تقليداً لنجوم السينما والرياضة وخوفاً من التكرار :
القاهرة / 14 أكتوير / وكالة الصحافة العربيةلماذا غابت فكرة الاعتزال عن أجندة الأدباء والشعراء وهي الفكرة التي ارتبطت بلاعبي الكرة ونجوم السينما بعد تيقنهم عدم القدرة على العطاء بنفس روح الشباب ؟ .. ورغم قسوة الفكرة إلا أنها قد تكون الوسيلة الوحيدة لاحتفاظ الكاتب بتاريخه ، حتى لا يقع في سقطة قد تدمر كل ما حققه طوال سنوات طويلة من العمل ..ويبقى السؤال : متى يفكر الأديب في الاعتزال؟.. سؤال بات يفرض نفسه على الناقد والقارئ معاً !يقول الروائي خيري شلبي : نهر الإبداع لدي الكاتب الموهوب لابد له من روافد تغذيه ، أهم هذه الروافد تتمثل في معايشته للناس ومشاركته في حركة الحياة الهادرة ، ولا يقل عنها أهمية الثقافة واطلاع الكاتب على تراثه وعلي إبداعات الشعوب الأخرى ، فهذان الرافدان يضمنان للأديب ثراء تجربته ، وبالتالي ثراء كتابته فلا يواجه بشبح الفراغ الذهني أو نضوب نبع الموهبة وإن حدث ذلك للأديب فالأكرم له أن يحافظ على اسمه ويعتزل الكتابة حتىلا يعيد تكرار تجاربه فيفقد صدقه الفني والإبداعي .أما الروائي ابراهيم أصلان فيرى أن الموهبة الحقيقية لا يمكن أن تتوقف عن النمو ، وبالتالي لا يمكن أن تكف عن العطاء الإبداعي .. فيحيى حقي هو النموذج الوحيد للكاتب الذي أعلن اعتزال الكتابة رغم أنه كاتب موهوب وعظيم ، وقد قال إن سبب اعتزاله هو أنه لم يعد لديه ما يضيفه ، ولعل حسه النقدي أعانه على تحديد الوقت الملائم لهذا القرار الصعب ، هذ الحس الذي يفتقده كتاب عديدون فيكررون أنفسهم أو تأخذ كتاباتهم منحني هابطاً دون أن يجدوا ردود أفعال واضحة تنبههم لذلك .ويرى “ أصلان” أن غياب النقد وعدم وجود حركة نقدية تتابع بشكل دوري النشاط الإبداعي أو تستطيع تلمس مسألة تطور الكاتب ساهمت في عدم تفكير عدد كبير من الكتاب في الاعتزال ، لكن الكاتب الحقيقي يعلم أنه تلميذ حقيقي يسعي دائماً للتعلم ، والكاتب في حاجة لقراءة الدنيا قبل قراءة الكتب فهي التي تعلمه كيف يكتب ؟ وماذا يكتب ؟ [c1]قرار فردي [/c]ويصف القاص و الروائي “محمد البساطي” الكاتب الذي يكرر نفسه وتجاربه لدرجة نعته بأنه صاحب القصة الواحدة أو القصيدة الواحدة بأنه نوع من التجاوز ، وهو يعتقد أن فكرة الاعتزال واردة حتي في فترة مبكرة من العمر ، ولكن هذا الاعتزال لا يأتي بقرار فردي وشخصي من الأديب ، لأن الكتابة بين يدي القدر ، وعلي الأديب إن استشعر عدم القدرة على الكتابة أن يساعد نفسه بالقراءة والتجوال والاختلاط بالنساء ، وأحياناً يساعد نفسه بالعزلة التي تلهمه أفكاراً جديدة ، وهناك بعض الأدباء إذا ما كفوا عن كتابة الإبداع نجدهم يحومون حول عالم الكتابة فيكتبون النقد والمقالات ، وعلى الجانب الآخر نجد أن بعض الكتاب مثل هيمنجواي يؤدي بهم التوقف التام الى الاكتئاب ثم الانتحار لأن التوقف عن الإبداع معناه الموت .ويري الشاعر محمد ابراهيم أبو سنة أن الصدق هو عماد التجربة الأدبية سواء كانت هذه التجربة شعراً أو قصة أو مسرحية والصدق عنده هو أن يكون لدى الأديب ما يقوله ، وأن ما لديه يلح عليه إلحاحاً شديداً حتي يكتبه ، والتجربة الأدبية هي بنت التجربة الإنسانية ، ويتوقف عطاء المبدع ولا يضيف جديداً ، إذا توقف عن التفاعل الخلاق مع تجارب الوجود الإنساني ، فهو يري أن التوقف عند الأديب يبدأ من العجز عن المشاركة في حركة الحياة ، وعن انصراف الكاتب عن الاهتمام بقضايا العصر الذي يعيش فيه .أما فكرة الاعتزال نفسها فهي فكرة مستحيلة في مجال الأدب ، لأن الإبداع نوع من الانفجار الفجائي لا يعرف الأديب موعده .[c1]الإفراط والضحالة[/c]أما الشاعر فاروق شوشة فيري أن سبب وقوع البعض في دائرة التكرار هو إفراطهم في الكتابة مما يؤدي إلى ضحالة انتاجهم فيما بعد ، كما أن البعض لا يتابع الإنتاج الجديد مما يجعله يتوقف عند نقطة معينة يكررها ويعيد إنتاجها ، ويفرق “فاروق شوشة” بين نوعين من الأدباء فهناك نوع لا يؤمن بقضايا حقيقية فهو يكتب من أجل الشهرة فقط ولرؤية اسمه مطبوعاً ، وهذا ما يمكن تسميته بـ “أدب العلاقات العامة” وهو أدب يتسم بالهشاشة وهذا النوع من الأدباء يستمر في الكتابة رغم أنه ليس لديه شيء حقيقي يقدمه ، أما النوع الآخر فهو صادق ، يؤثر الصمت إذا لم يكن لديه ما يقوله ، وهذا أفضل للكاتب حتى لا يتدنى في إبداعه ، والعبرة ليست بالكم ولكن بالكيف ، فهناك شعراء مقلون في الأدب العربي إلا أن الأجيال تذكرهم مثل طرفة بن العبد الذي مات في سن السادسة والعشرين فالصمت أفضل للكاتب الذي لا يجد ما يقوله حتى تفاجئه اللحظة الإبداعية من جديد .ويبدي الشاعر “محمد سليمان” وجهة نظر مغايرة ، فيقول : من الصعب على الأديب أو المبدع أن يتوقف عن الكتابة لمجرد إحساسه بأنه يدور في دوائر بعينها لفترة زمنية معينة ، فالمبدع لا يغير جلده الإبداعي لدى كل عمل ، فكل مبدع لديه مجموعة من الرؤي والتجارب أو المنطلقات الفنية التي تأخذ شكل الصدارة في عمله الفني ، فهناك مبدع ينطلق من المعطيات السياسية فيكتب قصائد أو روايات تكون الرؤية السياسية فيها هي المهيمنة ، فالكاتب لا يخرج من جلده ، لكن أحياناً قد يحاول المبدع أن يتمرد وهذا التمرد أسميه التجريب ، فكل مبدع لابد وأن يكون تجريبياً أما مسألة الاعتزال التام فهي هامة وضرورية إذا استشعر أنه قدم كل ما لديه ، وهناك بعض النماذج القليلة التي فعلت ذلك مثل الشاعر الفرنسي فاليري رامبو الذي توقف في العشرين من عمره بعد أن قدم أجود ما عنده .[c1]رأي النقد [/c]ويقول الناقد والمفكر محمود أمين العالم : الموهبة كالبركان وهناك بركان يخمد مؤقتاً ليعاود تفجره بعد ذلك ، وهناك أسباب عديدة للتوقف فهناك توقف قدري كموت المبدع في سن مبكرة مثل “شيلي” في الأدب الغربي ، ومثل الشاعر التونسي “أبو القاسم الشابي” والشاعر المصري “محمد عبد المعطي الهمشري؛ و “هاشم الرفاعي” وهذا توقف لا دخل للإنسانية فيه ، وهناك من تكون لديه القدرة على العطاء لكنه يتوقف لأسباب سياسية تجعل كتابته معرضة للقمع والمصادرة وهذه أسباب خارجية ، لكن أحياناً تتدخل عوامل داخلية مثل الرقابة الداخلية التي قد يمارسها المبدع على نفسه ، فهو يراقب إبداعه خوف الاعتقال أو الاغتيال فيقتل العمل الفني قبل أن يولد ، وهناك من يتحول ألى الرواية أو بالعكس ، وهذا أشبه بالبركان الذي يتفجر من أكثر من فوهة ، وهناك نوع ثالث من التوقف ناتج عن العجز الذي يصاحب التقدم في السن وتآكل الذاكرة ، أما في حالة نضوب الأفكار فقد نجد من الأدباء من يستمر في الكتابة رغم أنه يكتب كلاماً فارغاً لا قيمة له ، وهو هنا يكتب لإرضاء نفسه أو ليشعر بأنه لم يزل حياً ، لكنني أري أن الإنسان يحقق ذاته فعلاً عندما يضيف شيئاً متى الموجود ، فالإنسان كائن مبدع لابد أن يبحث دومآً عن الجديد وعن إضافة فعلية .ويرى “ العالم” أن أهم شئ في الرؤية الإبداعية يتمثل في فكرة المراجعة ، ليتمكن من استبقاء الجيد واستبعاد الشوائب ، أما إذا أراد الأديب أن يطور نفسه فلابد أن يحسن الإنصات للآخرين ويتقبل النقد حتي لو كان مغرضاً ، ثم بعد ذلك يختبره ويستجيب له إن وجده صحيحاً .ويشير الناقد د . مدحت الجيار أن توقف الأديب قد يكون مؤقتاً مثل حالة “نجيب محفوظ” الذي توقف لمدة خمس سنوات بعد كتابة الثلاثية ، وتحول في هذه الفترة لكتابة السيناريوهات لكنه عاد بعد ذلك لكتابة الرواية.ويعتقد د . الجيار أن نجيب محفوظ عالج فترة التوقف بالنظام ، فهو ينظم شخصيات قصصه قبل الكتابة ويعد لها ملفات تحوي كل شيء يتصوره عنها قبل البدء في الكتابة ، فعقلية نجيب محفوظ هندسية شديدة الصرامة على العكس من يوسف إدريس الذي كان ينتظر لحظة الكتابة وميلاد الفكرة ، وفكرة الاعتزال قد لا تكون واردة عند أدبائنا ، لأننا لم نكتشف ذواتنا بعد ، وأعتقد أن الاعتزال سيفيد حياتنا الأدبية كثيراً فإنه لن يبقي لنا إلا الأعمال العظيمة فقط .