قراءة في صفحة من صفحات التراث الشعبي اليمني
محمد زكريا:تبوأت الشحر الضاربة جذورها في أعماق الزمان مكانة كبيرة ومهمة في عقل وقلب التاريخ اليمني . وتسابق الشعراء والأدباء في مدحها ووصفها بأجمل العبارات وأعذبها . كانت ولاتزال لؤلؤة ثمينة في جيد تاريخ حضرموت بصفة خاصة واليمن بصفة عامة. ولقد أجمعت كتب التاريخ أن الشحر كانت في القرن العاشر الهجري ( القرن السادس عشر الميلادي ) موئلا ومركزا للعلماء والفقهاء. ومن تحت معطفها تخرج الكثير والكثير من طلاب العلوم والمعارف المختلفة وصاروا كواكباً دُرية في سماء الفكر اليمني . وكلما أوغلنا في أعماق تراثها وتاريخها الطويل ، كلما ازداد بهاؤها وعظمتها ومجدها التليد الرائع .[c1]الشحر والبرتغاليون[/c]وتروي الروايات التاريخية أنّ الشحر إلى جانب كعبها العالي في الحياة الثقافية والفكرية . كانت ــ أيضا ــ تحتل مكانة خطيرة على مسرح اليمن السياسي . فالأحداث السياسية المهمة التي وقعت على الساحة اليمنية في القرن ( 16م ) تدل بوضوح على مدى صلابتها وعزيمتها وإرادتها التي لا تلين أمام الخطوب والأزمات السياسية التي أنشبت مخالبها القاسية على اليمن وعلى وجه التحديد على سواحلها من قبل الغزاة البرتغاليين الذين نزلوا بغطرسة وقوة في البحر العربي والهندي بهدف إغلاق منافذ البحر الأحمر الجنوبي للقضاء على الدولة المملوكية المصرية . فعملت على حصار سواحل اليمن بغية القضاء على اقتصادها ومن ثم ترجعيها سياسيًا وإزاء ذلك استعملوا الشدة والعنف الكبيرين مع السفن التي تحاول الوصول إلى سواحل اليمن و موانئ السواحل العربية الجنوبية كجدة ومسقط وغيرهما ، وكانت تهدف البرتغال من وراء ذلك السيطرة الكاملة على منابع ومصادر التجارة الشرقية ( تجارة البهارات ) في الهند، وجزر الشرق الأقصى . وتذكر المصادر أنّ الشحر تعرضت إلى هجوم البرتغاليين مرتين الأولى في عام 929هـ / 1523م , والأخرى عام 942هـ / 1536م ، استعمل فيها الأسطول البرتغالي المدافع الثقيلة والأسلحة النارية الفتاكة في تلك الحملتين لدك حصونها وقلاعها بل أن الفرنجة البرتغاليين لم يكتفوا بذلك فنزلت قواتهم على ساحل الشحر في الحملة الأولى ، ونهبوا وسلبوا وقتلوا ، وأحرقوا الأخضر واليابس . ولكن أهل الشحر لم يقفوا مكتوفي الأيدي . فقاوموا الإفرنج البرتغاليين الذين أذهلتهم مقاومتهم الشرسة. وتشير المراجع التراثية إلى أنّ البرتغاليين ظنوا في بداية الأمر أنّ السيطرة على الشحر ستكون نزهة لهم ولكنهم وجدوا مقاومة أهلها العنيفة والصلبة ودليل ذلك أنهم تركوا وراءهم أثناء انسحابهم من المدينة عددا من قتلاهم ووقع عدد من أسراهم في أيدي المقاومين من أهل الشحر بالإضافة إلى استيلائهم على عددٍ غير قليل من سفن البرتغاليين . [c1]الملاحــــم البطوليـــة[/c] وسطرت الملاحم الشعبية الأحداث التاريخية التي أظهرت بطولات أهل الشحر في التصدي للغزاة . ويصور العلامة الشاطري أحداث تلك الحملتين البرتغاليتين على الشحر , قائلا : “ وقد دحر البرتغال في عدة مواقع من حضرموت أهمها موقعة 5 رمضان سنة 942هـ ( 1523م ) إذ هجموا على الشحر وهو بها ( أي السلطان بدر أبو طويرق ) ونزلوا إلى البر ودارت معركتان برية وبحرية وفي كلتيهما انتصر السلطان وأسر منهم نحوا ً من سبعين رجلا ً واستولى على سفنهم وعددها أربع عشرة سفينة أو أكثر , وأرسل بعض الأسرى إلى الدولة العلية الإسلامية (الخلافة العثمانية )...”. ويمضي الشاطري في وصف أحداث الحملة الأولى , فيقول: “ ومن المعارك الشهيرة قبلها بين البرتغاليين والحضارمة في عهد أبي طويرق موقعة فجر الجمعة 9 ــ 4 سنة 929هـ ( 1529م ) . فقد أرست 14 سفينة برتغالية في ميناء الشحر ونزل منها الجيش البرتغالي وعاث في الشحر فسادا بالنهب والسلب والحرب ، وقد قاتلهم السكان واستشهد منهم الشيخ العلامة أحمد الشهيد بافضل وكثيرون من أعيان وجمهور الشحر وبعد يومين اقلعوا إلى سواحل الهند “. وهذا الوصف ـــ كما قلنا سابقا ً ـــ يدل على مدى مقاومة أبناء الشحر للغزاة البرتغاليين التي كانت لهم إمبراطورية بحرية واسعة ـــ حينئذ ـــ امتدت من سواحل الخليج العربي ، والبحر العربي ، والمحيط الهندي . فقد وقفت لهم الشحر وقفة رجل واحد كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ً ، وتمكنت بفضل إرادتها وقوتها وشجاعتها أنّ تدحر البرتغاليين بصورة تدعو إلى الإعجاب الكبير ـــ على حد تعبير المؤرخين والقدامى والمحدثين ــــ .[c1]الشحر والعثمانيون[/c]والحقيقة أن الشحر أدركت تمام الإدراك واقع الأمور التي تغيرت على مسرح اليمن السياسي بصفة خاصة والوطن العربي والإسلامي بصفة عامة وهي بزوغ نجم الدولة العلية العثمانية في سمائها وأدرك سلطانها بدر أبو طويرق ـــ بخبرته الواسعة في ميدان السياسة ـــ أن العثمانيين هم القوة الوحيدة القادرة على التصدي للبرتغاليين والعمل على تأمين السواحل اليمنية ومن بينها الشحر وهذا ما دفع ببدر الطويرق المتوفى ( 977هـ / 1596م ) أن يسارع إلى تقديم الطاعة والولاء والخضوع للدولة العثمانية . و يروي لنا الدكتور سيد مصطفى سالم صورة الاحتفال والاحتفاء الكبير بالوفد العثماني عند وصوله إلى الشحر في 18 ربيع أول سنة 944 هـ الموافق 25 أغسطس 1537م كدليل على دخول الشحر تحت لواء الخلافة العثمانية ـــــ التي اتجهت شرقا ً أي إلى الوطن العربي ابتداءًا من سنة ( 923هـ / 1517م ) بعد القضاء على دولة المماليك المصرية في عصر السلطان سليم الأول ( 1512 ـــ 1520م ) ــــ ، فيقول : “ ... فأمر ( أي السلطان بدر الطويرق ) بعقد اجتماع كبير في المسجد الجامع (( بالشحر ))، وأمر أحد الفقهاء بقراءة رسالتي سليمان باشا ـــ قائد الحملة العثمانية إلى الهند ـــ في هذا المسجد بينما وقف هو وجميع من معه تعبيرا عن احترامهم للأوامر الواردة إليهم، ثم ألبس الحاضرون السلطان بدر خلعتي سليمان باشا أثناء قراءة المرسومين . وبالإضافة إلى ذلك فقد أمر السلطان بدر بأن يخطب في المساجد باسم سليمان القانوني، كما أغرق الرسول بالهدايا، وأرسل معه الهدايا الثمينة إلى سليمان باشا الخادم “. ويضيف قائلا : “ وقد ظل سلاطين (( الشحر )) يعترفون بالسيطرة العثمانية عليهم طوال وجود العثمانيين في اليمن “. [c1] اسمها ؟[/c]والحقيقة أنه على الرغم من شهرة الشحر في تاريخ اليمن ، فإن المعاجم أو المراجع التراثيـة لا تسعفنا بمعلومات واضحة ودقيقة تحدد معنى اسمها . ونرى أنّ الروايات التاريخية ـــ تضطرب اضطرابا شديدا في تعريف اسمها .. وهذا العلامة المؤرخ القاضي محمد بن أحمد الحجري في مؤلفه (( مجموع بلدان اليمن وقبائلها )) ينقل عن معجم البلدان لياقوت الحموي عن معنى الشحر بحذافيرها دون الوقوف عند تعريفها أو بعبارة أخرى يتلقى هذا التعريف كما هو دون أن يقف عليه هل هو صحيح أم غير صحيح ؟ . فهو يقول نقلا عن ياقوت الحموي : “ الشحرة الشط الضيق وهو صقع على ساحل بحر الهند في ناحية اليمن ـــ والكلام مازال للعلامة القاضي الحجري ـــ : “ قال الأصمعي هو بين عدن وعمان قد نسب إليه بعض الرواة وإليه ينسب العنبر الشحري لأنه يوجد في سواحله ، وهناك عدة مدن يتناولها هذا الأسم ، قال : وينسب إلى الشحر جماعة منهم ابن خوي بن معاذ الشحري اليماني “ . وينقل ــ كذلك ــ عن المؤرخ بامخرمة المتوفى سنة ( 947هـ / 1540م ) بأن الشحر سميت بسبب أن سكانها كانوا جيلا من المهرة يسمون الشحراء . وقيل سميت بالشحر لكثرة الأشجار والنخيل والآبار . كل تلك التعريفات تدل بوضح على مدى الاضطراب والتخبط اللذين يعرفان معنى اسم الشحر . وكيفما كان الأمر ، أن العديد من المدن اليمنية الساحلية التي طبقت شهرتها الآفاق في التاريخ مازالت تعريف أسماءها كمدينة عدن يشوبها الكثير من الغموض وإن لم يخلوا من الغرابة والطرافة معًا . [c1]متى ظهرت ؟ [/c]أثار المؤرخ صالح الحامد في مؤلفه الذي يحمل عنوان (( تاريخ حضرموت)) سؤالاً مهمًا وهو من أسس مدينة الشحر وأظهرها على سطح الحياة ؟ . وقد بذل صالح الحامد مجهودًا كبيرًا في ذلك الموضوع من خلال تقصيه للمصادر التراثية المتنوعة ولكن نلاحظ أنه لم يصل إلى شاطئ الإجابة الحقيقية بسبب أن تلك المصادر لم تتكلم عن من أسس الشحر بمعطيات واضحة وموضوعية أو قل إذا شئت احتواها الكثير من الضبابية وعدم الرؤية التاريخية العميقة لها . فهو يقول إن الشحر مدينة موغلة في القدم . وأنه في نفس تلك المدينة القديمة بنا الملك المظفر الرسولي المتوفي عام ( 694هـ / 1295م ) ـــ مؤسس الدولة الرسولية ــــ مدينة أخرى . والأجدى والأجدر به أنّ يقول إن السلطان الملك المظفر قد قام بتوسعة المدينة القديمة أي أنّ عمرانها اتسعت عمّا سبقت عليه فمن المحتمل أنّ مدينة الشحر القديمة ، قد طمست ملامحها أو اضمحلت بسبب توسع العمران فيها ـــ كما قلنا سابقا ً ـــ . وهذا في رأينا الأقرب إلى الحقيقة . وأمّا المدينة الجديدة الذي بناها المظفر الرسولي من المحتل أنّ تكون مدينة أخرى . وهذا ما أكده صالح الحامد بقوله : “ وهي بلا ريب مدينة جديدة لا ذكر لها في المدن القديمة “ .[c1]الشحر والدولة الرسولية[/c] ويذكر صالح الحامد أن حضرموت وخصوصا الشحر في عهد الدولة الرسولية التي بلغت من العمر عتيا في تاريخ اليمن أكثر من مائتي عام ( 626 ـــ 855هـ / 1228 ـــ 1454م ) لم تظفر بعنايتها أو بعبارة أخرى لم تلقِ أية اهتمام من سلاطين وملوك بني رسول . وفي هذا الصدد ، يقول : “ ومما ينبغي ملاحظته أيضا أن استيلاء بني رسول على حضرموت لم يفده أية فائدة ... وبالرغم من عظمة دولة بني رسول وطول عهدها فقد تقلص ظل المملكة ( هكذا ) الرسولية عن حضرموت ، غير مسفر عن أي أثر ، إذ لم يترك الرسوليون وراءهم بها معهدا ولا معبدا ولا مدرسة أو أي شيء يذكر مما يحفظ لهم جميل الذكر وحسن الأحدوثة. وقد دامت سلطتهم عليها ولا سيما الشحر أكثر من مائة وخمسين عاما “. ويفهم من ذلك أن الشحر انسلخت عن الدولة الرسولية قبل غروب شمسها بأكثر من سبعين عاما ً .[c1]الشِحر وتراثها الشعبي[/c]والحقيقة أن البعض من الباحثين الحاليين عندما يدرس تاريخ مدينة ساحلية يمنية يدرسها من وجهة نظرية تاريخية بحتة حيث يبرز جوانب أحداثها ووقائعها السياسية فحسب ولا يبتعد أكثر من ذلك. وكان حريا به أن يلقي الأضواء على الظواهر الاجتماعية المتمثلة بالعادات والتقاليد والأعراف أو بمعنى أوسع الغوص في أعماق المجتمع وهو ما يعرف بالتاريخ الاجتماعي والذي صار شيئا مهمًا في كتابة التاريخ بصورة دقيقة وعميقة . وكان المؤرخون القدامى ـــ في الأزمنة الماضية ــــ يدونون تاريخ الملوك والحكام ، والأمراء، والقادة بصورة مفصلة ولا يلتفتون إلى الناس وحياتهم اليومية . ولهذا سبب كان الناس البسطاء يغرمون بالسير والحكايات الشعبية وهي الموروث الشعبي التي تصور وتجسد آلامهم وأمانيهم وطموحاتهم ووقائع حياتهم اليومية خير تصوير. و هذا أكده الدكتور قاسم عبده ، فيقول : “ والموروث الشعبي يتسم بالتلقائية والبساطة من ناحية . كما أنه يدور حول أمور تتعلق بثقافة المجتمع ، وتقاليده وعاداته وأخلاقه من ناحية أخرى . كما أن هذا الموروث الشعبي عادة ما يحمل (( نواة تاريخية)) ؛ إذ أنه يحمل تفسيرات لأحداث (( تاريخية )) ويحكي عن أبطال تاريخيين ويتم ذلك كله بأسلوب مثقل بالخيال والرموز الشعبية التي تخدم الأغراض والغايات الاجتماعية “ . ويمضي في حديثه: “ ومن ثم فإننا يمكن أن نصف الموروث الشعبي بأنه نوع من (( القراءة الشعبية للتاريخ )) ... وإذا كان التاريخ قد اعتبر زمنا طويلا بمثابة المرادف لسير الحكام والقادة وأنباء السياسة والحرب ، فإن التطورات التي أدت إلى الاعتراف بحق الشعوب في إدارة شئونها قد أدت إلى الاهتمام بالجوانب المختلفة من نشاط الشعوب وكان للتاريخ نصيبه من هذا الاهتمام “. وبناءً على ما تقدم فإنه على الباحثين الحاليين والمؤرخين المحدثين أنّ يعتنوا بتاريخ الشحر الاجتماعي من خلال الموروث الشعبي المتمثل ــ كما مر بنا سابقا ــ بالسير والحكايات الشعبية وغيرها المرتبطة بحياة الناس . والحقيقة أن صورة تاريخ الشحر لن تكتمل أو تأخذ شكلها الحقيقي والأصيل إلا من خلال دراسة متعمقة لتراثها الشعبي الضارب في جذور تربة الزمان . [c1]الجغرافية وطبائع الناس[/c] وفي الواقع أن الجغرافية أو الطبيعة أو البيئة تلقي بظلالها على حياة الناس ، فتأثر تأثيرا عميقا ً على طبائعهم ، وعاداتهم ، وتقاليدهم أي على موررثهم أو تراثهم الشعبي . وعندما ندرس تاريخ الشحر يجب أن ندرس الجانب الجغرافي و البيئة وأثرهما على حياة أهلها أي أنه لا انفصام بين التاريخ والجغرافية . وبمعنى أوسع أن العامل الجغرافي له بصمة واضحة وعميقة في سلوكيات و طبائع السكان والمجتمع . وهو ما أكده الدكتور سيد سالم مصطفى بأن الاختلافات الطبيعية لها أثرها الواضح في تشكيل سلوكيات السكان وحياتهم ، فالمجتمع الذي يعيش في المناطق الجبلية تتسم صفاته “ بالنحافة وكثرة الحركة ، وشدة الحيوية ، كما يتصف بالذكاء والحذر من الغرباء والشك فيهم ، وذلك على عكس السهلي الذي يميل إلى البدانة والاسترخاء والركون إلى الراحة والسلام ، كما يشتهر بلين العريكة “. والمجتمع الذي يسكن على البحر فإنه تتسم صفاته بأنه يعشق المغامرة ومن ناحية أخرى قدرته الواسعة على استيعاب التيارات الثقافية والعقلية المختلفة القادمة من بعيد أو من الخارج ونقصد بها الموروث الشعبي الآخر القادم من وراء البحار الذي امتزج بتراثه الأصيل. [c1]البحر والأغاني الشعبية[/c]وتترامى إلى إسماعنا أغاني شعبية غاية في الجمال والعذوبة تهز مشاعرنا ، وتدغدغ أحاسيسنا وذلك عندما يعود البحار أو البحارة إلى أهليهم ، وذويهم ، وأحبابهم من جوف البحر العميق إلى شاطئ السلامة بعد غياب طويل . فتغني النساء ـــ على لسان الشاعر الشعبي المجهول ـــ اللواتي ينتظرن رجالهن على الشاطئ ، وفي عيونهن يطل القلق ، ويخفق القلب من الخوف . وعندما تظهر في الأفق المراكب الشراعية التي على متنها البحارة شيئا ً فشيئا ً ، فيزغردن ويغنين . وقد رفرفت الابتسامة على وجوههن ، فينشدن: (( يا قريب الفرج يا قريـــــبيا الله مع الصابرين يا قريب ))وفي موضع آخر ينشدن مرحبات بأزواجهن، وآبائهن، وأقاربهن: (( حيا ومرحبا بالهادف ومن هو حضررجال مثل النمارة ما تهاب الخطـــــــر)) .[c1]جسر الأمل[/c] والحقيقة لقد ــ مر بنا سابقا ـــ أن أغاني البحارة تمثل جسر الأمل الذي يربط بينهم وهم في عرض البحر وبين ذويهم وأحبابهم الذين يعيشون في البر الآخر . فالبحارة يبددون خوفهم وقلقهم من عذابات الرحلة ، وأهوال البحر وأمواجه الهائلة من خلال الأهازيج التي ينشدونها على متن المراكب الشراعية . وينقل الأديب حسين سالم باصديق عن المستشرق الإنجليزي روبرت سارجنت في كتابه (( شعر ونثر من حضرموت )) عن أهمية الغناء لدى البحارة ، قائلا : “ إن لكل مركب شراعي ضاربا على الطبل أثناء مختلف الأعمال في البحر ، وهو رجل من الأهمية بمكان بحيث يأتي في الترتيب الثالث بين أصحابه الملاحين بعد القبطان ونائبه “. وهذا إنّ دل على شيء فإنه يدل على مدى أهمية الأغنية لدى البحارة على متن السفن . [c1]أغنية العمل[/c]ويذكر الكاتب والقاص حسين سالم باصديق عن الأغاني التي ينشدها البحارة في المناسبات المختلفة ، فيقسمها إلى ثلاثة أنواع ، فيقول : “ إن أغاني البحارة هي ذات أنواع ثلاثة وكل نوع مختلف عن الآخر من حيث النغم والمضمون ومن حيث الهدف أيضا، فالنوع الأول هو أغاني العمل أي الاستعداد بشباك الاصطياد ولوازمه أو الاستعداد بلوازم (( سواعي )) ــ زوارق صغيرة ــ لنقل البضائع والتوغل بها إلى أعماق البحر”. ويواصل باصديق حديثه ، : “ وهذا النوع يهدف إلى شد نشاط البحار نحو عمله في رتق الشباك وإصلاحها , وأعدادها وتكون الأغنية ( فردانية ) إذا كان يعمل في البحر وحده . وقد تكون جماعية عندما يكون عددهم كبيرا، ويشتركون معا في إعداد شباك كبيرة ولوازمها “. : “ ومضمون هذا النوع من الأغاني هو نفس مضمون أغاني العمل الشعبية... فقد تكون عن السمك أو الإنتاج العام في البحر أو عن حياة البحر أو عن حياة البحارة أنفسهم أو أفراحهم أو أحزانهم وآلامهم. وفي ذلك يشكو للبحر همه وينفث ما في جوفه ويداه تتحركان في العمل “. أغنية الحنين ويصف الكاتب والقاص حسين باصديق النوع الثاني من أغنية البحارة، بأنه يردد أغاني البحر على ظهر المركب الشراعي في جوف البحر ، وأمواجه العاتية كالجبال الراسيات تقذف به يمنة ويسرة أشبه بريشة في مهب الريح وفي تلك الظروف الصعبة تلمح فيها أي الأغنية الحنين الجارف , والعواطف الملتهبة واللوعة على فراق الأحباب ، فتنبعث أنيناً وأسى من صوت المغني . “ جيتك من أرض اليمن “وأما النوع الأخير من أغاني البحارة والصيادين فمصبوغة بألوان الطيف الزاهية الألوان ونقصدها بها أغاني الأعراس , والمناسبات السعيدة الأخر مثل حصولهم على رزق وفير من الأسماك . ويرددها البحارة تلك الأغاني البهيجة عندما يستدل الليل أستاره ، وترصع النجوم قبة السماء ، ويغمر نور القمر الفضي وجه مياه البحر الزرقاء ، فيتجمع الصيادون وينشدون بصوت وإيقاع واحد متناغم ، فيقولون : “ الشوحطة قد قال عبد الله لها بحر ثانيما تحتجي في المغن صوتك يماني ، وانته ياذا المخمس يمانيجيتك من أرض اليمن “ومن الأغاني التي توضح عشق البحار الولهان المغرم , والمتيم بمعشوقته الجميلة فيبث همه وعواطفه الحارة إلى نجمة الصبح الساكنة في قبة السماء لتبلغ محبوبته كيف ينكوي ويتألم لعذاب فراقها , فيقول الشاعر على لسانه : “ يا نجمة الصبح طلي وارجعي وروحيوسلمي لي على من عندهم روحيبحق من أنزل القرآن في اللوحعندي دوا الناس ما عندي دوا روحي “ .ومثلما يتسامر البحارة في شاطئ البحر عندما يسدل الليل ستاره الداكن , ويغزل نور القمر خيوطه الفضية صفحة مياه البحر ، فإن البحارة في هذا الوقت يتسامرون على متن المركب الشراعي . وتصدح كلمات أغانيهم بالغزل العفيف نحو الحبيبة والتي شبهوها بالغزال , فتقول : “ يا مهري المشدود ومن خيالك [c1] *** [/c] يرعاك زهر المقطوفدائم على حالكحيا زمن يومنا حبك تشعلك [c1] *** [/c] واليوم شوفي مكلوفباهب لي من قبالك “[c1]مشاعـــر مشتركة [/c]وفي الحقيقة أنه من الصعوبة بمكان أن نفرق بين أغاني البحارة والصيادين سواء في الشحر أوعدن ، أوالمكلا ،أوالحديدة أوالمخا أو غيرها من سواحل اليمن ، فالمشاعر والأحاسيس مشتركة وواحدة بينهم تعبر عما يجيش في صدور هؤلاء البحارة الذي يمخرون عباب البحر وراء الرزق الأهوال تحيط بهم من كل مكان . والحقيقة أن أغاني البحارة ما هي في حقيقة أمرها إلا موروث شعبي قديم يصف حالة البحارة القدامى مع البحر, فيرددها جيل بعد جيل من البحارة سواء في الشحر أو غيرها من المدن الساحلية الأخرى. [c1]الشحـــــر والأسطــــورة[/c]وكيف كان الأمر ، فإنّ الكثير والكثير جدًا من المعلومات يشوبها الغموض والاضطراب الشديد في نصوص تاريخ الشحر الموغل في القدم وخصوصًا فيما يختص حول تسميتها ، وكيف ظهرت على وجه الحياة ؟ . وهذا كتاب ( معجم بلدان حضرموت ) للعلامة المؤرخ السيد عبدالرحمن عبيد الله السقاف ) ويعد من المؤلفات المتخصصة في جغرافية حضرموت لا يعطينا صورة واضحة عن تاريخ الشحر ، بل أنّ نصوصه عن الشحر مضطربة ، ومهزوزة . وهذا دليل بأنّ المراجع التاريخية لا تسعفنا بمدنا بمعلومات واضحة الملامح بينة المعالم عن تراثها و تاريخها . فعلينا أن نتوجه صوب الأسطورة لعلها لتمدنا بمعلومات قيمة عن تاريخها الغابر. فإن تلك الأسطورة أو الأساطير قد تقودنا إلى حقيقة تاريخية وجديدة لكونها تسد الفراغ الذي لم يكتب في النص المكتوب . وكان الأعم والأغلب من الناس يظنون أن الأسطورة وخصوصا الباحثين الناشئين أنها محض خيال أو خرافة لا تمت للحقيقة بصلة . وفي واقع إن التاريخ ولد من بطن الأسطورة وتربى في حجرها أو بعبارة أخرى التاريخ نشأ من ضلع الأسطورة ــ على حسب تعبير الدكتور قاسم عبده في كتابه (( بين التاريخ والفلكلور )) . [c1] الهوامـــــش : [/c]العلامة : محمد بن أحمد الشاطري ؛ أدوار التاريخ الحضرمي ، الجزء الأول ، الطبعة الثالثة 1415 هـ / 1994 م ، دار المهاجر للنشر والتوزيع . توزيع مكتبة تريم الحديثة .صالح الحامد ؛ تاريخ حضرموت ، الجزء الثاني ، الطبعة الثانية 1423 هـ/ 2003 م ، مكتبة الإرشاد ــ صنعاء ـــ الجمهورية اليمنية ـــ توزيع مكتبة تريم الحديثة ـــ حضرموت. القاضي : محمد بن محمد الحجري ؛ بلدان اليمن وقبائلها ، تحقيق وتصحيح ومراجعة : القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ، الجزء الثالث، الطبعة الأولى 1404 هـ / 1984 م ، منشورات وزارة الإعلام والثقافة ـــ صنعاء ـــ . الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن 1538 ـــ 1635 م ، سنة الطباعة 1969 م ، معهد البحوث والدراسات العربية ـــ جامعة الدول العربية . الدكتور قاسم عبده قاسم ؛ بين التاريخ والفولكلور ، الطبعة الثانية 2001م ، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ــ ج . م . ع .حسين سالم باصديق ؛ في التراث الشعبي اليمني ، الطبعة الأولى 1414هـ /1993م ، مركز الدراسات والبحوث اليمني (صنعاء) . عبد الله بن عبيد الله السقاف : تحقيق : إبراهيم أحمد المقحفي ؛ معجم بلدان حضرموت ، الطبعة الأولى 1433هـ / 2002م ، مكتبة الإرشاد ـــ الجمهورية اليمنية ــــ (صنعاء) .