لم يكن من عادة الملك الشهيد فيصل بن عبد العزيز أن يتحدث إلى وزرائه من خلال الهاتف. فقد كان ذا مهابة ووقار. وخلال الثلاثة عشر عاما التي قضيتها في معيته وزيرا للإعلام فوزيرا للصحة لم يتحدث إلي بالهاتف إلا مرة واحدة. كان ذلك في الساعة الرابعة من مساء يوم الجمعة 9 يونيو عام 1967. جاء حديثه في واحدة من أكثر الساعات كآبة وحزنا في التاريخ العربي المعاصر. كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قد أعلن لتوه مسؤوليته عن الكارثة التي مني بها العرب في 5 يونيو عام 1967، وقراره بالتنازل عن الحكم. وكان ملخص التوجيه الذي جاءني من الملك الشهيد أن أتولى بنفسي الإشراف على الإعلام السعودي كي لا يصدر عنه في هذه المناسبة الحزينة ما قد يوحي بالنقد أو الشماتة بالرئيس ـ وكانت المشاعر ملتهبة بالغضب والذهول من سرعة وحجم هذه الهزيمة المروعة ـ وأن أحرص على أن يكون هذا التوجيه موضع التنفيذ. كان في إمكان فيصل بن عبد العزيز أن يتعهد لرئيس ديوانه بمهمة إيصال توجيهه للوزير إلا أن حرصه على هذا الأمر قد دفع به لأن يفاجئني باتصال هاتفي لم يخطر لي على بال.ثم جاء مؤتمر الخرطوم في أعقاب هزيمة حزيران 1967 فكان للمملكة العربية السعودية دور تسامى فيه فيصل بن عبد العزيز على مرارة الماضي وألقى بثقله دعما لمصر ودعما لرئيسها الجريح على نحو ما سجله التاريخ وأتى عليه المؤرخون.هذه صورة من صور العمل العربي في سياسة المملكة العربية السعودية أردت بها أن تكون مدخلا للحديث عن سياسة بلادي في الشأن العربي العام.لقد أمكن لي، منذ أن التحقت بوزارة الخارجية في شهر يناير عام 1951، أي منذ أكثر من خمسة وخمسين عاما، أن أتابع عن قرب مسار هذه السياسة يوميا، ولم يحدث عمل انفعالي أفرزته مواقف متعجلة أو اندفاع من غير حكمة وأناة. وقد تأتي الأحداث السياسية على نحو مباغت وعنيف ـ ما قد يربك العقول ـ إلا أن مواقف المملكة العربية السعودية من الأحداث تمليها قناعات توارثتها القيادات السعودية توارث الالتزام وظلت أمينة عليها لتثبت الأيام سلامة الرؤية فيها.ومن الثوابت في هذه السياسة أن المملكة العربية السعودية لا تقبل أن يتدخل أحد في شؤونها كما أنها لا تجيز لنفسها التدخل في شؤون الآخرين. وغالبا ما تنأى بنفسها عن أي حدث عربي إذا لم يكن في ذلك الحدث مساس بمصالحها أو إذا لم يطلب إليها أن تكون الطرف الوسيط في تداعيات ذلك الحدث. والمملكة العربية السعودية تستلهم هذه السياسة من واقعها الإسلامي والعربي. فهي الدولة المسلمة التي يجب أن لا تدخل في نزاع مع دولة مسلمة أخرى. ويجب أن تظل حدودها مشرعة الأبواب كي يفد إليها الحجيج حتى من الدولة التي دخلت معها في نزاع. فلا يمكن للمملكة العربية السعودية أن تحول دون وصول الحجيج إليها من الدولة المتنازعة معها لأن الحج فريضة وركن من أركان الإسلام الخمسة، وليس هناك من حائل على وجه الأرض يمنع مسلما من أداء ركن من أركان دينه.وقد ظلت المملكة العربية السعودية تمارس سياستها الخارجية بتواضع وعلى استحياء، كما قيل عنها، حتى وصفت تلك السياسة بأنها سياسة العزوف واللامبالاة. وهذا تخريج في غير موضعه. فالمملكة ظلت، عبر تاريخها الطويل، على استعداد للاستجابة لأي مسعي يصلح ذات البين بين دولتين مسلمتين أو دولتين عربيتين، تؤهلها لتلك المهمة الثقة المتناهية للأطراف المتنازعة في حيادها وتجردها في الحكم على الأحداث وحرصها على أن تكون على مستوى الثقة التي وضعت فيها.ففي أواسط أعوام الخمسينيات من القرن الماضي تأزمت الأمور بين أفغانستان وباكستان وكادت أن تنذر بحرب شاملة بين البلدين. ولم يجد البلدان من وسيط يعهدون إليه بمهمة النظر في الخلاف إلا المملكة العربية السعودية حيث أوكل الملك سعود بن عبد العزيز إلى عمه الأمير مساعد بن عبد الرحمن وزير المالية السابق يرحمه الله مسؤولية هذه المهمة الكبيرة.وما أن ينفجر خلاف بين دولتين عربيتين إلا ويتوجه أطراف النزاع للمملكة العربية السعودية للتوسط في ذلك الخلاف. والمملكة في تجاوبها هذا لا تسعى إلى دور تلعبه، أو إلى أن تكون في دائرة الضوء من الأحداث. بل إنها ترى في هذه الوساطة قدرا مكتوبا وسعيا تمليه روابط الإخاء، وأمانة في العنق لا سبيل إلى التخلي عنها أو التفريط فيها. وتاريخ المملكة مليء بالشواهد على ما قامت به شخصيات سعودية رفيعة المستوى من وساطات عربية بتكليف من الملك سعود والملك فيصل والملك خالد والملك فهد يرحمهم الله.الآن، تنعقد قمة الرياض والأمة العربية مثقلة بالجراح بمشاكل معقدة في العراق وفلسطين ولبنان والسودان. وكل مشكلة هي أشد تعقيدا من المشكلة الأخرى.. وقد اعتاد المواطن العربي في مدة الخمسين عاما الماضية أن يرى القمم العربية تنعقد وتنفض دون أن يكون فيها حد أدنى من الاستجابة لأمانيه. فانصرف عنها، وفقد اهتمامه بها، ومصداقيته بجدواها. ولعله من المفيد أن يعلم القارئ أن هذه أول قمة عربية تستضيفها الرياض منذ تأسيس الجامعة العربية. وليس في هذا الموقف إعراض عن مسؤوليات القمم. فقد ظلت المملكة العربية السعودية وفية لالتزاماتها إزاء الجامعة العربية، صادقة في النهوض بأعبائها، أمينة على عهودها إلا إنها لم تسع يوما لأن تجعل من استضافتها للقمم العربية مصدرا للتألق الإعلامي والغرق في الأضواء بل تريد للقمم العربية أن يقترن انعقادها بالنجاح، بالوفاق، بالتصدي لمشاكل الأمة العربية والتعامل معها بنقاء وصفاء، لا أن تتحول القمم العربية لمناسبات من تبادل التحايا والبيانات الفارغة المضمون، والهموم العربية تظل على جدول الأعمال، من قمة إلى أخرى في انتظار منقذ يحمل الحلول.وقد لا تختلف قمة الرياض عن القمم العربية الأخرى إذا لم يعالج كل بلد عربي مشاكله ويأتي إلى الاجتماع بقلب سليم.. فماذا يمكن للدولة المضيفة أن تفعل خلال يومين ينقضي نصفها في وقائع مراسمية. كما إنه ليس من العدل أن نحمل الجامعة العربية وأمينها العام وزر التناقضات في العمل العربي والعجز عن تأمين الحلول..إن ما يجري في العراق هو مأساة عربية كبرى. لقد كتبت في جريدة «الشرق الأوسط»، بتاريخ 8 / 11 / 2003 مقالا عن العراق أعربت فيه عن مخاوفي مما ينام عليه المستقبل من مفاجآت. وقلت «من أجل أن يسترد العراق عافيته يجب أن يترك العراقيون وشأنهم وأن لا يتحول العراق مسرحا للصراعات الإقليمية والمواجهة بين الولايات المتحدة وجيران العراق وأن لا يجهض الحماس الدولي لإعادة إعمار العراق وأن يعي الإعلام العربي هذه الحقيقة وأن يساعد على فهمها حتى لا يدفع شعب العراق مرة أخرى ثمن المزايدات العابثة».والآن وبعد أربعة أعوام مما خشيت منه وتنبأت به يأتي العراق لقمة الرياض حاملا مأساته الكبرى.. والكل يعلم أن الحل في بغداد وليس الحل في الرياض.وفي لبنان «قضية» يستعصى فهمها على العقول. وكلما سألنا مواطنا لبنانيا بسيطا عما يدور في بلده انفجر بالغضب وقال «إن ما يدور في بلدي ليس اجتهادا من أجل خيره وازدهاره. إنه ضرب من العبث بمقدرات شعبه. واستخفاف بإرادته، إنه تكالب على السلطة وصراع على النفوذ». ربما كان هذا الرأي وليد مشاعر اليأس والإحباط إلا أنه مؤشر على ما وصلت إليه الحال بشعب مبدع خلاق في بلد طيب جميل. وشعب لبنان يتطلع إلى قمة الرياض كي تأتي إليه بحلول ترفع عنه أسباب المعاناة، وتعود به إلى ما يتمناه من الاستقرار فالازدهار إلا ان قمة الرياض لا تملك مفاتيح الانفراج إذا كان من يتحدثون باسمه من الساسة والزعماء يعسكرون خلف مواقف التشدد والعناد.ربما شعر المواطن العربي أن هموم السودان ليست قريبة من همومه إلا أن هموم السودان هي هموم عربية حتى وإن بدت بعيدة عن صباحه ومسائه. فالسودان وطن الشعب العربي ذي الفضائل والقيم. لم يوفق هذا البلد العربي بعود من الاستقرار بسبب الحرب الأهلية في السودان وناله من سوء التدبير ما ناله حتى كاد أن ينفصل جنوبه عن شماله. ثم جاءت مشكلة دار فور لتزيد من معاناته ولتدفع به خطوة أخرى نحو مخطط الإرباك فالتمزيق. وتكاد تأخذني الحيرة وأنا أقرأ وأسمع الإعلام الغربي يتحدث عن مائتي ألف قتيل على يد الجنود السودانيين. وإني لأشفق على هذا البلد العربي من أن تتكالب عليه العوادي والقمم العربية عاجزة عن أن تمد يد العون إليه.وفي خضم هذه الشواهد القاتمة كاد اليأس أن يذهب بنا إلى غير رجعة عندما لم يكتف الفلسطيني أن يشهر سلاحه في وجه أخيه بل بدأ الفلسطيني يقتل الفلسطيني. وكادت قضيتنا الكبرى أن ينالها الخزي والخذلان لولا أن الله قد بعث الهدى في قلوب قادتها فجاءوا إلى مكة المكرمة استجابة لدعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي لم يسعده شيء كما أسعده ما انتهى إليه إخوانه من تصاف وما أبرموه من اتفاق نرجو أن يكتب له الدوام. ففي مواجهة هذا الاتفاق عدو كاسر.. مراوغ.. لئيم. وفي عنق هذا الاتفاق شعب يتطلع إلى الحياة.لكي تنجح القمم يجب أن تصدق العزيمة وتعلو الهمم. فليس أحب على شعب المملكة العربية السعودية وعلى قيادته من أن تأتي قمة الرياض قمة محققة لأهدافها مقترنة بكل أسباب التوفيق والنجاح.[c1]الأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج [/c]
السعودية .. وقمة الرياض والعرب
أخبار متعلقة