عندما انفجرت الحرب العالمية الأولى ، ارتفع الشعار الذي يقول إنها " الحرب التي سوف تنهي كل الحروب ". لم يعكس ذلك الشعار سوى تمنيات سرعان ما تحوّلت الى أضغاث أحلام. ذلك أن الحرب التي ذهب ضحيتها الملايين من الأوروبيين، وضعت الحجر الأساس للحرب العالمية الثانية التي حصدت بدورها عدة ملايين أخرى على امتداد الكرة الأرضية.. وقد أرست تسوية تلك الحرب القواعد للحرب الباردة التي استمرت خمسين عاماً، ولسلسلة من الحروب الإقليمية الساخنة في كوريا وفيتنام، وكذلك في الشرق الأوسط الذي شهد الحرب الإسرائيلية السادسة منذ عام 1948. فالحسابات الأميركية - الإسرائيلية المشتركة تقوم على أساس أن الحرب الحالية ستنهي كل الحروب في المنطقة وتنصّب إسرائيل عليها سيداً بلا منازع. شنّت إسرائيل الحرب وفي حساباتها أنها ستحقق من خلالها الأهداف التي لم تتمكن من تحقيقها بوسائل أخرى. من هذه الأهداف، كسر شوكة المقاومة الاسلامية التي يمثلها "حزب الله" -وبالتالي كل حركة أو كل فكرة للمقاومة- ودفعها الى شمال نهر الليطاني. ومنها أيضاً تحويل لبنان إلى عراقٍ ثانٍ من خلال انكفاء "حزب الله" بسلاحه إلى العمق اللبناني مما يفجر صراعات طائفية بين المسلمين والمسيحيين، وبين المسلمين السنّة (غير المسلحين) والشيعة. في ضوء حالة الترهل التي تمر بها الدولة اللبنانية، فإن مثل هذه الصراعات كفيلة وحدها بتوجيه الضربة القاضية إلى هذه الدولة. وتكون النتيجة انفجار حرب أهلية وتمزيق لبنان الى كانتونات طائفية ومذهبية متناحرة. وبالتالي فان ما لم تتمكن إسرائيل من تحقيقه عام 1982، تأمل في أن تحققه عام 2006. غير أن الوقائع أثبتت خطأ كل هذه الحسابات الإسرائيلية. فقد جاءت القمة الروحية الإسلامية- المسيحية لتؤكد مرة أخرى على الموقف الوطني الموحد، ليس فقط من خلال تأييد الحكومة اللبنانية، ولكن فوق ذلك من خلال توجيه التحية إلى المقاومة وشهدائها وإدانة العدوان الإسرائيلي باعتباره عدواناً على اللبنانيين جميعاً. لقد تعلّم اللبنانيون على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم الكثير من الدروس من خلال صراعهم الطويل مع إسرائيل. أما محصلة هذه الدروس فهي أن إسرائيل كدولة عنصرية دينية الغائية للآخر المختلف، لا يمكن أن تتعايش أو حتى أن تقبل بوجود لبنان بصيغته الحالية، دولة متعددة الأديان والمذاهب، تعتمد على التنوع وقبول الآخر المختلف والعيش معه. فإسرائيل لها مشروعها الذي يستهدف إعادة النظر في خريطة المنطقة بحيث تُقسَّم إلى كيانات صغيرة دينية وعنصرية ومذهبية. من هنا كان حرصها وسعيها المستمرّ لضرب الوحدة الوطنية اللبنانية. لكن إسرائيل خسرت الرهان حتى الآن على إحراق لبنان بالفتن بعد أن أحرقته بالقنابل التي ألقتها من البر والبحر والجو. حتى "حزب الله" أخطأ هو أيضاً في حساباته. فقد كان يعتقد أن أسر الجنديين الإسرائيليين هو مجرد عملية محدودة لتبادلهما بالمختطفين اللبنانيين (وربما الفلسطينيين كذلك) الذين تعتقلهم إسرائيل منذ أكثر من 20 عاماً. ولم يكن يعتقد أن ردّ الفعل الإسرائيلي سيصل إلى هذا المستوى من الهمجية التدميرية. وقد اكتشف متأخراً أن إسرائيل كانت تخطط لهذا العدوان قبل أسر الجنديين، وأن عملية الأسر منحتها الذريعة التي كانت تنتظرها. كان "حزب الله" يعتبر احتفاظه بسلاحه شكلاً من أشكال قوة الردع لمنع إسرائيل من الاعتداء على لبنان، لكنها لم ترتدع. وكانت لسوريا حسابات سياسية بأن تؤدي الحرب الإسرائيلية على لبنان إلى حمل الولايات المتحدة على إعادة النظر في موقفها منها ومن دورها في لبنان. وبموجب هذه الحسابات -ربما- كانت سوريا تعتقد أن الولايات المتحدة ستضطر للانفتاح عليها من جديد وللاستعانة بها لضبط الانفلات العسكري من خلال نفوذها على "حزب الله". ولعل في الحسابات السورية أيضاً أن تؤدي الحرب على لبنان إلى فتح ملف التسوية السياسية في المنطقة بما يمكنها من تحسين شروط التفاوض حول استعادة الجولان المحتل. لكن هذه الحسابات تبدو الآن خاطئة جملة وتفصيلاً. ولا شك في أنه كانت لإيران أيضاً حسابات سياسية وهي التي تخوض معركة للإبقاء على مشروعها النووي. وهنا أيضاً ربما كانت إيران تأمل في أن تنتقل الولايات المتحدة من مقاطعتها إلى الاستنجاد بها لما لها من دلالة على "حزب الله" باعتبارها مصدر تمويله وتسليحه. لكن الذي حدث هو أن مجلس الأمن الدولي أقرّ بالإجماع قانون تحذير إيران وإنذارها بالمقاطعة إذا لم توقف التخصيب. على أن أكثر الحسابات السياسية خطأً كانت الحسابات الإسرائيلية. فقد كان في حسابات إسرائيل تلقين الانتفاضة الفلسطينية درساً من خلال العدوان التدميري على لبنان وعلى "حزب الله". وكان في حساباتها أيضاً تخويف سوريا بأنها يمكن أن تواجه نفس المصير التدميري لبنيتها التحتية إذا ما سوّلت لها نفسها تهديد أمن إسرائيل من خلال تحالفها مع إيران. وليس بعيداً عن حساباتها كذلك توجيه رسالة عسكرية إلى إيران من خلال ضرب ما تعتبره الحليف العسكري لإيران وسوريا وهو "حزب الله"، وذلك قبل أن تبادر إسرائيل بتغطية أميركية إلى توجيه ضربة إلى المفاعل النووي الإيراني. ولكن لا الانتفاضة الفلسطينية انكفأت، ولا سوريا ارتدعت، ولا إيران تراجعت. وبذلك سقطت كل الحسابات الإسرائيلية التي لا بد أن تدفع ثمنها حكومة إيهود أولمرت بعد وقف إطلاق النار. أما الحسابات الأميركية الخاصة التي صاغها المحافظون الجدد استمراراً لاستراتيجية احتلال العراق وتدميره، فقد قامت أساساً على قاعدة محاربة الإرهاب. وبموجب هذه الحسابات تعتقد الولايات المتحدة أن ضرب "حزب الله" الذي تعتبره حركة إرهابية سيجعل الحركات الإرهابية الأخرى تعيد النظر في حساباتها على قاعدة المصير التدميري الذي يواجهه الحزب في لبنان. سواء كان ذلك في العراق أو افغانستان أو في أي مكان آخر في العالم الإسلامي. ولكن هذه الحسابات أثبتت خطأها أيضاً. ذلك أن نجاح "حزب الله" في التصدي لآلة القتل الإسرائيلية أنعش آمال الحركات الأخرى وبث فيها روحاً معنوية ربما كانت تفتقدها. ولعل هذا ما حمل إسرائيل على الذهاب في عدوانها على الضفة الغربية وقطاع غزة، من وراء غبار التدمير المنهجي الذي مارسته في لبنان، إلى الرد على المطالب الدولية بإطلاق سراح الوزراء والنواب الفلسطينيين الذين اعتقلتهم بتهمة الانتماء إلى "حماس"، باعتقال عزيز الدويك رئيس مجلس النواب الفلسطيني نفسه! أما في العالم العربي فإن الخطأ في الحسابات لم يكن أقل فداحة. لقد بدا أن هناك اعتقاداً بأن العدوان الإسرائيلي على لبنان بوحشيته وبربريته وبقدرته على الحسم العسكري السريع والمتفوق سيقنع من لم يقتنع بعد في العالم العربي بضرورة تسريع التسوية مع إسرائيل حتى ولو اقتضى ذلك استرجاع الحد الأدنى من الحقوق المغتصبة. كان ثمة اعتقاد بأن إسرائيل ستخرج من الحرب على لبنان قوة عسكرية عملاقة توحي لجيرانها الأقربين (سوريا) والأبعدين (إيران) بأنه لا جدوى من مواجهتها عسكرياً، وأنه لا مناص من قبول شروطها للتسوية، خاصة وأن الرهان على أي تباين إسرائيلي أميركي أصبح واقعياً رهاناً خاسراً كما أثبتت وقائع الحرب على لبنان. لكن هذه الحسابات سقطت أيضاً عندما استطاع "حزب الله" - وهو ليس جيشاً - أن يصمد في وجه إسرائيل لشهر ونيف ، وأن يلحق بها خسائر في جبهة القتال، وحتى في العمق الإسرائيلي، ما كان يحلم الإنسان العربي بها منذ عام 1948 حتى اليوم. وهكذا بدلاً من توقع ارتفاع جديد في درجة حرارة اليأس عند الإنسان العربي، ارتفعت درجة حرارة الأمل. وبدلاً من أن ينكفئ هذا الانسان العربي ويتقوقع مدجناً أمام عتبة السلطة، بدأ يرفع صوته متسائلاً عن مصير المليارات من الدولارات التي حرم منها في التنمية والتعليم والرعاية الصحية والاجتماعية والتي أُنفقت على تسليح جيوش لم تقاتل! في ضوء ذلك يمكن وصف الحرب الإسرائيلية على لبنان بأنها حرب الحسابات الخاطئة .. فلا لبنان، ولا "حزب الله"، ولا إسرائيل، ولا الولايات المتحدة، ولا الشرق الأوسط كله، يمكن أن يعود إلى ما كان عليه قبل 12 يوليو عندما بدأت الحرب! إن حجارة الدومينو إذن بدأت تتساقط... والمفاجأة أنها تتسقاط إلى الخلف . * مفكر قومي اسلامي لبناني
|
فكر
حرب الحسابات الخاطئة
أخبار متعلقة