عكس في أعماله عصراً بكامله
صباح علي الشاهر إذا كان هاجس دوستيوفسكي الملح هو البحث عن الحقيقة، علماً أن هذا البحث لم يكن ترفاً عقلياً، وإنما حاجة إنسانية ملحة، فإنه بهذا يشترك مع تولستوي. إنهما يبحثان عن الحقيقة الإنسانية داخل الإنسان بالدرجة الأساسية، ويسعيان جاهدين لإعلانها على الملأ. ولقد حاول العديد من الباحثين بناءً على هذا التشابه الأساسي المقارنة بين إبداعيهما، وذهب البعض لعقد مقارنة بين حياتيهما، قصد التوصل بشيء من الدقة، لاختلافهما واتفاقهما. من ذلك المقارنة التي عقدها الدكتور سامي الدروبي، حيث بين أن حياة دوستيوفسكي انقضت في محن فظيعة، أما حياة تولستوي فقد انقضت هادئة رضية في الظاهر. كان دوستيوفسكي يعمل كالمحموم، في حين كان تولستوي يعمل على مهله. دوستيوفسكي إنسان مريض، سريع التأثر، عنيف الانفعال إلى أقصى حد، وتولستوي يفيض صحة وقوة. تسيطر على دوستيوفسكي اهتزازات نفسية مضطربة، واندفاعات لا علّة لها ولا ضابط، ويسيطر على تولستوي المنطق والثبات. دوستيوفسكي صوفي رغم شكوكه، وتولستوي يفكر تفكيراً إستدلالياً رغم أزماته الدينية. يريد دوستيوفسكي أن يكون محافظاً، ويريد تولستوي أن يكون مهدماً. من هذه المقارنة الأولية سندخل عالم تولستوي الإبداعي، وسيكون مدخلنا قول تولستوي المشهور: (إن بطلي الذي أحبه بكل قوى روحي، وأسعى لتجسيده بكل روعته وجماله، والذي كان وسيبقى رائعاً هو الحقيقة). إن الحقيقة التولستوية حقيقة كلية، كما يجدر بها أن تكون، لا تستهدف ما يجري في الواقع على السطح، وإنما تستهدف إدراك محتوى الحياة وعكس هذا المحتوى فنياً، إن هذا المحتوى الذي يبحث عنه تولستوي ليس هو العمليات الجارية في العالم المحيط بنا، ولا ظروف الحياة اليومية، ولا العلاقات الاجتماعية والسياسية فقط، وإنما هو بالإضافة لكل هذا الروح الإنسانيّة بكل غناها وعمقها وجدليتها، لذا فقد سعى بكل جهده لكشف الحياة الداخلية للإنسان، “كتب في مذكراته عام 1896 ما يلي: الغرض الرئيسي للفن هو قول الحقيقة حول النفس الإنسانية، الإفصاح عن تلك الأسرار التي يستحيل التعبير عنها بالكلمة البسيطة، هذا هو الفن، الفن ميكروسكوب يسلّطه الفنان إلى أعماق نفسه لينقل لنا تلك الأسرار والمكونات العامة والخاصة لكل الناس). ولقد شخص تشرينيشفسكي في وقت مبكر طبيعة التحليل النفسي لدى تولستوي، وبين خصائص وطبيعة هذا التحليل، الذي أصبح سمة خاصة بعالم تولستوي القصصي، وأطلق عليه اصطلاح (ديالكتيك الروح).إن الشخصية التولستوية بالإضافة لغناها وعمقها، فإنها غير مسطحة ولا أحادية، ولا مستقرّة، بل إن الذات في صراع دائم مع الذات، وهي في نمو بلا انقطاع. وسنرى أن النسيج الملحمي لدى تولستوي يصطبغ بالتحليل النفسي، حيث يمتزج العنصر الملحمي بالتحليل النفسي العميق للنفس البشرية، ويتجلّى تداخل العنصرين الملحمي والسيكولوجي إبان كشف عالم البطل الداخلي على أرضية الأحداث المختلفة التي تمر في حياته اليومية، مما يوسم تحليله بميسم الصدق ويبعده عن التجريد، يشير تشيشترين في كتابه (ظهور الرواية الملحمية) إلى أن مجال الرواية الملحمية هو قبل كل شيء مجال داخلي لا خارجي، وهو مجال فهم الإنسان من خلال خلق صورته النمطية”. لقد كان ظهور (الحرب والسلم) حدثاً بالغ الأهمية في الحياة الأدبية الروسية، إذ كانت بنسيجها الملحمي الفريد قمة من قمم الواقعية، وفيها تجسيد للرؤية الكلية التولستوية، فهي تمثل في آن واحد كبريات الحوادث التاريخية التي وقعت لنابليون ولإسكندر وكوتوزون والحياة اليومية لأسرتين، أسرة روستوف، وولكوفسكي. ومن خلالها يتعزز منهج تولستوي الذي لم يعد تحليل المعاناة الداخلية لديه مقتصراً على بطل الرواية بل يشمل بدائرته الواسعة مختلف الشخصيات الأخرى، وإذ يعكس تولستوي أرض المعارك والحرب فإنما يعكس سيكولوجية الحرب والقتال، و(الحرب والسلم) ملحمة وحدة الناس وتماسكهم وإثبات حضورهم. لم يكن تولستوي يعني بالوصف لمجرد الوصف، فرغم قدراته الخارقة في هذا الفن، الذي قلما يجاريه فيه كاتب، إلا أن الوصف عند تولستوي لايمكن عزله أو فصله عن النسيج الملحمي العام الذي يتضمنه العمل الإبداعي المنجز برمته. إن الوصف والتفاصيل الدقيقة الصغيرة والمجهرية أحياناً موظفة بشكل خلاق لهدف إبداعي بحت يستدعيه ويستوجبه الفن التولستوي، وإن بدا مفرطاً فيه. ولعل القارئ غير المتأمل يتساءل عن مغزى إطناب تولستوي في إيراد التفاصيل الدقيقة وإطالة الوصف في سفر الفلاح وهو يمتطي عربته إلى سمرلنسك، أو في عناية نابليون في تزيين نفسه، وهو الرجل الذي يقود هذه الجحافل الجرارة، ولعل في وصف سباق الخيل الذي سبق أن أشرنا إليه وعللناه ما يشير بوضوح إلى ظاهرة الوصف الموظف في نسيج العمل الملحمي عند تولستوي. إن الشخصيتين الرئيستين الأمير أندريه وبطرس مرسومان بقدر من الإتقان والإقناع لدرجة يبدوان فيها وكأن تولستوي ليس هو مبدعهما، رغم ما قيل على لسان النقاد من كون تولستوي أضاف الشيء الكثير من شخصيته عليهما، ومثلما كان تولستوي باحثاً عن الحقيقة فهما باحثان عنها، ولكن باتجاهين مختلفين ومتعارضين، أندريه يبحث عن الحقيقة من خلال العمل، وبطرس يبحث عنها من خلال التأمل. الأول يجد السعادة أخيراً في الحياة العائلية، أما ناتاشا فهي تسير تلقاء نفسها نحو الحقيقة، إنها كبطلة بوشكين (تاتيانا) على مقربة جداً من الشعب، من الحياة. لم يجمع الكتاب والنقاد على عظمة عمل أدبي كإجماعهم على عظمة (الحرب والسلم) الذي عدّ نشيد الحياة، الذي فيه تتجلى روسيا، إنه كما قيل (إلياذة) و(أوديسا) روسيا. أما رواية (آنا كارنينا) فهي النقيض للحرب والسلم، إذ أن مناخها تسوده الأحقاد والاحتراب والمؤامرات الدنيئة التافهة. إنه نقل انتقادي لحياة الأرستقراطية الروسية، وكشف عميق لسفالتها وانحطاطها وخوائها الروحي. يرى ف. رميلوف أن رواية (آنا كارنينا) تصور ابتعاد الإنسان عن المجتمع والعالم وغربته عنهما. الفكرة الرئيسية التي يواجهها القارئ منذ مستهل الرواية هي انقطاع الروابط بين الناس وتمزقها، وهذا ما يكوّن مناخ الواقع المصوّر برمته ويوضح مباشرة النغمة العامة للرواية. لقد حاول تولستوي في (آنا كارنينا) تصوير حياة العصر الحاضر، ضمن إطار ضيق، هو حياة البيئة الأرستقراطية التي هي بيئته، وهنا أيضاً يخلع تولستوي شخصيته على شخصية ليفين. إن ليفين يعيش حياة عائلية، ويقوم بعمل مفيد، والعمل هو الذي كان تولستوي قد اقترحه على إنه غاية الحياة، ومع ذلك فإن ليفين يتألم، ويعاني من القلق والغم، هذا القلق والغم اللذان كادا يدفعانه إلى الانتحار، لولا أن أحد الفلاحين قد مدَّه بالجواب على ذلك السؤال، وهو: لماذا أعيش؟ بدعوته إلى (الإيمان بالله). ومن المعروف أن تولستوي قد مر بهذه الأزمة، كما ذكر في اعترافاته التي كتبها عام 1879 ونشرت عام 1882، إذن فأزمة ليفين إنما هي أزمة تولستوي نفسه، ولكن لايمكن الزعم، وبأية حال من الأحوال أن ليفين هو تولستوي، مثلما لا يمكن القطع بأن تولستوي لم يضفِ من شخصيته شيئاً على ليفين هذا. يمكن القول أن ليفين (آنا كارنينا) شخصية مبتدعة، شخصية فنية بامتياز، ولكن يمكن القول إن تولستوي ذاته كان الثيمة الأساسية في رسم هذه الشخصية. لم يكن تولستوي رجل أدب فقط بل كان رجل فكر أيضاً، وقد أشار بليخانوف لدى دراسته لآثار تولستوي إلى التناقضات الداخلية في نتاجات الكاتب، وفصل بين تولستوي المفكر وتولستوي الفنان، وأكد أن تولستوي فناناً عبقرياً لكنه مفكر ضعيف للغاية، وسنجد هذا التناقض أيضاً في رواية (البعث) حيث قدم تولستوي لوحة دراماتيكية صادقة للحياة الروسية مازجاً في فنه (ديالكتيك النفس) بالتحليل الاجتماعي النقدي العميق للمجتمع الروسي في مرحلة ما قبل الثورة، لكن هذا الكاتب (الواقعي الواعي جداً) ينحرف مع ذلك عن مبدأ موضوعية التصوير لصالح الفكر الرجعي الطوباوي، بنتيجة ذلك تفقد صورة البطل نيخلودوف الرائعة ملامحها الواقعية في نهاية الرواية، إلا أننا من أجل الأمانة التاريخية الموضوعية ملزمين بالقول إن تولستوي كان يمثل جوانب القوة والضعف التي تجسدت فعلياً آنذاك في الحركة الروسية الثورية وفي الحياة الروسية نفسها، وهو ممثل صادق وأمين لتلك المرحلة. لقد قيم لينين عالياً تولستوي وسماه (مرآة الثورة الروسية) و(كاتب الأرض الروسية العظيم)، دون أن يغفل التناقضات الكبيرة التي ينطوي عليها أدبه، وأشار إلى أن تولستوي عكس في أعماله عصراً كبيراً بكامله من التطور التاريخي للشعب الروسي.