لا يكاد يمر أحدنا في شوارع بيروت حتى يلاحظ انتشار المقاهي على جانبي الطريق. تتعدد أسماء المقاهي ويتنوع الرواد، سواء من حيث الشكل أو المضمون، فيشعر المرء وكأنها صورة مصغرة من مدينة متعددة الوجوه والثقافات، وهو ما يترجم بالتنوع الواضح للجنسيات والمذاهب والمشارب في تلك المقاهي، فكأنها تحفز عندك حاسة الاستكشاف، كي تندفع وترى ماذا تخبئ هذه الأماكن من أسرار، وما يضمره روادها من مكنونات.[c1] الاضطرابات السياسية [/c]تصبح المقاهي هي مكان التقاء الناس من مختلف المشارب واللافت في الأمر أن الأزمات المتتابعة التي عصفت بلبنان، لم تتمكن من الحد من عمل المقاهي وقدرتها على استقطاب الزبائن. والأكثر غرابة، أنه حتى المقاهي أنفسها لم تنأى عن نفسها بأن تتلون، شاءت أم أبت، بلون سياسي أو ثقافي ما، وعليه تنشأ علاقة خاصة بين المكان ورواده، فنراها البيت الثاني المفتوح على مختلف الأفراد، وربما على أجواء أكثر رحابة من تلك التي تحدد حركة الشخص، سواء في المنزل أو في العمل.وحين يُسأل الزبائن عن سبب حضورهم، وعلاقتهم بالمقاهي، ومدى ما تلقي الظروف السياسية بظلالها على المقاهي، نجدنا وقد خضنا العديد من التجارب التي لا حصر لها. رشاد شمعون (24 سنة) الطالب في الجامعة اللبنانية الأمريكية، قال: “آتي هنا كي أعمل خارج جدران المنزل”. وأضاف قوله: “على عكس ما هو مُتخيل، أثناء الاضطرابات السياسية تصبح المقاهي هي مكان التقاء الناس من مختلف المشارب، كي يتواصلوا ويتفاهموا”، فحين تعجز الأطر السياسية عن تحمل الاختلاف، فالمقهى هو الملاذ الأخير للتفاعل والتفاهم.أما بشأن علاقته بالمقهى كمكان، فيشير رشاد إلى أنه يصبح وكأنه بيت ثانٍ، وعليه فالمرء يحتاج إلى مكان آخر، غير المنزل، كي يتصرف بعفوية و طبيعية. كما أن رشاد لا ينكر أن التواصل مع الأنثى يلعب أيضاً دوراً “ما” في ذهابه إلى المقهى، حيث تزول الحواجز بين الطرفين، ويغدو المكان بمثابة جسر للتعارف. [c1] في المقهى يصبح النظر إلى الأنثى متعة!![/c] من زاوية أخرى، ومن موقع مختلف، نجد الفنان التشكيلي والمحامي العراقي، فائق حداد (42 سنة)، يعتبر المقهى بمثابة نقطة التقاء مع المجتمع بمختلف شرائحه، فيستطيع من خلاله مجالسة الأصدقاء في جلسة تشمل حواراً مفتوحاً مشابهاً لجوها العام.ففي المقهى يتمكن الجليس من الانتقال من فكرة إلى أخرى بسرعة، وضمن حوار خفيف خال من التعقيد والاستفاضة، فيتمكن من خلاله استعمال بعض العبارات المركزة، والتي لها مفعول كبير مثل “ومن الشوق رسول بيننا”.وأكد فائق أنه لا تتعاطى القضايا السياسية، فبحكم سنه وتجربته وجد أنه “من العبث الخوض في مخاضات لا جدوى منها”.وقال فائق إن هناك نوعاً من الألفة ينشأ مع المقهى كمكان، لأنها صفة إنسانية ونوع من التوطن، وأشار إلى أنه في المقهى يصبح النظر إلى الأنثى متعة، واستشهد بالشاعر العربي: “إني أرى الجناتَ وإن خلت منهن أولى أن تعافى”. أما علي القحطاني (24 سنة)، الطالب السعودي بالجامعة الأمريكية، أكد أنه يذهب إلى المقهى كي يفرج عن نفسه بعد جهد دراسي شاقٍ، وكي يتحدث مع الأصدقاء، أو ليتابع دراسته خارج المنزل. وبحسب علي فإن الظروف السياسية ترفع “النبرة الفكرية” بين جميع رواد المقهى، وتضفي جواً ساخناً من الحوارات والسجلات.وأشار إلى أنه لا ينظر إلى المقهى بشكل مجرد، بل يربطه برواده، وذلك لأن النقاشات والحوارات تثريه فكرياً وذهنياً، مضيفاً: “ولكن والحق يُقال أن هؤلاء الذين ُيثرون شخصيتي لا يشكلون 15 في المائة فما دون، من الذين أراهم في المقهى!!” وبالنسبة لسائح في لبنان، مثل روكو نوري (28 سنة)، الموظف الإيطالي بالأمم المتحدة، فيرتاد المقاهي لأنها نقاط لرؤية ومراقبة الناس، فهو يحب أن يجلس بمكان يمكّنه من ملاحظة المارة. وعبر روكو بقوله إن “الظروف السياسية تؤثر على المقاهي، ففي أحداث مايو/ أيار كانت معظم المقاهي مغلقة، خصوصاً وأن الشؤون السياسية تؤثر على حياتنا من جميع النواحي، فالمقاهي يرتادها بعض المثقفين من لون معين، وبالتالي يسمونها بسمة معينة، أو بطيف حزبي أو سياسي أو ثقافي معين”.وعليه تصبح المقاهي منبراً حراً كي تعبّر الفئات المثقفة عن آرائها وأفكارها، خصوصاً وأنه، برأي روكو، يكون النقاش السياسي لطيفاً مع فنجان قهوة أو كابتشينو. فالمقاهي، بالنسبة له، هي أماكن مفتوحة تتيح المجال للشخص كي يجالس الأفراد الذين يشاركوه مبادئه وأفكاره. ويختلف الوضع بالنسبة للدكتورة عايدة الجوهري، الأستاذة بالجامعة اللبنانية، والكاتبة والإعلامية، فهي تأتي من خارج بيروت، ويكون المقهى بالنسبة لها مكاناً للاستراحة له طابع اجتماعي، بحيث يمكّنها من الالتقاء ببعض أصدقائها بشكل غير متوقع، وهو أمر مهم، لأنه يكسر الروتين، خصوصاً وأن المدينة هي “مكان اللا متوقع”.وذكرت عايدة أن الظروف الأمنية، لا السياسية، هي التي تؤثر على المقاهي، بل على العكس، فحينما تتأزم الأمور سياسياً يميل الناس إلى ارتياد المقاهي، كي يناقشوا ما يحصل ويتبادلوا فيه الآراء، فهم بحاجة إلى فهم ما يجري.وفيما يتعلق بالمقهى وعلاقتها به كمكان، قالت إنها تفضل بعض المقاهي على غيرها، فبعض المقاهي توحي بالانغلاق وعدم المرونة وبنوع من الكلاسيكية، وبالمقابل هناك أخرى توحي بالبساطة والانفتاح.وبالنسبة لعايدة “هناك رائحة للمقهى بالمعنى الرمزي للكلمة”، كما أشارت إلى أن المقهى مكان طبيعي للقاء الجنسين بدون التفكير بهذا التقسيم الحاد وغير المبرر بينهما، كأي ظاهرة طبيعية، بحيث لا يضع رواد المقاهي بالضرورة إستراتيجية للقاء بالجنس الآخر تحديداً، فالمقصود هو اللقاء بالأفراد والتفاعل معهم، أياً كان جنسهم. (CNN)
|
الناس
مقاهي بيروت منبر حر بين السياسة والمتعة!
أخبار متعلقة