لنا.. كان يقذف بالرسالة من تحت الباب مع ورقة وقلم رصاص صغير.. يطلب مني الرد عليها.. كان الأخوان يطلبان مني أي جديد أحصل عليه أثناء التحقيق قد يطال البيوت أو أماكن الأسلحة أو أسماء لزملاء تصل إلى المحققين أو غيرها من المعلومات التي قد تضر بالعمل في مدينة عدن.. وفي الوقت نفسه كنت أحصل على معلومات من الضباط الاسكتلنديين الذين يتناوبون على حراسة الزنازين أنّ صلاحيات المعذبين تستمر لمدة سبعة أيام في تعذيب السجين المعتقل، ثمّ تجد سبعة أيام أخرى.. ومن ثمّ يتوقف التعذيب إذا لم يحصلوا على أي اعتراف من المعتقل.وكنت قد وطّنت نفسي على مواجهة التعذيب بالصمود والتحمل مهما كانت النتائج لأنني لو اعترفت بأي شيء مهما كان بسيطًا أو تافهًا أكون قد جنيت على نفسي وعلى زملائي بالعذاب والتعذيب.. ثمّ أنّ المحققين كانوا قد قبضوا على بعض الأشخاص الذين اعترفوا لهم بأنني المسؤول الأول والمباشر عليهم وعلى أعمالهم العسكرية التي قاموا بها إلا إنني أنكرت أية معرفة لي بهؤلاء الأشخاص وواجهتهم بالشتم والاشتباك معهم بالأيدي.. وكان هؤلاء لا يردون عليّ لا بالضرب ولا بالشتم.. بل إحساسهم بالندم والحيرة كان باديًا عليهم، وهكذا تحملت جور التعذيب وقسوته لمدة خمسة أسابيع دون أنْ أدلي بأي اعتراف يطلبه الجلادون والمحققون الإنجليز سوى المراوغة والحديث عن أدوار سياسية مشروعة لي في نطاق العمل النقابي والسياسي في البلد.عملية التعذيب كانت تتكرر معي حاولوا إعادتي إلى مركز التعذيب بعد أنْ نقلوني إلى سجن عدن المدني ومكثت فيه فترة من الزمن مبررين أنّهم حصلوا على اعترافات جديدة ضدي ومن معتقلين جدد قبضوا عليهم وهم متلبسون أثناء قيامهم بعمليات فدائية ضد الإنجليز؛ إلا أنّ زملائي من المعتقلين تكتلوا داخل السجن ورفضوا تسليمي للقوات البريطانية وأصدروا بيانـًا تمّ نشره في الصحف المحلية عبروا فيه عن رفضهم تسليم زميلهم للقوات البريطانية بعد أنْ استكملت التحقيق معه وإحالته إلى السجن المدني كمعتقلٍ سياسي.. الإدارة البريطانية رضخت لهذا الرفض من اعتبار أنّ سجن عدن كان يقع شكلاً تحت إدارة حكومة عدن حينها وتحت إشراف وزارة الإدارة المحلية الذي كان وزيرها في حكومة المكاوي حينها سعيد محمد حسن وهو عنصر وطني، ثمّ في وزارة البيومي مصطفى عبدالإله أيضًا هو عنصر وطني متعاطف مع الثورة.. أدى ذلك إلى جنوح الإدارة البريطانية للضغوط السياسية من المعتقلين والصحافة والحكومة المحلية.وكان نص بيان المعتقلين يحتوي على الآتي :بسم الله الرحمن الرحيماعتصم المعتقلون في سجن عدن في مكتب إدارة السجن يوم الثلاثاء الماضي ووجهوا إلى المدير رسالة هذا نصها :السيد مدير سجن عدن المركزيبعد التحية..بناءً على ما أتخذ منا من موقف جماعي بالاعتصام في مكتبكم ظهر هذا اليوم نرفع إليكم هذه الرسالة الهامة نحن المعتقلون السياسيون في سجن عدن المركزي، نستنكر بشدة نقل زميلنا المعتقل راشد محمد ثابت من سجن عدن المركزي إلى “رأس مربط” بعد أنْ كان قد قـَدِمَ منه حيث عبر مرحلة التعذيب بحجة التحقيق معه.. ونحن ندرك تمامًا بأنّ ليس هناك أي مبرر قانوني لعودة أي من إخواننا مرةً أخرى إلى رأس مربط اللهم إلا الاستهزاء بهم، أو السخرية بكرامتهم حتى بلغت السخرية والازدراء حد الاستفسار منهم عن تصرفاتهم اليومية في عنبر المعتقلين في سجن عدن المركزي.لذا إيمانـًا منا بعدم شرعية اعتقالنا، وبعد أنْ استوفى التحقيق اللاشرعي معنا، نعلنُ إننا سوف نقاوم أية سلطة تحاول نقل أي معتقل في سجن عدن المركزي إلى “رأس مربط” أو إلى أي مكان آخر للتعذيب.. وأننا ندرك تمامًا أننا سوف نجابه بقوة ضاربة تؤدي إلى الاصطدام الذي لا مفر منه. ولكن لمعلوميتكم نرى أنّه من الأفضل لنا أنْ نستشهد في سجن عدن المركزي دفاعًا عن حقنا في الحياة الحرة من أنْ تـُداس كرامتنا وتهدر إنسانيتنا في مراكز التعذيب.وأخيرًا نحمِّل السلطات البريطانية وشركاءها كافة النتائج المرتقبة.[c1]المعتقلون السياسيون في سجن عدن المركزي 18 يوليو 1965م[/c]ـ عبدالعزيز عبدالله سلام، أبوبكر علي شفيق، فاروق مكاوي، عبدالكريم سلام، عبدالواسع قاسم نعمان، راشد محمد ثابت، محمد عبده راجح، أحمد عبده راجح، نور الدين قاسم، عبدالرحمن فارع، خالد عبدالله قاسم، حسن السقاف، أحمد محمد سعيد، الحاج عبدالرحيم كركنده، محمد عبدالله التيس، يوسف عبدالقادر، محمد علي جرجره، يوسف أحمد عبدالله، صلاح الدين عبدالرحمن، طه أحمد غانم، علي صالح علي، سعيد عثمان عشال، سليمان ناصر محمد، محمد سعيد عبسي، ياسين أحمد سعيد، علي عمر شيخ، محمد عوض مدرار، محمد أحمد باشا، علي محمد ضالعي وحسن عبدالله جاد.لكن حقد الإنجليز ظل كامنـًا إلى أنْ تمّ نقلنا إلى سجن المنصورة كسجن جديد تحت الإدارة البريطانية البحتة، هناك عاودوا معي إجراءات التحقيق والتعذيب فأخذوني إلى زنزانة منفردة مع زملاء لي من الفدائيين التقيت بهم داخل زنازين السجن وهم : عبدالعزيز عبدالولي، سالم عبدالله يافعي (ياسين)، محمد أحمد علي قباطي.. عبدالعزيز عبدالولي كان متهمًا بأنّه المسؤول الأول عن العمل الفدائي في مدينة كريتر.. وسالم عبدالله متهم بالاغتيالات مع محمد أحمد علي ضد رجال الاستخبارات البريطانية في مدينة كريتر والمعلا.في هذه الأثناء داخل سجن المنصورة كانوا يأخذوني ليلاً إلى زنزانة التعذيب يطلقون عليَّ الكلاب وهي تنبح ثمّ يحاولون أنْ يوجهوا الكلاب للاقتراب من جسمي بتهديد الانقضاض عليّ وافتراسي، وعندما تبدأ الكلاب بقضم أطراف ملابسي أو عضها وتمزيقها يسحبونها إلى خارج الزنزانة فتـُعادُ الكرةَ مرةً أو مرتين في اليوم ولمدة ثلاثة أيام، ثمّ يبتدعون وسيلة أخرى بإدخال عناصر من اليمنيين وهم ملثمون تبيَّن فيما بعد أنّهم من الجيش الاتحادي يشتبكون معي وبأيديهم العصي ينهالون عليَّ ضربـًا حتى يسقطوني أرضـًا ويخرجون من الزنزانة بعد أنْ يتركوا جسمي مرضوضًا مليئًا بالأورام والندب والجروح.بعد ذلك وفي اليوم الثاني يأخذني الجنود إلى حفرة بين الرمل الحار وتحت حرارة الشمس الحارقة وبين الرياح التي تعفر بالغبار والرمال يدفنون كل جسمي حتى الرقبة وأترك على هذه الحالة لمدة ساعتين أو أكثر فأنقل بعدها على الزنزانة المتربة والعارية انتظارًا لممارسة التعذيب ضدي بوسائل مبتكرة وجديدة.. تتكرر هذه العملية لمدة ثلاثة أيام، ثمّ يباشرون التعذيب بوسيلة أخرى يقوم المحقق بترديد الأسئلة على مسامعي ويطلب مني الرد.. ولما يكون ردي بالنكران يبدأ ضابط التعذيب بتهديدي بالقتل ويأمر الجنود المسلحين بالدخول إلى الغرفة وتصويب بنادقهم إلى رأسي وصدري وإنحاء جسمي.. ويتقدَّم أحد الجنود نحوي ليضع كيس الإعدام الأسود على رأسي ويغطي كل وجهي، ثمّ يأمرني بأنْ أقف وأُسند ظهري إلى الحائط والأيدي مرفوعة إلى أعلى الرأس.. في هذه الأثناء يكون الحديث بين الضباط والجنود يدور حول الأوامر التي ستأتيهم من المندوب السامي لتنفيذ حكم الموت ضدي ويحاولون إيهامي بأني بعد لحظات سأواجه الإعدام وينتظرون مني الكلمة التي سأنطق بها قبل تنفيذ حكم الإعدام.يستمر هذا الحديث بين الضباط المعذِّبين والجنود المسلحين حتى يدخل أحد الضباط الكبار إلى الزنزانة ويقول لهم بأنّه كان على اتصال بمكتب المندوب السامي ينتظرُ أوامر تنفيذ الإعدام.. إلا أنّ مكتب المندوب السامي طلب منهم تأجيل الإعدام إلى اليوم التالي.. وطلب منهم إعادتي إلى الزنزانة على أنْ تـُتاح لي فرصة التفكير في الأمر، وطلب الرحمة وتقديم الاعتراف قبل فوات الأوان.. وهكذا تتكرر العملية لمدة ثلاثة أيام، ثمّ يتمُ إعادتي إلى الزنزانة، ومن ثمّ بعد مرور أكثر من شهرين على أعمال التعذيب النفسي والجسماني أعود من جديد إلى الحظيرة الجماعية مع زملائي المعتقلين في العنابر وهي المخصصة للاعتقال والتعذيب الجماعي المبتكر في سجن المنصورة الجديد.كان المحققون قبل بدء التعذيب في رأس مربط بالتواهي يلجؤون إلى فحص الآثار البادية على جسم الإنسان وتسجيلها، ومن ثمّ يحرصون على عدم ترك علامات ظاهرة على جسم المعتقل جراء التعذيب؛ إلا إذا فاض غضب الجلادين وتجاوزوا حدود المسموح.. هنا يتلافون الخطأ بإبقاء المعتقل مخفياً في أحد المعسكرات البريطانية حتى يتمُ شفاؤه من الجروح وتجميل آثارها، ومن ثمّ الإفراج عنه، كما حصل لزميلنا المعتقل حسن علي الصغير (بدر) الذي اعتقل في شهر أبريل من عام 1966م وبقي مخفياً مع القوات البريطانية قرابة خمسة أشهر، وأكثر تحت التطبيب حتى أزالوا من جسمه وحواسه كل آثار الجروح.. إلا الشهيد مهيوب علي غالب (عبود) الذي تعرَّض لبتر جزء بسيط من إحدى أصابع يده وعولج في أحد المستشفيات العسكرية لعدة أيام، ومن ثمّ تمّ نقله إلى سجن عدن المركزي، ويده معلقة إلى عنقه حيث بقي في سجن عدن المركزي مدة قصيرة، ثمّ بعد ذلك تمّ تسفيره إلى أطراف محافظة لحج.من هناك عاد لهم أكثر قوة وحيوية وقاد العمل الفدائي بمهارة فائقة وقاتل الإنجليز بشراسة كبدت الإنجليز وقواته خسائر فادحة في العتاد والأفراد.. حتى أنّ الإنجليز أوقفوا عملية التسفير بعد أنْ عرفوا بعودة مهيوب الشرعبي (عبود) إلى مدينة عدن، وهو أكثر قوة وشجاعة في المواجهة لقوات الاحتلال الغاشمة.. كان الشهيد “عبود” دائمًا يكرر وبصوت مرتفع أمام قوات الاحتلال وهو في موقعه العسكري أنتّم الأجانب المحتلون.. أخرجوا من بلدي.. وستخرجون بالقوة ولن تبقوا على تراب هذه الأرض الطاهرة.. لن نعيش غرباء في وطننا تحت نير الاحتلال البريطاني الغاشم.. اليوناني والإسرائيلي والأجنبي يُعامل كمواطن، وأنا ابن البلد اليمني الأصيل غريب في وطني.كان هذا منطق القوة الذي يواجه منطق الترسانة العسكرية البريطانية.. وفعلاً أستعيد الحق الإنساني وحق المواطنة بقوة السلاح.. كنتُ قد زاملت الشهيد (عبود) كثيرًا والذين رافقوا الشهيد مهيوب الشرعبي (عبود) كانوا يعرفون أنّه لا يخفي تعطشه للمواجهة مع قوات الاحتلال.. يخرجُ إلى ميدان المواجهة في أيٍ من أوقات الليل أو النهار يتحدى الدبابات والأرتال العسكرية البريطانية المدججة حتى كتبت له الشهادة في فبراير عام 1967م عندما قـُتل في معركة شرسة مع قوات الاحتلال البريطاني في مدينة المنصورة بالشيخ عثمان.إنّ أعمال التعذيب والوسائل المتنوعة التي أتبعتها القوات البريطانية كانت تعتمد على الخبرة والدراسة لدى من يقومون بها من المعذِّبين المدَّربين على أرقى أنواع وسائل التعذيب، فالمعتقل الذي يخرجُ من تحت التعذيب لا يمكن أنْ يسلم من عاهة أو مرض كامن في جسمه تظهر أعراضه بعد بضع من السنوات.. فكثيرُ ممن تعرضوا للتعذيب في ظل الاحتلال البريطاني كانوا يعانون من أمراض الرأس والعمود الفقري.. والصمم، والعمى، وفقدان حاسة الشم، والتمزق في الضلوع وأغشية وخلايا المفاصل.. وغيرها من الأمراض التي لم تكتشف، أنّها من آثار التعذيب؛ إلا بعد مرور عشرات من السنين بعد الاعتقال والتعذيب.كان المعذِّبون الإنجليز يستخدمون أسلوبًا في التعذيب مثلاً يحملُ المعتقل من كتفيه وقدميه من قبل الحُرَّاس إلى الأعلى، ومن ثمّ يتركونه يهوي على أرض الزنزانة الصلبة فيرتج رأسه، وتتكسر أضلاعه، وتترك أوراماً داخلية يحسُ بآلامها ولا يرى آثارها، وتتكرر العملية لعدة مرات في اليوم.. أو يلجأ المعذِّب إلى شد شعر المعتقل بكلتا يديه ومن ثمّ ضرب رأسه بالحائط عدة مرات، وتتكرر يوميًا حتى أنّ بعض الزملاء بعد خروجهم من المعتقل بسنوات بدأوا يعانون من الأوجاع المزمنة في الرأس ولم تبارحهم هذه الأوجاع رغم العلاجات المكثفة حتى مماتهم والذين ما زالوا على قيد الحياة ـ أطال الله في أعمارهم ـ من أمثال الزميل والأخ عبدالرزاق شايف ما زال هذا المرض يلازمه ويُعاني من آلامه الشديدة حتى اللحظة.. حتى أنّ بعض الأمراض بعد تشخيصها من قبل الأطباء في الداخل والخارج، لم يجدوا لها علاجًا حاسمًا رغم المتابعة والتشخيص المتكرر بأحدث الأجهزة والمختبرات المتطورة. [c1]-----------------------------------------------------* من مذكرات المناضل راشد محمد ثابت المعتقل رقم (51) المنشوره في كتابه (عدن.. الاعتقالات ووحشية التعذيب في سجون الإستعمار البريطاني) .[/c]