أنا في البداية، أعتذر عن التقصير في هذه الورقة نظراً لضيق الوقت المتاح لكتابتها ولهذا فإنني من خلالها لا أطمح في تقديم مادة غزيرة أو في بحث يتألق فكراً وعلماً ومع ذلك فإنّ المناسبة تفرض نفسها... وذلك هو عيد الثورة اليمنية المجيدة.والموضوع كما ذكر الزملاء يستحق اهتماماً خاصاً، بحيث يفرد له كتاب مستقل يقوم به أكثر من باحث، فالخلفية الثقافية للثورة تحتاج إلى مادة وثائقية، ودور العمل الثقافي في تعزيز مكاسب الثورة يتجاوز مجرد معلومات عابرة إلى استيفاء نصوص شعرية ونثرية شكلت حينذاك الرأي العام وصاغت وجدان الجماهير التي ناصرت الثورة والتفت حولها.وقد تفضل الشاعر والمؤرخ المعروف الصديق علي بن علي صبرة فأجمل الخلفية الفكرية للثورة عبر التاريخ بأسلوبه المكثف والرشيق وأعتقد أنّه لا يخالفني الرأي في أنّ ما ذكره يكاد أن يكون عناصر الموضوع وليس الموضوع نفسه لقد حلق كثيراً وهو العارف الخبير ولكن من الصعب أن يقع بعد ذلك في حدود بضع ورقات.وعندما أفاض المثقف الكبير الأخ حسن اللوزي في تعقيبه كشف لنا بوضوح عن خطورة الموضوع وترامي أطرافه، بما في ذلك الإبداعات والإنجازات الثقافية بعد الثورة، خاصة والعنوان يحمل مصطلحي الثقافة والحضارة وهما تسميتان من باب المؤتلف والمختلف.يختلف الناس كثيراً حول مفهوم الثقافة والحضارة وسيظلون يختلفون إلى ما شاء الله، ولكن في حدود هذه الورقة سأحاول ارتجالاً أن أضع معياراً للتفريق بينهما لننطلق بعد ذلك إلى الحديث عن البُعد الثقافي والحضاري للثورة اليمنية وهو العنوان الذي تكرمت به إدارة صحيفة (26 سبتمبر) المرموقة ممثلة برئيسها الأستاذ العميد الركن / علي حسن الشاطر.الحضارة جماع الإنتاج المادي المؤسسي لشعب ما، أي تلك المنجزات التي يسهم ذلك الشعب بها في تيار مسيرة الحضارة الإنسانية. إنّ المدنية حضارة، وإقامة المدن وبناء المنشآت واستصلاح الأرض وإقامة المصانع وشق الطرقات وبناء الجيوش وتمصير الأمصار وبناء الدول كل ذلك حضارة وعلى سبيل المثال بناء الأهرامات في مصر وتشييد السدود في اليمن وإقامة الأبراج في العراق معالم حضارة قديمة تفصح عن حضارة راقية في تلك البقاع.والثقافة هي تلك السمات الروحية والإبداعية التي تميز شعباً ما من خلال استمرارية تاريخه، وفي الغالب بطريقة تلقائية، وهي إبداعات فردية أو جماعية تعكس نواة متجددة وأصالة مبدعة، فالفنون والآداب والقيم الروحية والسجايا العامة والتقاليد الشعبية وأساليب الحرف اليدوية كل ذلك إبداع يتميز به ذلك الشعب ويمثل شخصيته ويعكس ذاتيته الثقافية.وقد خطر في بالي أن استّل خيطاً من خيوط الموضوع أسلط الضوء عليه بحيث ندلل على أهمية الموضوع وعلى قصور ينبغي لمن يكتب منّا في هذا المجال أن يتلافاه حتى يتوافر مرجع شامل موثق لثقافة الثورة اليمنية انطلاقاً وتطوراً وآفاقاً للمستقبل.هل كان الضباط الأحرار وحركة الثورة اليمنية، عموماً، شمالاً وجنوباً على وعي بالسناد الحضاري للأمة أي للشعب اليمني؟ هل كان أولئك الرواد، منذ حوالي نصف قرن على وعي عميق بالتراث الحضاري العريق لأهل اليمن؟ هل كانوا يعرفون ملامح تاريخ اليمن القديم، مثلاً، وحضارة سبأ وحمير وقتبان ومعين وحضرموت؟ هل كانوا ملمين بدور أهل اليمن الكبير في الإسلام وحملهم الرسالة وفيما نقلوه معهم من تجارب حضارية راقية شملت تمصير الأمصار وفنون العمارة وتقنية الري وجر المياه وتصريفها وغيرها؟.لا شك في أنّ ثقافة ثورية كانت هناك، مستقاة من ثقافة العصر، عربية وأجنبية ومن روح الإسلام ورفضه للظلم والاستبداد وضرورة الذود عن الوطن وديار الإسلام وصد الغـُزاة.ولا شك أنّ ثقافة العصر كانت تزخر بالحديث عن الحرية والمساواة والإخاء شرقاً وغرباً، وأنّ الدعوات الفكرية السائدة، آنذاك، رغم الانغلاق والعُزلة كانت تصل إلى اليمن بطريقة أو بأخرى، وكانت مدينة عدن، رغم كونها مستعمرة بريطانية، إلا أنّها في الوقت نفسه كانت نافذة ثقافية مهمة على العالم.. وكانت الثورة المصرية تملأ أسماع الدنيا، وقضية فلسطين تلهب مشاعر العرب في كل مكان.لقد سمعنا في هذه الندوة وهو من خير ما سمعنا، أنّ الضباط الأحرار كانوا مثقفين وخريجي الكلية الحربية.. وكان منهم من هو على صلة، على الأقل بالتوجهات والحركات القومية المنظمة، وكان لديهم قناعة أنّ الثورة ضرورة وُلدت من رحم الظروف القاسية.والثورة ضرورة لوضع حدٍ لعهود من الظلم والعُزلة، للخلاص من الجهل والفقر والمرض.. هل التجرِبة التاريخية العميقة - الثقافة والحضارة - إبداعات وإنجازات قد أسهمت بطريقة مباشرة وغير مباشرة في تشكيل الوعي الثوري لدى أولئك الرواد، بحيث اكتسبوا وعياً تاريخياً عميقاً أدركوا به الفرق بين الماضي والحاضر وتمكنوا من ربط ذلك بتصورهم للواقع آنذاك بحيث أيقنوا بضرورة التغيير نحو الأفضل مستلهمين حضارة الأجداد؟ وإن ما كان عليه اليمن في الماضي من الأمجاد هو سناد ثقافي ومخزون حضاري أصيل يلهم يمن اليوم ويعزز تطلعاته؟إنّ للشعوب الحضارية، في مساراتها التاريخية الطويلة وقفات مهمة تقتضيها ظروف حياتها وزخم تجاربها، وقفات إيجابية تحاسب فيها نفسها وتتأمل واقعها وعندما يتبيَّن لها ما هي عليه من وهن وتخلف واستنقاع، تستجمع قواها وتستلهم ماضيها المجيد وتعد عدتها لتنطلق انطلاقة جديدة ولتحقق نقلة نوعية رائدة في تاريخها معتمدة على سناد ثقافي ركين وتصور معيشي جديد ومنظور اجتماعي شامل يكون بمثابة وثيقة للانطلاق وسبيل للتطور.كل الدلائل تومئ إلى أنّ الثورة اليمنية قد استندت قدر الإمكان إلى رصيد من عراقة التاريخ القديم والإسلامي وأنّها كانت تعي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة التاريخ الحضاري للأمة وضرورة السعي بقوةٍ وحماس وإخلاص وبكل الوسائل المتاحة لجيل الثورة لاستعادة المكانة الحضارية والتاريخية لليمن وطناً وشعباً.ومع ذلك ينبغي سبر أغوار هذا القول وتعضيده، فعلى سبيل المثال ومن الذاكرة واستشهد بمثال من تكويني الثقافي، وأنا اليوم أزعم أنني من المختصين في التاريخ اليمني حضارة ولغة وفناً.. لقد ولدت في قرية منسية، وفي صباي درست في عدن الابتدائية والمتوسطة الثانوية وفي أحسن المدارس آنذاك، ولكنني لم أتعلم في مرحلة التعليم العام صفحة واحدة من تاريخ اليمن القديم والإسلامي اللهم إلا كتيب صغير وجدته في مكتبة الوالد، رحمة الله عليه، مكتوب بخط جميل فيه تاريخ موجز جداً لتاريخ اليمن القديم كنت أقلب فيه بين الفينة والأخرى وهو لا يشفي غليلاً ولا أعرف كاتبه إلى اليوم.. ولا أنكر أنني كنت أعرف الكثير في المدرسة عن تاريخ الإمبراطورية البريطانية ولا أنكر أنني كنت أقرأ خارج المدرسة طبعاً شيئاً من شعر الزبيري وإصداراته مع النعمان وفيها كتيب للنعمان عن تاريخ اليمن وشيئاً من شعر علي عبدالعزيز نصر، ومحمد سعيد جرادة وعبدالله هادي سبيت وفي ذلك كله شحنة طيبة من الوطنية وبعض اللمع عن التاريخ اليمني.كان ذلك في الخمسينات، وفي عدن، وهي تموج بالثقافة آنذاك، ولو لم أقرأ ذلك الكتيب المخطوط المجهول المؤلف وكان من عدة صفحات، لما فكرت أنني بحاجةٍ لمعرفة تاريخ بلادي ولما قضيت معظم عمري بعد ذلك في دراسته.لقد كان هناك حصارشديد على تاريخ الحضارة والثقافة اليمنية في الشمال والجنوب، وأتمنى أن نتمكن من كتابة دراسة هذه المسألة بالوثائق وهذا بيت القصيد في هذه الورقة، وخاصة من خلال دراسة التكوين الثقافي للأحرار والضباط وغيرهم من المناضلين من شتى فئات الشعب.. لقد راجعت كتاب (البريد الأدبي حلقة مفقودة من حركة التنوير في اليمن) (دراسة ونصوص)، هكذا ولم أعثر في الرسائل بين رواد الثقافة المعاصرة مثل الموشكي والشامي والحضراني والمروني والعنسي على ما يغطي هذا الجانب في تلك المراسلات ليس هناك ذكراً للهمداني، ولا لنشوان ولا لسبأ ولا حمير.. وهنا أؤكد مرة أخرى أنّ إلمامي بهذا الجانب ضعيف لاشتغالي بدراسة التاريخ القديم وليس المعاصر ولكن المتتبع قد لا يرى ذلك رأي العين، وإنّما يلمحه كما يلمح ضوء القمر من خلال أوراق الدالية.ربما أكون مخطئاً في ذلك لأنني تعلمت بعد الدكتوراه الشيء الكثير عن الحضارة اليمنية القديمة من أولئك الرواد مثل الحضراني والعنسي وزيد عنان ومحمد الأكوع وسؤالي عن هذه الثقافة في الأربعينيات والخمسينيات والتي كانت تمجد الحضارة اليمنية القديمة وتذكي الحنين إلى استعادة المكانة التاريخية لليمن.لقد كان بعض الرواد يعلمون شيئاً من تاريخ اليمن القديم ولكن هل كانوا قادرين على توصيل تلك المعارف؟ الكتب المعروفة في تاريخ اليمن وحضارته صدرت كلها بعد الثورة حتى كتاب الويسي (اليمن الكبرى) صدر في العام الذي قامت فيه الثورة.والأجزاء المنشورة في (الإكليل) للهمداني، نشر جزءان منها قبل الثورة بزمن يسير كذلك قصيدة نشوان الحميري في (السيرة الجامعة).وكان بعض العلماء والصحافيين والرحالة يكتبون عن الحضارة اليمنية كما هي الحال في مجلة( المنار) وكان اليمنيون، شمالاً وجنوباً يقرؤون ما تيسر أو أقل من ذلك ولكنها كما يبدو لم تكن ثقافة سائدة.لقد جاء زمن، في العصر الحديث، تطاول الليل فيه على هذا البلد الميمون وأهله، وأصابه تقادم الزمن وظلام العهود ودخل في غربتين، غربة التاريخ وغربة العصر حتى ظن حاسدوه أنّه مجتث الجذور، فاقد الذاكرة رهين كبسولة الزمن، ولكن ما أن أراد هذا الشعب الحياة وقرر أن يحمل راية الثورة على القهر والتخلف حتى أزاح كوابيس الغربة وحطم أسوار العزلة وقضى على الاستعمار والاستبداد وامتلك زمام أمره واستنهض همم ماضيه وحاضره وشحذ ذاكرته ليستنطق رموز حضارته ومفاتيح شخصيته.. أسرار الماضي وبشائر المستقبل، وما أن فك حصار الظلم والظلام وصمم على لم شتاته وتوحيد لحمته واستذكار رموزه حتى تغيرت الصورة وتبدت تلك الرموز التاريخية الباهتة للعيان ضربة لازب، كأنّها لم تكن نسياً منسياً بالأمس، تبدت رموز تلك الحضارة والثقافة وهي تتوهج في أذهان الناس وتسري في أمشاجهم وتتجلى في سجاياهم وصنائعهم، وتحولت تلك الرموز الكامنة في أعماق الأمة منذ القرون،بعد أن غذيت بوعيها وتأججت بحرارة ثورتهاونهضتهاوتعززت بأصالة وحدتها، تحولت تلك الرموز التاريخية إلى مقاليد سحرية فاعلة في فتح أبواب الحاضر ونشر أشرعة المستقبل.لقد كان من أوليات العهد البائد طمس معالم التاريخ اليمني العريق وقد روى أحد الرحالة الأوروبيين أنّه خلال زيارته لوادي الجوف سمع أحدهم يقول له إنّ الآثار القديمة مما ينبغي إزالته فهو من تراث ما قبل الإسلام والإسلام يجب ما قبله، وبلغ بهم الأمر أن سفهوا الرموز التاريخية القديمة مثل سبأ وحمير حتى أضحت كلمة حمير سبة بينهم تكاد أن تكون أكثر سباباً من سب اليهود آنذاك، وكان في الجوف بعض من يهود اليمن، فإذا قيل هذا حميري فإنّ ذلك بمقام قولهم هذا يهودي أو أكثر.لقد أدرك الثوار أنّ الشعب اليمني ليس شعباً حديث التكوين وإنّما هو شعب عريق في الحضارة سواءً في تاريخه السبئي والحميري القديم أم في دوره المتألق في الحضارة الإسلامية فيما بعد وأن هذا السناد التاريخي هو الذي يعزز الثقة بالنفس ويسهم بشكل فعال في تشكيل وعي الناس بضرورة الثورة والتخلص من عوائق الاستبداد والاستعمار والتخلف من أجل استعادة مكانة اليمن التاريخية.لم تستند الثورة إلى العمل السياسي والتنظيم العسكري فقط وإنّما استندت أيضاً وبوعي إلى استلهام التاريخ والتراث الثقافي في اليمن، وكذلك على الإبداع الثقافي، وفي كلا الحالين كانت أمام الثوار مسألة الهوية الثقافية، وكانوا على ثقة أنّ طلقات المدافع ستصحبها قذائف الكلمات، وأنّ إذكاء الهوية - التاريخ، التي شغلت المفكرين والأدباء قبل الثورة - هي السياج الثقافي الذي سيحتضن الثورة ويشعل أمرها، ويضع الناس حولها ويعبئ طاقاتهم لترفض الواقع الأليم الذي أجبرها أن تظل مستجدية للحياة والكرامة ورهينة للظلم والقهر والجهل والفقر والمرض.ولا شك أنّ العمل السياسي في التحضير للثورة اليمنية، قد ارتكز أيضاً على العمل الثقافي ممثلاً في الرواد من أصحاب الفكر والقول والقلم وما الزبيري في شعره والنعمان في نثره، على سبيل المثال إلا دليل صريح على ذلك، إنّ أكثر الناس إحساساً بالهوية الثقافية الجامعة وبأهمية التراث الوطني في التحفيز للسعي من أجل الحرية والخلاص من الاستبداد والتحرر من الاستعمار هم العلماء والأدباء والشعراء والفنانون إذ هم بطبيعتهم أكثر الناس إدراكاً وإحساساً بالظلم والاستبداد والتخلف والعزلة والاستعمار، بل هم الأقدر على استلهام كوامن التراث الملهمة واستشعار الماضي والاستفادة منه وتوظيفه في خدمة النضال الوطني نحو الحرية والاستقلال وتحقيق الكرامة الإنسانية وصون سيادة الوطن في سبيل توفير حياة سعيدة.أما اليوم وبعد أن كسرت أطواق تلك العزلة، منذ أن قامت ثورة 26 سبتمبر 1962م، فقد تمكن الإنسان اليمني في ما يجاوز أربعين عاماً من تثبيت أقدامه في مرابع الحياة الجديدة واستطاع أن ينشر أعلامه في آفاق العالم المعاصر، وبدأ الآخرون يحسون بوجوده وبعالمه الفتي الذي ينبض بروح القوة والحياة وكان مما لفت أنظار الآخرين في عالم الإنسان اليمني الجديد معالم حضارة عريقة، تتكشف كل يوم عن الشامخ والرائد، وحاضر حي يسابق الزمن ويحقق الإنجازات الجليلة، واستمرارية عجيبة تستلهم روائع الماضي وتعبق بشذاه، وفي الوقت نفسه تنضح حاضراً مفعماً بآمال المستقبل ورؤاه المشرقة.لقد كانت الثقافة اليمنية، قبل الثورة وبعدها، أفصح أشكال التعبير وأمضى وسائله للإفصاح عن وجود شعب اليمن في هذا العالم، ومنذ أن قامت الثورة أعطت للثقافة أهمية بالغة وأكبر دليل على ذلك أنّها خصتها بوزارة، في أول تشكيل عرفته اليمن، وزارة التاريخ والآثار وإن كانت قد استغنت عنها بعد ذلك وأُنشئت للآثار والتاريخ إدارة عامة ضمن وزارة الإعلام والثقافة ثمّ أُنشئت مصلحة مستقلة للآثار منذ عام 1962م، المهم أنّ الوعي بأهمية التراث الثقافي في تعزيز مسيرة الثورة، بعد قيامها، كان حاضراً ورغم أنّ ما حدث بعد ذلك فإنّ الثقافة كانت نصب عينيها ولم تغرب عن بالها.لقد أحيت الثورة ذكرى سبأ وحمير بعد أن تطاول العهد بها وكادت أن تكون في طي النسيان وكان لسان حالهم قول الشاعر اليمني الأمير الكندي (امرئ القيس بن حجر) الذي زار موطنه في حضرموت بعد غياب في مقر ملك آبائه في نجد العالية.تطاول والليل علينا دمون دمون إننا معشر يمانونوإننا لأهلنا محبونكان اليمن قبل الإسلام حضارة راقية ظلت ذكراها عالقة في أذهان أهل اليمن حتى بعد أن بليت وأنهارت ركائزها، وفي حقيقة الأمر فتراث اليمن القديم أصبح بعد الإسلام جزءاً لا يتجزأ من موروث الثقافة الإسلامية فكانت الملاحم والأخبار والأنساب وقصص الماضي، تصورها الناس وتذكروها، بعد الإسلام، لتعبر عن فخارهم واعتزازهم وحنينهم إلى ذلك الماضي البعيد وهي إن كانت صدى صوت الماضي البعيد إلا أنّها محصلة ثقافية تعتبر سناداً مكيناً يسعف على تذكر ماضي الأمة وربطها بإطار الحضارة العربية الإسلامية، ولم يُعد يخشى من سلبيات هذا الماضي بعد أن تجاوزت الأمة خلافات الجاهلية منذ قرون كثيرة بل وأضحت قادرة على توظيف موروثها التاريخي إيجابياً في إذكاء الوعي بالثورة وتعزيز القدرة على النضال الوطني والسعي بخطى ثابتة نحو الاستقلال والتحرر والوحدة.كانت كتب الحسن بن أحمد الهمداني مثل “الإكليل” وكذلك مؤلفات نشوان بن سعيد الحميري مثل “شمس العلوم”، على ندرتها، هاجس الأحرار والثوار، بحيث اضحت الحضارة اليمنية القديمة وأمجادها تستلهم في نشر الوعي الثوري وحشد الطاقات الوطنية. وكان الرواد من الأحرار والثوار يقرؤون أشعار الملاحم اليمنية القديمة مثل قول اسعد الكامل :سيذكر قومي بعد موتي وقائعي[c1] *** [/c]وما فعلت قومي بقيس افاعلاوما دوخت أرض اليمامة بالقنا[c1] *** [/c]وما فعلت فيه تميما ووائلافحمير سادات الملوك وخيرها[c1] *** [/c]وهم من قديم الدهر سادوا القبائلاويوم لقينا العجم من أرض فارس[c1] *** [/c]لقت ضيغما من آل قحطان باسلاونلت بلاد الهند والسند كلها[c1] *** [/c]وفي الصين صيرنا نقيباً وعاملاونلت بلاد المشرقين كلاهما[c1] *** [/c]ونلت بلاد المغربين وبابلاوريدان قصري في ظفار ومنزلي[c1] *** [/c]بها أس جدي دورنا والمناهلاعلى الجنة الخضراء من أرض يحصب[c1] *** [/c]ثمانون سداً تقذف الماء سائلامآثرنا في الأرض تصدق قولنا[c1] *** [/c]إذاً ما طلبنا شاهداً أو دلائلاجاء في مجلة الحكمة اليمانية وحركة الإصلاح في اليمن في مقال لأحمد المطاع ( ص 336) ولم تزل بعض تلك الآثار جاثمة كالخلود، تمثل لرأيها أجيالاً من ملوك حمير وسبأ ومعين والأذواء، وينشد لسان حالها قبل سؤالها :تلك آثارنا تدل علينا[c1] *** [/c]فانظروا بعدنا إلى الآثاروما عليك أيُّها الباحث إلا أن تقف قليلاً بطلولهم الدوارس، ورسومهم الطوامس، بمعين، وبراقش، وصرواح، وسبأ، وناعط، وظفار، وبينون وغمدان كي تناجيك آثارهم، وتخبرك مآثرهم من نقوشهم المطلوسة على الأحجار، وبقية أطلالهم الثابتة على كر الإعصار، أنّهم أساتذة العالم في تلك العصور، وجاء في صفحة (348)وعلى كل تقدير فإنّ أجل ما كتب في هذا الباب وأقربه إلى الحقيقة، ما كتبه نشوان بن سعيد الحميري، والحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني، وهما من فحول رجال اليمن وأعيانها، غير أنّه من المؤسف بل الموجع أنّ معظم ما كتبوه سطت عليه أيدي الزمان، ونوائب الأيام، وكثير من ذلك خرج من اليمن ولاذ بخزائن الغرب، لاذ ببرلين ولندن وروما واسكريال، وما بقي منه باليمن انكمش بخزائن العظماء، وانجحر في ظلمات البيوت ينادم الفئران والأرضة؟”..((وهنا يقول القلم وهو يكاد يتعثر خجلاً، ليس أمامك أيها الباحث غير ما كتبه المستشرقون عن هذه البلاد، وذلك المجد الضارب إطنابه بالنجوم وبقية ما دونه أولئك الآباء والأمجاد، ولا أقول إنّه من العار نقل ما كتبه المستشرقون (فالحكمة ضالة المؤمن) ولكن من العار الجمود عليه والوقوف عندما رسموه، وأن نبقى عالةً عليهم حتى في معرفة بلادنا، ومهد آبائنا، ومدافن أجدادنا، أما بعد الثورة فكما نعرف جميعاً وخاصة في عهد باني اليمن الحديث الرئيس علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية الذي قال قولته المشهورة : “إنّ تاريخنا مرجع لا نظير له إذا حاولنا أن نستقي منه ملامح شعبنا وأصالته ونستنبط من خلال هذه الملامح توجهه الرائد نحو المستقبل” في عهده قامت المؤسسات الثقافية الخاصة بالآثار والتراث الثقافي الحضري وكثرت الإصدارات من الكتب ونشرت كثير من المخطوطات وعقدت الأسابيع اليمنية الثقافية في الخارج ومعارض الحضارة اليمنية واختيرت صنعاء عاصمة للثقافة العربية عام 2004م وأصبح ذكرى الماضي السعيد مادة خصبة تدرس في المدارس والجامعات وشجع فخامة الرئيس علي عبدالله صالح إصدار كتب الهمداني ونشوان بن سعيد الحميري وغيرها من كتب التراث حتى أنّه رعى ودعم شخصياً تحقيق ونشر وطبع كتاب (شمس العلوم)الذي دوَّن ملامح خالدة من الحضارة اليمنية القديمة، وفي عهده خرج اليمن حقاً إلى المحافل الدولية وأصبحت زيارة الرئيس إلى الخارج ترسم صورة اليمن الجديد في أذهان العالم وتعزز مكانته بين الأمم بحضور مشهود وصوت مسموع، وهيهات بين الحاضر والماضي، وكلنا نتذكر سخرية أبي الأحرار الشاعر الزبيري من رحلة الإمام البدر إلى موسكو :يبهرون الدنيا بزورة موسكو[c1] *** [/c]وعليهم غبار قوم ثمودأما أكبر إنجاز ثقافي وحضاري في العصور الحديثة فهو إحياء الحضارة اليمنية القديمة من خلال تحقيق فخامة الأخ الرئيس للوحدة السياسية للوطن اليمني الذي أضحى رمزاً مفعماً بالقوة والعزة ومكللاً بالكرامة والفخار.وأخيراً فإنّ صحيفة (26 سبتمبر)ليست صحيفة عسكرية تحمل اسم الثورة المجيدة فحسب وإنّما هي جريدة رائدة في مجال إحياء الثقافة والحضارة اليمنية وهي تجسد حقاً انطلاق الثورة وتطورها وتجددها وآفاق مستقبلها، هي صورة من يمن الوحدة والتنمية والحضارة.ويبقى السؤال للكرام من صُنَّاع الثورة : إلى أي حدٍ كان تكوينهم الثقافي يزخر بثقافة الماضي وروح الحضارة اليمنية؟
البُعد الثقافـي الحضاري للثورة اليمنية
أخبار متعلقة