قصة قصيرة
في إحدى المناطق الصناعية عاش عامل بسيط مع أسرته ومصنعه مدة تزيد على العشرين عاماً كان دائماً مثالاً للعامل النشيط المنتج،والأب الذي يسهر على راحة أولاده الخمسة وأمهم..حياة هادئة لا يعكر صفوها شيء أكثر من تلك المناقشات التي تثور أحياناً بين الرجل وامرأته،أو بين الأب وأبنائه فتحتد.ولكنها لاتلبت أن تهدأ،ثم ينسى الجميع كل شيء،ويبدأ يومك جديداً مع العمل في المصنع،وتحصيل العلم في المدرسة،وإعداد أطباق الطعام التي تتفنن الأم دائماً في صنعها.كان العشاء دائماً نهاية اليوم،وكان الفجر والإفطار بدايته..وبين الوجبتين ليل طويل،ونوم هادئ بلا هموم فلم تستطع أضواء المدينة يوماً أن تشد هذه الأسرة إليها،فتخرجها من حياة الرتابة التي تعودتها ولم تشعر معها بالملل أبداً.حتى الأبناء،وأكبرهم وهو شاب في الثامنة عشرة من عمره لم يكن يعجبه كثيراً حياة زملائه الذين كانوا يسيرون دائماً في طريق آخر غير طريق العودة إلى البيت بعد انتهاء اليوم الدراسي..إلى دور السينما والملاهي،أو نزهة على شاطئ البحر.فقد كانت له هواية أخرى..كان يهوى الرسم وكانت أجمل وأحلى ساعات يومه هي تلك التي يقضيها في غرفته وحده مع فرشاته وألوانه.لقد كان الابن وكانت الأسرة ينتمون إلى الريف وهدوئه وحياة أهله التقليدية..المحافظة قبل أن ينتقلوا إلى المدينة التي كانوا يرفضون الخروج إلى أضوائها وصخبها..كانوا يغرقون في بحر حياتهم الجديدة.وتمر السنون بالأسرة الصغيرة السعيدة..إلى أن يجيء اليوم الذي يحكم به كل رجل..ذهب الأب إلى عمله في المصنع في الصباح..فإذا به يرى فيه شيئاً جديداً.. لم يألفه طوال عهده به..العمال في المصنع يحتشدون في فنائه الكبير.. بعضهم وقفوا مستندين بظهورهم إلى الحائط وبعضهم واقفون وكان من الواضح أن ثمة حوار يدور بينهم في هدوء..وبعضهم تجمع حول المقصف راحوا يرتشفون الشاي..وبعضهم لا يزالون يمشون في خطوات ثابتة في طريقهم إلى عملهم..نفس الطريق الذي يسيرون فيه كل يوم..إنهم لم يصلوا بعد إلى باب المصنع..ولعلهم كانوا يتساءلون مثله في تلك اللحظة:ما الذي يحدث أمامهم!.ودخل،ودخلوا معه بعد أن تبادلوا تحية الصباح.وعرفوا الخبر لقد مات بالأمس مدير المصنع إثر سكتة قلبية.وفي الداخل..في مكتب المدير الآن يجتمع أبناء المدير الذي رحل فجأة..والمحامي المسؤول عن المسائل القانونية المتصلة بالمصنع والعاملين فيه..إنهم يجردون المبالغ المودعة في الخزينة..ويقرؤون الوصية التي كتبها مدير المصنع قبل وفاته بسنوات طويلة..والعمال في لهفة يريدون أن يعرفوا من يكون المدير الجديد بين الأبناء الثلاثة الذين ورثوا هذا العمل الناجح.ولم تطل وقفتهم..فقد خرج المجتمعون،ووقف المحامي ومن حوله الأبناء الثلاثة،وراح يقرأ على العمال الوصية التي تركها مدير المصنع..فقد كانت هذه رغبته،وكانت المفاجأة..لم يختر أيا من أبنائه الثلاثة لإدارة المصنع من بعده!..من إذاً؟!.إنه العامل البسيط الذي كان يضع فيه أمله وثقته،فهو لم ينس أنه كان معه وهو يضع أول حجر في هذا البناء الذي بدأ صغيراً،ثم أصبح واحداً من أكبر مصانع الألمنيوم في المدينة..إنه الوحيد الذي يستطيع أن يدير هذا المصنع،فلا أحد من الأبناء الثلاثة بدا يوما مهتماً بمصنع أبيه..كان كل منهم يسير في طريق بعيد تماماً عن كل ما يمت بصلة للعمل في هذا المصنع.وبحث العمال عن زميلهم المدير الجديد ،فلم يجدوه..لقد تسلل في هدوء عائداً إلى بيته وكأنه يحمل فوق رأسه جبلاً..كان الجلوس في القمة التي وجد نفسه قد وصل إليها فجأة آخر شيء خطر بباله..فقد كان قانعا راضياً بحياته وعمله، وإن ساوره الطموح،فقد كان أقصى ما يتمناه أن يرتفع أجره قليلاً مع شيء من زيادة في مسؤولياته،ولا شيء أكثر من هذا.ودخل على زوجته مهموماً كما لو كان في بحر واسع تتلاطمه الأمواج،ولا يرى فيه أثراً لأرض قريبة أو بعيدة.