تتواصل الندوات التاريخية القيمة التي ينظمها مركز البحوث والدراسات اليمنية في جامعة عدن ، وآخر تلك الندوات ندوة عقدت في الفترة 27 حتى 28 ديسمبر2005م بعنوان (( عدن وأوضاعها السياسية والاجتماعية و الاقتصادية منذ عام 856 هـ / 1452 م حتى عام 1254هـ / 1838م . والحقيقة أن أبحاث تلك الندوة أتسمت بمعلومات جديدة ومثيرة لم تكن معروفة من قبل في تاريخها وإذا شئنا تسمية الندوة بعنوان آخر فإننا نطلق عليها (( زيارة جديدة لتاريخ عدن )) . واحة للعلم والمعرفةوالحقيقة أن الأبحاث التي قدمت على مائدة الندوة غالبيتها إن لم تكن كلها أتسمت ملامحها بمنهج البحث التاريخي الأكاديمي الجاد بذل فيها أصحابها الجهود لكشف الكثير من عن عدن وتاريخها مختلف فتراته . والحق يقال أن ذلك هو ما يميز الندوات الذي يقيمها مركز البحوث اليمنية في جامعة عدن، بأنها ندوات تحتوي على أبحاث قيمة من ناحية وتضيف معلومات هامة وجديدة ومثيرة من ناحية أخرى. والحقيقة قبل الدخول في أوراق الندوة يجب أن نشكر هيئة جامعة عدن لما بذلته وتبذله في خدمة العلم والمعرفة . والحق يقال لقد صارت الجامعة واحة للعلم والمعرفة تضاهي الجامعات العربية المتقدمة الأخرى . ومن غير المنطق ألا نذكر وراء ذلك العمل الكبير في الجامعة ، رجال آمنوا بالعلم والمعرفة والثقافة بأنها السبيل الوحيد إلى التقدم والرقي لبلادنا في مختلف نواح حياتها على رأسهم الأستاذ الدكتور عبد الكريم راصع . ويجب أن نشيد بالتقدير والثناء الكبيرين بالأستاذ الدكتور جعفر الظفاري مدير مركز البحوث والدراسات اليمنية في الجامعة في أعداد تلك الندوات التاريخية القيمة والذي همها الأول وشغلها الشاغل أن تضيف تلك الندوات الكثير من المعطيات والمعلومات العلمية إلى عدن وقضاياها التاريخية المتنوعة على أساس منهج البحث التاريخي .علم النقود وأهميتهوالحقيقة أن من الأبحاث التاريخية القيمة والهامة التي شدت انتباهنا ، ولفتت أنظارنا هي دراسة تحت عنوان (( العملة والتداول النقدي بعدن في عصر الدولة الطاهرية )) لصاحبها الباحث الدكتور محمد صالح بلعفير المتخصص في المسكوكات الإسلامية بوجه عام واليمنية بوجه خاص والذي يكاد يكون المتخصص والمتعمق الوحيد في بلادنا في علم النميات أو النومات (numismatics ) أي علم النقود والمسكوكات والذي درساها على أسس أكاديمية . ولقد أشار الأستاذ الدكتور حسن عثمان إلى أهمية المسكوكات ( النقود ) في دراسة التاريخ حيث تعد من المراجع الهامة الذي على ضوئها يدرس الباحث فترة تاريخية ( ما ) مثلها مثل المصادر التراثية التقليدية . وهنا ربما كان مناسبا أن نودر ما ذكره حول أهمية علم النميات أو علم النقود في كتابة التاريخ ، إذ يقول : " وعلم النميات أو النومات أي علم النقود والمسكوكات من العلوم الهامة في دراسة نواح من التاريخ . فالعملة ... بما تحمله من صور الآلهة وصور الملوك والأمراء وأسمائهم ، وذكرى الحوادث التاريخية ، وسنوات ضربها ، تقدم للباحثين مادة تاريخية قيمة بالنسبة للتاريخ القديم وتاريخ العصور الوسطى في الشرق والغرب على حد سواء ... وتساعد العملة ــ والمسكوكات بعامة ــ في دراسة تاريخ الأساطير والعبادات والفنون والعلاقات السياسية , ونشاط التجارة وفتورها ... ونجد مثلا آثار العملة الصينية في شرق أفريقية ، وآثار العملة العربية في شمال غرب أوربا ، وآثار العملات الإيطالية في المشرق " . ويمضي في حديثه ، فيقول : " دليلا على مدى نشاط التجارة بين هذه الأنحاء المتباعدة من العالم ". مدينة التجارة والمالوالحقيقة أن محمد بلعفير رسم صورة واضحة عن النقود الطاهرية في عدن من حيث أوزانها وعيارها ، وحجمها وتتبع بصورة دقيقة صعودها وهبوطها على حسب القوة الشرائية لها وذلك عندما تكون الأحوال السياسية مستقرة وهادئة ومعنى ذلك أن ذلك ينعكس مباشرة وتلقائية على قيمة النقود ( المسكوكات ) . وتناول قضية غاية في الأهمية وهي أن عدن كانت إلى جانب أنها مدينة العلم والثقافة والسياسة كانت ــ كذلك ــ مدينة التجارة والمال . ونوه بلعفير بأن عدن كانت دار ضرب المسكوكات النقود وأنها تميزت عن المدن اليمنية التي كانت مركزا لضرب العملة وهي تعز ، وزبيد أو بعبارة أدق تميزت عنهم بالدقة في الوزن والمعيار أو بعبارة أخرى أتسمت بنقاء عيارها وارتفاع وزنها ، بسبب أن أية تشويه أو تزيف في العملة أو النقود ، فإن ذلك سيكون له مردود سلبي على النشاط التجاري في عدن . وأشار ــ أيضا ــ إلى أن عدن لم يتم فيها تداول العملة الطاهرية بمختلف وحداتها وهي الدينار الذهبي ، الدينار الفضي ، والفلوس النحاسية أو البرونزية فحسب بل ضخ في أسواقها عملات أخرى وهي الدينار الذهبي الشرفي المصري ، والنقود الإيطالية الذهبية والتي كانت تسمى المشخصة ــ على حسب قوله ـــ بسبب الصور المحفورة في وجه وظهر العملة . وتطرق إلى حوانيت الصرافة التي كانت منتشرة في عدن " ... فقد تحولت عدن إلى مركز تجاري عالمي ، وإلى سوق حرة انتعشت في ظلها حوانيت الصرافة ". النقود والسياسةولقد ربط محمد بلعفير بصورة ذكية الأحداث التاريخية بالنقود الطاهرية فهو بتلك الطريقة أو الوسيلة مهد الأرضية للتعرف على القيمة الشرائية للنقود أو المسكوكات في عهد الطاهرين ، وكيف ارتبطت العملات أو النقود ارتباطا عميق بالحياة السياسية من ناحية أخرى . شروق شمس الطاهريينفي مقدمة بحثه كتب الدكتور بلعفير بخطوط عريضة وسريعة ، كيف استولى بني طاهرعلى حكم بني رسول ؟ ــ الذين حكموا اليمن أكثر من قرنين خلت والتي كانت غرة شادخة في جبين اليمن على حد قول المؤرخ القاضي إسماعيل بن علي الأكوع في كتابه الدولة الرسولية في اليمن ـــ . جد الطاهريونومن البديهي أن الدولة عندما تكون دولة قوية مهابة الجانب وفيها ملوك عظام ، فإن الذين يعملون في خدمتها أو في ظلها لا تسول لهم انفسم الانقضاض عليها ، وحياكة الدسائس في أروقتها . ويذكر بلعفير أن جد الطاهريين هو معوضة بن تاج الدين. ويبدو أن معوضة هذا كان رجلا ذا نظرة سياسة ثاقبة وحكمة كبيرة وكان أيضا طموحا حيث كان يرى ويلمس أن ملوك وسلاطين الدولة الرسولية في طريقهم إلى الزوال بسبب التناحر الشديد الذي وقع فيما بينهم، وأنهم ضعاف يستطيع من خلال الوقوف بجانبهم أن يثقوا به وبقدراته على معالجة الأمور في البلاد وبذلك يتمكن من سحب بساط النفوذ السياسي من تحت أقدامهم. وأكبر الظن أن معوضة جد الطاهرين قد وضع لأبنائه علامات سياسية على الطريق ليسيروا على نهجه للاستيلاء على حكم الرسولين . غروب شمس الرسوليينوكيفما كان الأمر ، فقد سار أبنه طاهر بن معوضة على النهج الذي رسمه له والده، وأستطاع بالفعل أن يكسب ثقة السلطان أحمد بن الأشرف إسماعيل المتوفي سنة ( 827 هـ / 1424 م ) . ولقد كان الأخير يرحب به ترحيبا حارا . وفي عهد السلطان الرسولي الظاهر بن الأشرف إسماعيل المتوفي سنة ( 842 هـ / 1438م) أزدات حظوة بني طاهر ، وأرتفع شان قامته السياسية في الدولة الرسولية ، و عندما تزوج السلطان الظاهر من ابنته . وفي سنة 858 هـ / 1454 يستولي الطاهرين على عدن , وبسقوطها في قبضتهم , ودخول زبيد في طاعتهم أعلن عن قيام الدولة الطاهرية التي حكمت اليمن قرابة تسعة قرون وطويت آخر صفحة من كتاب تاريخ الدولة الرسولية . سفينة الدولة الطاهريةوالحقيقة أن سفينة الدولة الطاهرية استطاعت أن تبخر عباب السياسة بقوة فترة من الزمن وتحديدا في زمن المجاهد علي ، والظافر عامر اللذان تمكنا أن يقيما دولة قوية ورثت حكم الدولة الرسولية بما فيه من تراث ثقافي وحضاري ، وإمكانيات اقتصادية كبيرة . ولكن السفينة الطاهرية تعرضت لنتوءات وعواصف سياسية عاتية تمثلت في العامل الداخلي فقد ثارت المعارضة السياسية في وجه الدولة الطاهرية ، وأخذت تنقض على العديد من مناطق نفوذها السياسي وأما العوامل الخارجية الصعبة التي أحاطت بها من كل مكان وهي المماليك الذين وطأت أقدامهم السواحل اليمنية بهدف الوقوف ضد وجه الأساطيل البرتغالية التي عملت على خنق وحصار الموانئ المصرية واليمنية , ولكن بدلا أن يحمي هؤلاء المماليك ( الشراكسة ) في عهد آخر سلاطينهم السلطان الغوري ـــ المقتول سنة1516م ــــ السواحل اليمنية من تهديد الفرنجة البرتغاليين ، إذا بهم ينهبون ويسلبون المدن اليمنية المطلة على البحر الأحمر مثل زبيد ، فنشروا الذعر والخوف الكبيرين بين أهالي زبيد وغيرها من المناطق التي وطأت أقدامها فيها . أعظم سلاطين الدولة الطاهريةولقد حدث ذلك في عهد السلطان الظافر عامر بن عبد الوهاب المقتول سنة ( 923 هـ / 1517م ) علما بأن ذلك السلطان الذي جلس على كرسي العرش لمدة تسعة وعشرين عاما ، كان من أعظم سلاطين الدولة الطاهرية وفي عهده اتسعت رقعت دولته أتساعا كبيرا . وهنا ربما كان مناسبا أن نقتبس ما أورده الدكتور سيد مصطفى سالم حول دور السلطان ( عامر) على مسرح اليمن الساسي على وجه العموم وعلى مسرح الدولة الطاهرية على وجه خاص ، إذ يقول: " والحقيقة أن السلطان عامر كان حاكما قويا طموحا ، ويعتبر من أبرز شخصيات الأسرة الطاهرية ، قد أظهر نشاطا كبيرا منذ توليته الحكم في جمادي الأولى سنة 894 هـ ( أبريل 1489 م ) , وعمل على توسيع رقعة أملاكه على عكس والده الذي قنع بالعيش في سلام مع باقي السيادات التي عاصرته وخاصة الزيدية . والغريب في الأمر ، أن محمد بلعفير ذكر أن النقود أو العملة في عهد السلطان عامر كانت تعيش حالة من الوضع المالي السيئ والحرج علما أنه كان يهتم اهتماما كبيرا في ميناء عدن وكان يشرف بنفسه على حركة الميناء " ... كان السلطان عامر بن عبد الوهاب يتوجه أحيانا إلى عدن في موسم الرياح ليشرف بنفسه على خروج القافلة البحرية إلى الهند ". وهذا دليل واضح بأن الحياة الاقتصادية في عدن شهدت عناية فائقة في عهده ومن ثم ينعكس ذلك على القوة الشرائية للنقود . وكما مر بنا سابقا بأن السلطان عامر بن عبد الوهاب كان من أعظم سلاطين الدولة الطاهرية ، وفي أيامه اتسعت رقعت الدولة اتساعا كبيرا والأتساع معناه أن السلطان عامر من المحتمل قد وضع يده على الكثير من مناجم الذهب أو على أقل تقدير بعضا منها . وهذا بدوره يعكس على قيمة الدينار الذهبي في عهد حكمه . وهذا الجانب لم يفيض فيه بلعفير , وإنما ألقى الأضواء على أواخر حكم السلطان عامر الذي أطلت فيه برأسها الخطوب والفتن والقلاقل سواء على الصعيد الداخلي حيث أشتد ساعد المعارضة السياسية له ، والمناوئين لحكمه من ناحية وحصار الفرنجة البرتغاليين لسواحل اليمن والعمل على خنقها من ناحية ثانية ووصول المماليك المصرية إلى عدد من المدن الساحلية اليمنية مثل زبيد والذين كانوا مصدر قلق وإزعاج كبيرين لنفوذ السلطان عامر ( الثاني ) في اليمن من ناحية أخرى كل هذه العوامل الداخلية والخارجية أثرت تأثيرا سلبيا وخطيرا على الحياة الاقتصادية وبالتالي ألقت بظلها الثقيل على القوة المالية للنقود من حيث قلة جودة عيارها وخفت وزنها ، وإن شئت فقل اضطربت النقود في عهده اضطرابا شديدا . في عهد السلطان عبد الملكوأما السلطان عبد الملك محمد الذي تمكن أن يسيطر على عدن , ويقضي على الكثير من مناوئيه وخصومه ، ويعيد الأمن والهدوء إلى ربوع دولته ومن ثمرته أن شهدت الحياة المالية فيها استقرارا كبيرا . وهنا ربما كان مناسبا أن نقتبس ما أورده بلعفير حول ذلك الموضوع ، إذ يقول : " يتبين من أوزان الدراهم ( الفضة ) المذكورة والتي تمثل عهود ثلاثة من السلاطين الطاهريين ، أن عيار الفضة فيها متدن ، وإن كانت دراهم السلطان عبد الملك بن محمد تعد أكثرها وزنا ، وفي ذلك مؤشر ودليل على قوة اقتصاد الدولة الطاهرية ونظامها النقدي في عهده ، وخاصة وأنه استخدم سياسة الحزم مع خصوم الدولة ومعارضيها ، والأكثر من ذلك سيطرته على مدينة عدن الأمر الذي كان له الأثر الكبير في تحقيق الاستقرار المالي للدولة الطاهرية على خلاف عهد كل من الظافر عامر ( الثاني ) والظافر عامر ( الرابع ) ؛ فعهد عامر الثاني شهد زيادة مضطردة في الخطر البرتغالي , وتعقدت الأحوال في عهده بعد موقفه من الحملات المملوكية التي أرسلها السلطان قانصوه الغوري لمحاربة البرتغاليين في سواحل الهند ، وما ترتب على ذلك الموقف من تدخل مملوكي أدي في نهاية المطاف إلى مقتل السلطان عامر نفسه ، فضلا عن تمردات القبائل وصراعه مع الأئمة الزيديين " . ويمضي في حديثه ، فيقول : " فكل هذه الأحداث المتمثلة في اضطراب الاوضاع الداخلية علاوة على التدخل الخارجي ( المملوكي ) تركت آثارها في عدم الاستقرار السياسي للدولة الطاهرية ، وبالتالي اضطراب النظام النقدي أو ضعفه ، وهذا ما عكس نفسه على وزن وعيار الدراهم في هذا العهد ".عدن والنقود الإيطالية وكشف محمد بلعفير الكثير عن المعلومات الخاصة بالتداول النقدي في عدن ، فهو لم يشير إلى تداول العملة المحلية في عهد الطاهريين التي كانت متداولة وهي الدينار الذهبي ، والدرهم الفضي ، والفلوس البرونزية أو النحاسية فحسب بل تطرق إلى العملات أو النقود الأخرى التي تدفقت في سوق أو أسواق عدن المالية على سبيل المثال الدينار الذهب الأشرف المصري المملوكي ، والدوكات البندقية الإيطالية . وهنا ربما كان مناسبا أن نورد ما قاله بلعفير حول ذلك الموضوع ، إذ يقول : " ... أن عدن كانت أهم ثغور اليمن وأعظم مركز تجاري في المحيط الهندي، فهي المرسى الرئيسي لبلاد اليمن ، تتردد عليه مراكب الهند والسند والصين وكرمان وفارس وعمان . وهذا يعني أن عدن كانت ملتقى التجارة ومقصد التجار من أقطار عديدة من الحجاز ومصر والمدن الإيطالية كالبندقية وفلورنسا". ويمضي في حديثه ، فيقول : " وتبعا لذلك فقد تحولت عدن إلى مركز تجاري عالمي ، وإلى سوق حرة انتعشت في ظلها حوانيت الصرافة . فكان هؤلاء التجار يأتون ببضاعتهم ، وبعملات بلدانهم أو بكميات من الفضة أو الذهب ويتعاملون بها للحصول على العملة الوطنية في عصر الدولة الطاهرية وعملات أخرى لتسهيل معاملاتهم التجارية والعكس صحيح ، سيما وأن قاعدة النقد في ذلك العصر تقوم على الوزن لا العد ، وبذلك شهدت عدن ازدهار تجاريا وماليا بالمعنى الواسع للكلمة" . ويضيف ، قائلا : " وهكذا كانت المعاملات المالية والتداول النقدي تتم في عدن ، وكانت حوانيت الصرافة تقوم بما تقوم به البنوك والشركات في أيامنا". ما معنى السيطرة على عدن ؟ ويشير الدكتور محمد صالح بلعفير إلى مسألة سياسية هامة تتعلق بمدينة عدن ، وهي أن من يستطيع السيطرة والتحكم على مدينة عدن من حكام الدول المركزية التي تعاقبت على حكم اليمن ، فإن الأمور السياسية تنقاد لها ، وتخضع لها الكثير من القبائل . وفي هذا الصدد ، يقول محمد بلعفير :" أن السيطرة على عدن كانت في حد ذاتها الفيصل لإثبات المقدرة على استحقاق السلطنة ، لا تنقاد لأحد من بني طاهر إلا إذا كان مسيطرا على تلك المدينة متصرفا في أمورها ، يدخلها متى شاء". بحث مثير للجدلومن الأبحاث المثيرة التي طفت على سطح الندوة ، بحث حمل عنوان (( تاريخ ثغر عدن " لأبي مخرمة ، وجهة نظر جديدة )) للباحث الدكتور العراقي رعد زهراو الموسوي ، فصاحب البحث يحاول يؤكد من خلال الدلائل والبراهين الذي طرحها في بحثه أن القسم الاخير من كتابه (( تاريخ ثغر عدن )) وهو الخاص بالتراجم يعد مشروع عمل لم يكتمل بعد أو بمعنى أدق أن ذلك القسم من التراجم كان عبارة عن مسودة لم تمكنه الظروف من إعادة كتابته مرة أخرى حيث يعمل على مراجعتها من أضافات ، وتنقيح ،. فرعد الموسوي يرى أن القسم الثاني من الكتاب لم يصافح الحياة إلا بعد أربعين عاما والذي كان مسودة . ويبدو أن المرض والموت قد حالا من تصحيفه مرة أخرى.ويوضح رعد زهراو أن المؤرخ باخرمة المتوفى في سنة ( 947 هـ / 1540 م ) كان همه الأول هو كتابة مخطط كامل وشامل عن مدينة عدن . ولقد استطاع أن ينجز ذلك العمل على نحو يدعو إلى الإعجاب والتقدير الكبيرين . وفي هذا الصدد يقول زهراو : " لقد أبان مؤلفه ( يقصد تاريخ ثغر عدن ) عن تاريخ المدينة ، خططها ، دورها ، أسوارها ، أعلامها من علماء وأمراء ، وسلاطين وتجار .. وحتى من ورد إليها من الغرباء ". ويضيف قائلا : " ولم ينسي ( لم ينس ) جريا على عادة مصنفي هذه الكتب ( المدنية ) أن يثبت في مقدمة كتابه ما ورد عن مدينته من ذكر في القرآن الكريم , الحديث النبوي الشريف ، والشعر ". تاريخ مخطط عدنوفي الواقع لقد أثار رعد زهراو موضوع جدير بالاهتمام به والنظر فيه , وهو يستحق من الباحثين والمؤرخين والمهتمين بكتاب تاريخ ثغر عدن أن يناقشوه على أسس منهج البحث التاريخي الذي يقوم على الاستقراء والاستنباط ، والتحليل العميق والتفسير الدقيق ، والمقارنة بهدف الخروج معلومات قيمة وجديدة تضاف إلى تاريخ اليمن بصورة عامة و ثغر عدن بصورة خاصة . وكيفما كان الأمر ، فإن رعد زهراو يحاول أن يثبت لنا أو معنى أدق يحاول أن يثير الشكوك حول القسم الثاني من الكتاب بأنه كان عبارة عن مشروع لتكملة الكتاب ولكن الأصل كان هو كتابة مخطط عام عن عدن أو بعبارة أدق هو كتابة تاريخ مخطط عدن. الكتاب وعلامات الاستفهامويعود مرة أخرى صاحب البحث رعد زهراو بوضع الكثير من علامات الاستفهام حول الكتاب أو يحاول يلف الكتاب بصورة عامة من الشك والضبابية , ويوهمنا بأن كتاب (( تاريخ ثغر عدن )) ربما لا يعود إلى بامخرمة نفسه ولكن لا يصرح بها بصورة مباشرة بل يتعمد أن يتحدث عنها بشكل غير مباشر ، فهو يقول أن شخصية بامخرمة العلمية التي لها الكثير من المصنفات المختلفة من فقه , وحديث. فيذكر مصنفاته المشهورة وهي (( النسبة إلى المواضع والبلدان )) , وكتابه الأخر هو ( قلادة النحر ) أما الكتاب الموسوم بـ (( تاريخ ثغر عدن )) ــ كما مر بنا سابقا ـــ فهو يعمل على أن ذلك الكتاب لم يذكر من قريب أو من بعيد في كتابة المؤرخين المتأخرين في ترجماتهم لمؤلفاته ، فهو بذلك ينسف الكتاب برمته بأنه ربما أو من المحتمل ألا يكون ذلك الكتاب من بين تصنيفاته العلمية أو بمعنى أدق أن ذلك الكتاب من لا يدخل ضمن مصنفاته . وهنا ربما كان مناسبا أن نورد ما ذكره رعد زهراو حول تلك القضية ، إذ يقول : " فإنه لم يوضح الأسس المنهجية التي اتبعها في مصنفه ، والأسباب التي دفعته إلى تألفه أو جمعه ، كما أنه لم يشهر ( يشر) إلى موارده المعتمده ( المعتمد ) فيه ، فضلا عن إشكالية عدم مقدرتنا تحديد تاريخ التأليف ، وتاريخ الفراغ منه " . ويضيف قائلا : " أن عدم وسم أبا مخرمة مؤلفه هذا ( بالكتاب ) خلافا لما بينه في كتابيه ( قلادة النحر ) , و ( النسبة إلى المواضع و البلدان ) وتسميته ( بالتعليق ) ، له ما يبرره". ويمضي في حديثه ، قائلا : " كما أن عدم ذكر المصادر التي ترجمت إلى أبي مخرمة والتي ـــ في أيدينا الآن ــــ شيئا عن كتابه أو تعليقه هذا ، فضلا عن عدم الاقتباس عنه في كتب المتأخرين من كتاب الطبقات والتاريخ يدفعنا إلى القول إلى أن هذا المؤلف لم يري ( لم ير) النور في حياة مؤلفه إلا بعد مماته بفترة قاربت أكثر من أربعين عاما " . غيوم حول الكتابوفي موضع آخر وتحديدا في بداية مقدمة البحث يثير في نفوسنا الشكوك بأن ذلك الكتاب ربما لا ينتمي إلى بامخرمة ، إذ يقول : " والكتاب الذي يعنينا في هذه الدراسة لم يرد ذكره في أي من الكتب التي ترجمت له . باستثناء الكتاب المتداول الآن الذي نشره وقدم له ( أوسكار لفغرين ) ــ وهو مستشرق سويدي ــــ باسم ( تاريخ ثغر عدن ) والذي يفهم من ديباجته أن مؤلفه ( أبو مخرمة عبد الله الطيب ) كما صرح هو بذلك ". ويلقي رعد الموسوي مزيدا من ظلال الشك على عنوان الكتاب أو بمعنى آخر هناك شكوك تحوم حول عنوان الكتاب الذي نعرفه حاليا . وفي هذا الصدد ، يقول رعد : " هذا الصمت من مصادرنا يدفعنا للتساؤل هل أن الكتاب ـ بالعنوان والشكل ـ الذي وصلنا ، لم يكن معروفا آنذاك ؟ وبعبارة أدق ، هل أنه لم يكن متداولا بين الناس ؟ وأن النسخة ( المسودة ) لم تكن الوحيدة بقيت لدى مؤلفها حتى بعد وفاته .أم هناك سببا أخر " . وعلى الباحث أن يضع خطين تحت عبارة " هل هناك سببا آخر " . فتلك العبارة توحي لنا بأن كتاب ( تاريخ ثغر عدن ) من المحتمل غير موجود من الأساس في مصنفات المؤرخ بامخرمة , وأن ذلك الكتاب ربما دس عليه بطريق الخطأ أو بمعنى أدق أن ذلك الكتاب لمؤلف آخر. وللافت للنظر أن رعد زهراو نجده تارة يشير إلى أصابع الشك حول انتماء الكتاب إلى باخرمة أو بمعنى آخر ليس الكتاب الشرعي له , وتارة أخرى ينسف عنوان الكتاب بأنه قد يكون عنوانا آخر وليس ذلك العنوان الذي وصلنا إليه الآن ، إذ يقول بالحرف الواحد في تلك المسالة : " هذا الصمت من مصادرنا يدفعنا للتساؤل هل أن الكتاب ــ بالعنوان والشكل ــ الذي وصلنا ، لم يكن معروفا أنذاك ".المسودة ومرة أخرى يتحدث عن مسودة تتعلق بالتراجم في القسم الثاني من الكتاب . ومع الأسف العميق لم يعطينا تحديدا واضحا ويقينا هل الكتاب ( تاريخ ثغر عدن ) الابن الغير شرعي للمؤرخ بامخرمة ؟ ، فبعد أن يضع الأفترا ضات التي تجعلنا نشك أو توهمنا أن نشك بأن الكتاب لا يدخل في مصنفات بامخرمة . فإذا به يشير إلى مسودة القسم الثاني من الكتاب بأن تلك المسودة غير منقحة وأنها خرجت من حيز النور بعد وفاته بأربعين سنة . وهنا ربما مناسبا أن نذكر ما أورده في روايته حول تلك المسودة الخاصة بالقسم الثاني بسبب مرضه ، إذ يقول : " ... وقد دفعته وفرة المعلومات ولا سيما في القسم الخاص بالتراجم وملاحظته وأرائه الكثيرة ... إلى أن يكتب مصنفا لم يحالفه الحظ بإنجازه بسبب ما ، وقد يكون مرضه الذي عانى منه وشل حركته في عام 944 هـ سببا مباشرا لذلك ، فترك الكتاب مسودة لم تنجز " . ملاحظاتوالحقيقة لدينا عددا من الملاحظات المستخلصة من الأفكار والآراء والافتراضات الذي طرحها الدكتور رعد الزهراو الذي ذكرهها قبل قليل وهي كالآتي : ـــ أنه أشار إلى أن المصادر لم تذكر كتاب بامخرمة ( تاريخ ثغر عدن ) أو لم تشير إليه كتب المتأخرين ، هل يقصد بذلك الكتاب ككل أم يقصد القسم الثاني من الكتاب وهو الذي يحمل عنوان (( تاريخ ثغر عدن , وفيه التراجم ، ويليه تراجم منتخبة من تاريخي الجندي والأهدل )) . ــ فهو لم يستقر على حال من حيث نفيه للكتاب ، فتارة يقول أن الكتاب ربما يكون نسب إليه أو بمعنى آخر أن الكتاب ( تاريخ ثغر عدن ) لا يدخل في عباءة مصنفاته أو مؤلفاته . وتارة أخرى يقول أن القسم الثاني وهو الخاص بالتراجم لم يكن في حسبانه ولكن عندما ظهرت أمامه فيض من المعطيات والمعلومات عن رجالات كانت لهم بصمات واضحة في حياة عدن الاجتماعية على سبيل المثال من قضاة ، وعلماء ، وفقهاء , وسلاطين . فقد قرر ــ على ما يبدو ــ كتابة مصنف خاص للتراجم ، ولكن ذلك المصنف أو المسودة لم تصافح النور إلا بعد فترة طويلة من رحيله في سنة ( 947 هـ / 1540 م ) . وفي هذا الصدد يقول الدكتور رعد الزهراو : " ... أن من المحتمل جدا أن أبا مخرمة رسم هيكلا عاما ليكون مصنفه الذي وسمه بــ ( تاريخ ثغر عدن ) أطلق عليه لفظ ( تعليق ) أو بالأحرى أراد له أن يكون في بداية الأمر ، لذلك كتب ديباجته بهذا الوصف ، رام فيه أو نهج إلى تجريد كل ما يمكن تجريده من معلومات تخص مدينته عدن من المصادر المتوفرة لديه ، إلا أنه على ما يبدو قد عدل فما بعد , وقد دفعته وفرة المعلومات ولا سيما في القسم الخاص بالتراجم وملاحظاته وآرائه الكثيرة ... إلى أن يكتب مصنفا لم يحالفه الحظ بإنجازه لسبب ما ، وقد يكون مرضه الذي عانى منه وشل حركته في عام 944 هـ سببا مباشرا لذلك فترك الكتاب مسودة لم تنجز ". لقد لفت نظرنا الأفكار والآراء الذي طرحها رعد الموسوي حول المسودة التي كتبها المؤرخ بامخرمة بأنها كانت تقوم على بعض الافتراض أو الافتراضات والتي هي تجانب منهج البحث التاريخي . قضية فريدة في بابهاوكيفما كان الأمر ، فقد طرح الدكتور رعد زهراو الموسوي قضية فريدة في بابها بالنسبة لكتاب ( تاريخ ثغر عدن ) لمؤلفه وصاحبه بامخرمة , وهو أن الكتاب من المحتمل لا يكون الابن الشرعي لمصنفاته حيث قال ــ كما مر بنا سابقا ــ بالحرف الواحد : " هذا الصمت من مصادرنا يدفعنا للتساؤل هل أن الكتاب ــ بالعنوان والشكل ــ الذي وصلنا ، لم يكن معروفا آنذاك ؟ وبعبارة أدق هل أنه لم يكن متداولا بين الناس ؟ وأن النسخة ( المسودة ) لم تكن الوحيدة بقيت لدى مؤلفها حتى بعد وفاته . أم أن هناك سببا آخر؟. مع الباحثينوفي الحقيقة أن تلك القضية التاريخية الهامة والخطيرة يجب بل ويتوجب أن تحظى باهتمام الباحثين المختصين والمؤرخين المهتمين بتاريخ ثغر عدن . والحق يقال لقد استطاع الدكتور رعد زهراو بمقدرة فائقة وذكاء حاد مستعملا أدوات منهج البحث التاريخي بصورة تدعو إلى الإعجاب والتقدير الكبيرين أن يقوم بزيارة جديدة لتاريخ ثغر عدن . إعادة النظر وفي ختام بحثه الشيق والممتع , والقيم ــ أيضا ــ ، يدعو كل من له اهتمام بتاريخ ثغر عدن أن يتم تحقيقه بصورة جادة وعميقة . وفي هذا الصدد يقول الدكتور رعد زهراو الموسوي : " والحق أن هذا الكتاب بحاجة إلى دراسة أكاديمية جادة ومعمقة ، تتناول البناء المنهجي للكتاب ، وأسلوب عرضه ومبررات تألفه , وإذا شئنا الدقة أكثر أنه بحاجة إلى دراسة وتحقيق ، فالمنشور منه فيه الكثير من الأخطاء الناتجة عن التصحيف والتحريف ، فتراثنا العربي و الإسلامي بحاجة إلى مثل هذه الدراسات ولا سيما في تراث اليمن الزاخر". الهوامش- عرف بعض المؤرخين (( السكة )) تعريفات متعددة تدور كلها حول العملة ، فيقصد بها النقود على اختلاف أنواعها من دنانير ، ودراهم ، وفلوس ، كما يقصد بها أحيانا النقوش التي تزين بها هذه النقود ، وأحيانا أخرى يعبر بها عن قوالب السك التي تختم على العملة المتداولة ، ويطلق لفظ السكة أيضا على وظيفة السك تحت إشراف الدولة غير أن المعنى الشائع والمقصود هنا هو إطلاق لفظ (( السكة))التي تضرب في دور الضرب والتي أصبحت وسيلة التعامل بين الشعوب المختلفة ". المرجع : النقود الصليبية في الشام ومصر ، للدكتور رأفت محمد النبراوي ، سنة الطبع 2004 م ، الناشر : مكتبة القاهرة للكتاب ، القاهرة ــ جمهورية مصر العربية ـــ. - الدكتور حسن عثمان ؛ منهج البحث التاريخي ، ص 32 ، الطبعة الثالثة منقحة، القاهرة ، دار المعارف ــ 1970م. - الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن ( 1538 ـــ 1635م)، ص 43 ، سنة الطبعة 1969 م ، قسم البحوث والدراسات التاريخية .- الشكر والثناء العميقين للأستاذ عبد الله محمد بامطرف ــ العاشق للعلم والمعرفة ــــ مدير مكتبة مركز البحوث والدراسات اليمنية بجامعة عدن الذي يزود صفحة ((تراث وتاريخ )) في صحيفة " 14 أكتوبر " بالندوات العديدة التي تعقد في الجامعة ومنها تلك الندوة ، وفضلا عن إعارته للكتب التراثية والتاريخية لاستعراضها ، ومرة أخرى نشكر الأستاذ عبد الله محمد بامطرف عما قدمه ويقدمه بهدف نشر تراث وتاريخ اليمن المشرق. ( المحرر ).في عهد الدولة الطاهرية تحولت عدن إلى مركز تجاري وإلى سوق حرة انتعشت في ظلها حوانيت الصرافة وضخت نقوداً مختلفة في سوقها المالي من دينار مصري (ذهب) ونقود إيطالية ذهبية ونقود هندية وفارسية كانت دار الضرب في عدن من أفضل دور ضرب في اليمن من حيث نقاء عيارها وارتفاع وزنها