[c1]الأقدام الثقيلة[/c]حاول أن يسرب جسده المنهك بحذر بين مجموعة من الناس كانوا يتحلقون بدوائر تتسع هنا، وتضيق هناك، ولكن الخوف من اكتشافه كان يصاحبه، مع أنه يشبه الكثير من أهل مدينته، بسمرته الداكنة، فتصور جسده يتضخم بشكل مفجع، ترافقه علامات فارقة تتجسم، كأنها زرعت تواً له لتعلن عنه رغم تيقنه من هوياته الشخصية ـ الرسمية ـ والمؤشر فيها على صقل العلامات الفارقة كلمة (بلا).ومما زاد في إرباكه، سماع الأصوات المتبطرة لوقع أقدامهم الثقيلة، سرق نظرة من فجوة إحدى الدوائر البشرية، فشاهد أجساماً خبيثة تحملها تلك الأقدام الثقيلة، وأنبهر ولكن ضيعت أنبهاره موجة غمرته من بشر لا يعرف أين مسارهم ... فكانت كطوق حصنه ـ من أصحاب الأقدام الثقيلة، وضاع في الزحام الدائري.انفرط عقد الموجة البشرية، فحاول أن يتسلل بعينه لمعاينة الطريق الذي يبغيه ـ ولكن الخوف مازال برفقته، خاصة وأصحاب الأقدام الثقيلة منتشرون في أرجاء المدينة الصماء، التي يبدو أن أهلها عقدوا ألسنتهم، واستبدلوا الفرح بالحزن بلا إكتراث ـ كأنهم يستبدلون حذاء بحذاء ..فتساءل مع نفسه وبمرارة: أن ألسنتهم السيفية، وفرحهم الماجن، أما هو ـ فحقاً فقد الفرح، ولكن لم يرتد الحزن، وفمه ذلك الفم الذي تعرف عليه منذ أربعة وثلاثين عاماً (سنون عمره) مازال مفتوحاً، فأعثرته دهشة مصحوبة بغثيان تقلصت على أثرها عضلات وجهه كأنه وجه شيخ عجوز ـ ركب عنوة على جسم فتى.جاهد كثيراً لكي يستجمع ما تبقى من جرأة قديمة يمتلكها بأكملها فنظر إلى الطريق، هو يحسب (بحالة من اللافرح وبعيدة عن الحزن) المسافة المتبقية .. لم تبق غير مائة متر أو أكثر بقليل، لدخول البيت، الذي عاش فيه أحلى أيامه، وغادره قسراًَ منذ سنين ثلاث، ولكن على حين غرة لاحت أقدامهم الثقيلة، فعاد جسده يلعب لعبته الخبيثة، يتضخم بوضع أكبر من السابق.(سيفضحني) وبدأت علاماته اللافارقة تكبر ... يا للهول مائة متر ... الميل يأكل الميل، وسيارة تبتلعني، فتقززني ـ جثة ـ متعبة لسيارة أخرى ولكن بالمائة متر ... سيكتشفوني ... ولكن الزجاج الخلفي الملمع للسيارة الواقعة خيب ظنونه وبرد خوفه.سار بخطوات مرتبكة، وبعيون حذره، تكاد تفضحه، .. يا رجلي أين الجرأة السابقة .. خاطب رجليه موبخاً .. نط إلى السيارة تجاوزه أجزاء هيكلها الخلفي، كانت مكتظة بأناس أعينهم بمثابة الألسنة.(الهويات) نطق بها صوت أجش، وبنبرة فاقت بحدتها فعل الأمر .. وتسابقت الهويات الشخصية ... انسلت يده بشكل لا إرادي ـ مستخرجة الهوية القديمة التي اختفت بين الهويات الأولى لتشابه لونها، والتي لو قرأها صاحب الصوت الأجش لكان صاحبنا في وضع لا تحمد عقباه .. ولكنه أدار وجهه .. وأدار محرك السيارة.(قف .. قف)(قف أخي) منادياً السائق، هذا المكان الذي ابغيه (تسلل وارتسمت على وجهه فرحة يشوبها توجس، ولكن التوجس غادره عندما لاحت الشجيرات التي زرعها أمام بيت أهله، وأطفال ـ محلته ـ الذين طالت قاماتهم أشباراً أخرى. لاحظه الأطفال بفضولهم المعهود، ولكن تغير، فسرعان ما عادت أنظارهم إلى لعبهم.وقف عند الباب وكانت رهبة المكان بادية عليه كمن يقف أمام محراب مسجد يطلب الغفران، لانقطاعه الطويل .بعد أن كانت قدماه تشبعان الطريق إليه بالقبلات .. تحس الشجيرات برقة، قبلها، كالذي يتوسل حبيبة غاضبة، سقطت دمعة حارة، ولكن غصن إحدى الشجيرات، لطمه، ماسحاً الدمعة ليؤكد رفض القبلة لمن لا يعرفه.كيف يلاقي أهله ؟! .. تحير، ضاقت أنفاسه شحب لونه، ضاعت الكلمات من فمه .. وراحت إحدى يديه تبحث عن الجرس حينها مسحت دمعة نافرة، استقرت في حديقة عينه بعناد .. وجاءه صوت أجش، يركب اقداماً ثقيلة.ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ[c1]ثمن مبيت جثة [/c]تعب السؤال ... إذ كلما طرق باباً يسأل عن ولده كان الجواب يصله شحيحاً في اغلب الحالات وفي أخرى يسأله الذين يفترض منهم الإجابة. ذات السؤال ، لم يدلف إلى بيوت معارفه حيث يفرق الجواب مسبقاً ، لم ييأس. حدث نفسه: تتفتت خيوط الليل ، وابدأ رحلتي المقبلة وبخوف من ينتظر المجهول عاود السؤال . في مستشفيات المدينة مخافر الشرطة .. كان يتحصل على إجابات كسولة متراخية ( لا يوجد احد بهذا اسم). يتهاوى على أول أريكة في بيته كملاكم خسر جولة يحاول أن يسترد أنفاسه.. ولكن الأفكار والاحتمالات تحاصره تضيق عليه يتخيل نفسه في قارب متعب وسط بحر هائج تطارده أمواج غاضبة تغطيها ريح عاتية وبمجداف واحد يصارع الأمواج والريح يصارعها تهشم الأمواج المجداف الواحد فيما تتقاذف الرياح القارب المتعب. يرن جرس الباب الخارجي رنات طويلة .. يجفل يتمزق الكابوس يرفع بصيرته التعبى ... رنات الجرس بإيقاعاتها الحادة تؤكد له بأن الطارق ليس ابنه يفتح الباب قليلاً .. تدلف أصوات جشه ... يعاين من تقيأها أجساداً غلاظاً ارتدت ملابس رقيقة الملمس ، بيضاء كالفن... يبدون خلالها كأمراء بدو، البسوا زياً غير زيهم... استغرب هيأتهم ، ولكنه لم يستغرب أناقتهم إذ حينها كانت الشمس تجرجر أذيالها خجلى، وهو وقت لحفلات الكوكتيل ، وهمهم “ قطعاً “ اخطاؤوا البيت !! اتجه نحوهم.. أراد أن يقول الكلمة، التي صارت عرفاً ، تفضلوا ولكن احدهم رماه مظروفاً .. قبل أن يلتقطه... صرخت عجلات المرسيدس ، ما أن فتح المظروف حتى تزاحمت قطيرات صغيرة في عينه ، ثم انسابت بانسيابها بددت صرخة كادت تحرقه لكأنها تقول :” لا جدوى من الصراخ”. أخذ المظروف بيدين فقدتا قدرتهما وراحت قدماه تسحبان جسده الخاوي ، حيث العنوان كمتسول أنهكه الجوع .. همس عند باب البناية العصرية جداً ، ناوله المظروف. دخلا سوية.. واجهه تيار هوائي شديد البرودة كور كتفيه وضم يديه إلى صدره سارا في ممر طويل.. ارتعش سرت في جسده قشعريرة إذ رأى اناساً يغادرون البناية وهم يحملون توابيت وعلى وجوههم ارتسمت علامات حيرة وآخرين ذوي وجوه مكفهرة يدخلون حاملين بلا اكتراث جثثاً كمن يحمل صندوق قمامة... ثم توقفا عند باب .. فتحه الآخر .. ارتاع .. ابتسم الآخر بخبث ، نظر .. رفوف .. مساطب برادات كلها ملأى جثثاً يضغط الآخر زراً كهربائياً تفتح برادة فيها جثث محتشدة يمد يده تدور.. يدور يسحبها.. يمط شفتيه يضغط زراً آخر رؤوس ملأ .. أعين مفقودة... زر ثالث آخرون يدفعون جثثاً أخرى تتكاثر الأزرار عيناه تتقافزان ... جثث جديدة تدفع داخل البرادات وأخرى.. تسحب خارجاً .. جثث مسجاة على الأرض ودماء يبست ، جثث تحمل نياشين وأخرى لا توصف يكلم نفسه لولا زحمة المكان لما أرسلوا بطلبي لاستلام الجثة. راح الأخر يقلب الجثث كبائع خردة ، يبحث عن سلعة مطلوبة تواً في محله المكتظ فيما راح هو في دوامة الحسرة. غدت أحلى الآمال جثة مبردة بعد أن وهبت حياتها للآخرين تمنحهم دفئاً وتهدي الناس رحيق عمرها) احترس يا بني فأني أرى صقوراً تحوم ملوحة بمخالبها). وأيقظه الآخر .. خذ ناوله ورقة مكتوباً عليها بخط مطبوع اسم ابنه واسمه.... وأرقاماً حسابية 7000 دنانير ثمن التابوت. 385 فلساً ثمن التبريد. 2.290 ديناران ومائتان وتسعون فلساً ثمن أيام المبيت 9.675 تسعة دنانير وستمائة وخمسة وسبعون فلساً فقط لاغير وثبتت تحت ملاحظة : تدفع قبل استلام الجثة.