أصبحت “الفتوى” في المدة الأخيرة بضاعة رخيصة، يصدرها من لا تتوافر فيهم شروطها، كما صارت كلمة “الإجماع” تتردد على لسان كثير من غير المختصين، قراءً وكتاباً، يستعملونها في عبارات من قبيل “قد قام الإجماع” على كذا أو كذا... ولو أنك سألتهم إجماع مَن؟ وكيف قام؟ ومتى؟ لما حصلتَ على إجابة تنمُّ عن معرفة بالموضوع!من أجل ذلك رأينا أنه قد يكون من المفيد إلقاء شيء من الضوء على هذين المفهومين، مستهلِّين هذا القول بمقدمة وجيزة حول أصول التشريع في الإسلام.عندما نتحدث عن “الفتوى” أو “الإجماع”، حين يتعلق الأمر بإبداء الرأي في حكم هذا الشيء أو ذاك من ناحية الشرعية الدينية الإسلامية، فنحن نتحدث عن مفهومين أساسين من مفاهيم أصول الفقه. فالفتوى تقوم على الاجتهاد، والاجتهاد يعتمد وسائل متنوعة منها القياس، والقياس والإجماع هما الأصلان الثالث والرابع من أصول التشريع في الإسلام كما حددها الإمام الشافعي في رسالته المشهورة التي ما زالت العمدة في الموضوع.في عصر النبوة كانت هناك مرجعية واحدة هي القرآن، وما حدَّث به النبي عليه الصلاة والسلام أو فَعَلَه على سبيل البيان لما في القرآن، معبَّراً عنه أو مفهوماً من عبارته. وإنما قيدنا هنا حديث النبي وفعله صلى الله عليه وسلم بكونهما بياناً لما في القرآن، لأنه ليس كل كلام أو فعل للنبي صلى الله عليه وسلم له صبغة المرجعية الدينية. وهذا ما بينه عليه الصلاة والسلام وأكده مرات عديدة. فقد ورد في الحديث أن النبي مر بأناس يلقحون النخل فقال لهم هلا تركتموه! فتركوه بدون تلقيح فلم ينتج. ولما أخبروه بذلك قال لهم: “إذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، فإذا كان من أمر دينكم فإليَّ”. وفي مناسبة أخرى سمع صلى الله عليه وسلم بعضَ أصحابه يقولون : “فرَّطنا في صلاتنا”، فقال: “ما تقولون؟ إن كان أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان أمر دينكم فإليّ” (ابن ماجة 2539، وابن حنبل 12289 و22168).وتحدِّثنا الروايات العديدة عن أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يسارع إلى إبداء رأيه فيما يسأل عنه، بل غالباً ما كان ينتظر الوحي، وأحياناً كثيرة يستشير صحابته عن رأيهم، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بأمور الدنيا. وعندما أكثر الناس من طرح الأسئلة على النبي عليه الصلاة والسلام طلباً لحكم الشرع في كل قضية، واقعية أو متخيلة، نهاهم عن ذلك. روي عن ابن عباس أنه قال : “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذّن فـي الناس، فقال: «يا قَوْمِ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الحَجُّ». فقام رجل من بني أسد فقال: يا رسول الله، أفي كلّ عام؟ فأغْضبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، فقال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُـحَمَّدِ بَـيَدِهِ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ ما اسْتَطَعْتُـمْ، وِإذَنْ لَكَفَرْتُمْ، فاتْرُكُونِي ما تَرَكْتُكُمْ، فإذَا أمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فـافْعَلُوا، وإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْء فانُتَهُوا عَنْهُ». فأنزل الله تعالـى: “يا أيُّها الَّذِين آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ”. يقول ابن عباس: نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من الـمائدة، فأصبحوا بها كافرين، فنهى الله تعالى عن ذلك”.لقد اخترنا هذه الرواية حول سبب نزول هذه الآية، من جملة روايات أخرى ذكرها الطبري، لأنها أكثر انسجاماً مع السياق. ذلك أن الآية التي تلي السابقة مباشرة تشير فعلاً إلى “المائدة” التي سألت عنها النصارى. ونص الآيتين كما يلي: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ، عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ. قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ” (المائدة 101-102).واضح أن طلب رأي الشرع في كل شيء، خصوصاً ما سكت عنه، و”إصدار الفتاوى” من غير علم، وبدون حاجة ماسة، أمر منهي عنه بنص القرآن. ولذلك اشترط الأصوليون شروطاً دقيقة في المفتي، سواء كان يفعل ذلك بتكليف من الدولة أو الجماعة أو كان يجيب عن أسئلة أشخاص في الشارع أو في المسجد أو على أمواج الإذاعة والتلفاز. يقول الشافعي: “ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله أن يقول إلا من جهة علمٍ مضى قبله. وجهةُ العلم بعدُ: الكتاب والسُّنة والإجماع والآثار وما وصفت من القياس عليها. ولا يقيس إلا من له الآلة التي له بها القياس، وهي العلم بأحكام كتاب الله، فرضه وأدبه وناسخه ومنسوخه وعامه وخاصه وإرشاده، ويستدل على ما احتمل التأويل منه بسنن رسول الله، فإذا لم يجد سُنة فبإجماع المسلمين، فإن لم يكن إجماع فبالقياس” (الشافعي: الرسالة ص 509-510).ومما يؤسف له أن كثيراً ممن يبادرون إلى التعبير عن “رأي الدين” حين يسألون عن أمور يفترض أنها من اختصاصهم لا يتريّثون ولا يرجعون لا إلى المراجع ولا إلى المصالح فتكون النتيجة : “الفتوى” عن جهل مركَّب.من ذلك هذا المثال الذي سمعت في المدة الأخيرة مضمونه في إحدى الإذاعات مصادفة. يتعلق الأمر بحوار كانت تديره مذيعة حول تعيين قاضية في قطر عربي. وقد سألتْ أحدهم عن رأي الدين في ذلك. فأجاب: “ذلك غير جائز”. ثم مضى يشرح حججه في هذه الفتوى فقال: إن المرأة عاطفية بطبعها، وقد تنساق مع عاطفتها فتحكم لفائدة من تتعاطف معه. ثم أضاف: والمرأة تكون غير طاهرة في أوقات معينة، قد تضطر فيها إلى الرجوع إلى القرآن، فلا تقدر، لأنه “لا يمسه إلا المطهَّرون”.ما أثار انتباهي في هذا التبرير ثلاثة أمور:1- إن كون المرأة عاطفية مبرر لا أصل له، فالرجل عاطفي كذلك، وهناك من الرجال من ينساقون مع عواطفهم ربما أكثر من النساء. ولا يمكن تبرير ذلك بالقياس مع مسألة الشهادة. فالعلة في طلب امرأتين في الشهادة علة مُبَيَّنَة في الآية التي شرعت لهذه المسألة، وهي الخوف من أن تنسى إحداهما فتذكرها الأخرى. والنسيان شيء والعاطفة شيء آخر، فالنسيان قد يطرأ على المرأة بسبب وضعها الاجتماعي، ومعلوم أنه إذا زالت العلة زال الحكم الذي أوجبته. ولو كانت “عاطفة المرأة” علة لاحتمال عدم حكمها بالعدل لنبه الشرع إلى ذلك كما فعل بالنسبة للشهادة. إن هذا النوع من التبرير تطاولٌ على الشرع، إذ ليس هناك لا في الكتاب ولا في السُّنة ما يسنده.2- أما المبرر الثاني الذي استند إليه صاحبنا في القول بعدم جواز ولاية المرأة لمهنة القضاء، والذي عبر عنه بكون المرأة تكون في أوقات معينة غير طاهرة... الخ، فمبرر واهٍ تماماً. ذلك لأنه حتى ولو سلمنا بأن الآية التي تنص على أن “الكتاب” لا يمسه إلا المطهرون تعني مصحف القرآن، فمن أين عرفنا أن المقصود هو فقط الطهارة من دم الحيض، وليس الطهارة بالمعنى العام التي تشمل الوضوء والغسل من الجنابة... الخ، وهي أمور تنطبق على الرجل والمرأة سواء بسواء؟3- على أن الأدهى من ذلك هو تفسير صاحب الفتوى للآية تفسيراً سطحياً لم يرجع فيه إلى كتب التفسير. فلو أنه رجع إليها، وهي كثيرة متوافرة، لقرأ بصدد قوله تعالى: “إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ” (الواقعة77- 79) أن المقصود بـ”الكتاب المكنون”، في الآية الكريمة هو، حسب جل المفسرين، اللوح المحفوظ (كتاب في السماء)، وأن المقصود بـ”المطهرون” في قوله “لا يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ” هم “المطهرون من الذنوب وهم الملائكة”. وهذا قال به جل المفسرين وهو “ما اختاره مالك حيث قال: أحسن ما سمعت في قوله “لا يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ” أنها بمنزلة الآية التي في سورة عَبَسَ، وذلك قوله تعالى: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرَامٍ بَرَرَةٍ” (عبس 12-16)، يريد أن المطهَّرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة «عبس».والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فـ”السفرة” في هذه الآية هم “سفراء” الله، أي الملائكة، وفي مقدمتهم جبريل عليه السلام. وإذن فقوله تعالى: “لا يمسه إلا المطهرون”، يجب أن يؤخذ بصيغة الإِخبار وليس بصيغة النفي أو النهي، أما “المطهرون” فهم الملائكة كما ورد شرح ذاك في القرآن.وإذن، فليس المقصود أن المصحف يجب ألا يمسه إلا الذين هم على طهارة الوضوء والغسل... الخ. أما دم الاستحاضة أو دم النفاس فلا مدخل له في الأمر لأنه لا يعقل أن يحرم الله على المرأة قراءة القرآن أو مس المصحف عند وجودهما، فالأمر ليس باختيارها أولاً، ولذلك رخص لها بالإفطار في رمضان، ولا معنى للقياس على ذلك بالقول إن الله “رخص” لها بعدم قراءة القرآن أو مس المصحف! فالأمر لا يتعلق هنا بفرض واجب كالصيام والصلاة. ثم لماذا يفكر الرجل في “نقص المرأة” وحدها. لماذا لا يفكر في السلس أو في عدم القدرة على إمساك الريح مثلاً، وهما من الأمراض المزمنة التي يصاب بها الرجل وكثيراً ما تكتسي صورة المرض الدائم!نعم هناك حديث يروى على هذه الصيغة: “لا تمسّ القرآن إلا وأنت طاهر” مما جعل بعض المفسرين يوسعون معنى الطهارة هنا لتشمل “الأحداث والأنجاس، والشرك، والذنوب والخطايا”.ولم يرد فيما اطلعنا عليه ذكر لدم الحيض. على أن “الأمر” في هذا الحديث لا ينبغي أن يحمل على الوجوب بل على الندب، فاحتراماً للقرآن ومن آداب التعامل معه أن يكون المرء على طهارة. وإذا كنت أقبل هذا الحديث على هذا المستوى، فإني أرى أنه ليس من الضروري اعتباره نصاً تشريعياً، أولاً لأن لفظه يبعد أن يكون هو نفس اللفظ الذي استعمله النبي عليه الصلاة والسلام. إن اللفظ المستعمل في القرآن وفي الحديث هو “القراءة” أو “التلاوة”. أما لفظ “المس” فقد جاء مقصوراً على الملائكة، ومعنى “المس” عندما ينسب إلى الملائكة غير معلوم. فالملائكة ليست أجساماً، بل هي أرواح مثل جبريل، ومس الروح غير معلوم.[c1]* نقلا عن صحيفة “الاتحاد” الإماراتية[/c]
الفتوى... والجهل المركَّب!
أخبار متعلقة