كانت اليمن المتوكلية تعيش حتى سبتمبر من عام 1962 تحت نظام استبدادي شديد التخلف بحيث كان الاحرار من شعراء ومفكرين يضطرون الى اللجوء الى عدن التي كانت قد بقيت تحت الحكم البريطاني حتى عام 1967. فعلى الرغم من وجود الاستعمار في الجنوب، إلا أن أحرار الشمال كانوا يجدون بعض المتنفس فيها، وكان الانجليز يسمحون بشيء من الحرية للصحافة الوطنية، التي انتهزت ظروف الحرب العالمية ورغبة بريطانيا في كسب العرب قي معركتها ضد دول المحور فأطلت أولا في شكل صحيفة "فتاة الجزيرة" التي أنشأها المحامي المناضل محمد علي لقمان ثم ظهرت صحف عدة تمثل تيارات متباينة وان كان يجمع بين معظمها الهم الوطني والرغبة في التحرر.أنشأ لقمان صحيفته عام 1940 وكان على علاقة واسعة وشخصية مع رجال التنوير أمثال الامير شكيب إرسلان الذي كتب مقدمة أحد كتبه والمهاتما غاندي الذي نصحه بدراسة القانون وانشاء صحيفة وعبد العزيز الثعالبي ومحمد على الطاهر ومحمد كرد علي وعلي أحمد باكثير والفيلسوف برتراند رسل وغيرهم.وكان الانجليز قد فصلوا لقمان من وظيفته اذ كان مدرسا، لأنه كتب في إحدى الصحف الصادرة في الهند مقالا باللغة الانجليزية ينتقد فيه سياسة الانجليز، وعلى الرغم من أن المقال ذيل باسم مستعار، إلا أن مخابراتهم كشفت اسم الكاتب الحقيقي.وفتحت "فتاة الجزيرة" صدرها للأحرار اليمنيين القادمين من الشمال من أمثال الشاعر محمد محمود الزبيري الذي كان يلقب بأبي الاحرار، والاستاذ احمد محمد نعمان والشاعر زيد الموشكي والشاعر احمد بن محمد الشامي والشاعر علي عبد العزيز نصر وكان هؤلاء مشغولين بقضية الظلم في الشمال واستبداد الامام يحيى بن محمد حميد الدين في المقام الاول في كتاباتهم.وفتحت الصحيفة صدرها لكتاب عدن وحضرموت وعلى رأسهم الشاعر السيد محمد عبده غانم وكان أول خريج جامعي في المنطقة، وهو الذي أدخل التيار الرومانسي الى الشعر في اليمن كما ذكر ذلك د. عبد العزيز المقالح وغيره من النقاد. وكان من أهم كتاب الصحيفة بل مدير تحريرها الشاعر علي لقمان النجل الاكبر للمحامي محمد علي لقمان وكان قد تخرج في مجال الصحافة من القاهرة، وكانت تجمعه معرفة وصداقة ببعض كتابها وشعرائها أمثال مصطفى وعلي أمين وأحمد رامي. ونشر قصائده في الصحيفة ذاتها الشاعر الرومانسي الرقيق لطفي جعفر أمان تلميذ السيد غانم وكان قد درس في السودان. وكان من الشعراء البارزين في عدن محمد سعيد جراده، وادريس حنبلة، وعبد الله هادي سبيت من منطقة لحج المجاورة، كما كان الاديب الشاعر والروائي المسرحي على أحمد باكثير يزور عدن ويكتب فيها أحيانا وتربطه بلقمان الاب صداقة وطيدة ومن شعراء عدن المعروفين في تلك الأيام أيضا عبد المجيد الاصنج وأحمد حامد جوهري ومحمد حسن عوبلي.كان الشعر في عدن قبل غانم ورفاقه تقليديا، وكان أمثال الشيخ احمد العبادي والشيخ محمد سالم بيحاني ومحمد علي لقمان يدعون الى الاصلاح وينظمون القصائد في المناسبات الدينية. وقد بدأت ملامح التغيير في الاساليب الشعرية على أيدي عبد المجيد الأصنخ والسيد غانم ورفاقه متأثرين بحركة الاحياء في مصر وكذلك حركة أبولو والديوان وشعراء المهجر. ولكن ذلك لا يعني أنهم كانوا لا يشاركون بقصائدهم في بعض المناسبات الدينية منتهزين تلك الفرص للدعوة للنهضة والحرية الفكرية، فقد كانوا متأثرين أيضا بفكر الامام محمد عبده، وبالثورة الفرنسية واعلام الفكر الغربي وشعراء مصر والعراق وسوريا ولبنان.ولا شك أن شعراء عدن كانوا من أوائل من رسخ في أذهان الناس أن عدن جزء من اليمن ملتجئين غالبا الى الحديث عن أمجاد سبأ وحمير، وان عدن جزء من ذلك التراث، فقد كانوا يضطرون الى ذلك في نظري لسببين: أولهما أن الحكم الامامي في اليمن كان في نظرهم أشد سوءاً من الوضع في عدن فمن الصعب الدعوة للوحدة معه وهو في تلك الحال المخيفة من التخلف، وثانياً لانهم كانوا كلهم أو جلهم من الموظفين الحكوميين في سلك التدريس وكان الاستعمار لا يسمح للموظفين بأي نوع من العمل السياسي. يقول محمد عبده غانم في قصيدته "على الشاطىء المسحور" وهو على شاطىء "صيرة" في عدن:وهذه "صيرة" في الأفق ماثلة ×××× وحولها البحر بالأمواج يصطفقهنا على الشاطىء المسحور قد عمل ×××× الاذواء من "حمير" للمجد واستبقواكانوا ملوكا تهاب الناس دولتهم ×××× فلم يجوروا بهم في الحكم بل رفقواكانوا اذا خرجوا في موكب خرجت ×××× من الصنانيد تمشي خلفهم فرقفي سفح "شمسان" جمع من مآثرهم ×××× شهود عدل اذا ما حدثوا صدقواو"شمسان" هو أعلى جبل في عدن فلذلك اتخذه غانم رمزا لعدن في كثير من قصائده. وتمضي القصيدة في التغني بالماضي المجيد الى أن يقول:تلك الرجال اذا فاخرت لانفر ×××× من الصعاليك لا بزّوا ولا سبقواولا دروا كيف يبنى المجد أو فهموا ×××× ان الحياة بدون المجد تمحقوهكذا في قصيدة واحدة يؤكد الشاعر على يمنية عدن وهو يعمل موظفا في ظل الاستعمار وفي نفس الوقت يدين الحكم الاستبدادي المتخلف في الشمال وأيضا في المحميات الجنوبية من خلال مقارنة الحاضر بالماضي.ويفعل غانم مثل ذلك في كثير من قصائده وعلى رأسها ملحمته "قصة الامواج" الذي ينهيها بحديثه الموجه الى البطل القومي سيف بن ذي يزن مخلِّص اليمن من الاستعمار الحبشي (المعادل الموضوعي للاستعمار البريطاني):يا سيف ذي يزن لقد أبليت في ×××× طلب الخلاص لهذه الاوطانفاجلس على عرش الجدود فانه ×××× عرش القلوب الثابت الاركانوعبارة "عرش القلوب الثابت الاركان" ذات دلالة خاصة على ايمانه بالوحدة كما أخبرني رحمه الله قبل الوحدة بأربعين سنة فقصائده أعلاه تعود الى الثلاثينات ومطلع الاربعينات.أما الشاعر علي لقمان ولعله الوحيد الذي لم يكن موظفا حكوميا فكان يكتب بحرية أكبر فيقول في احدى قصائده السياسية وهو يخاطب عدن وكأنه يخاطب محبوبة في قصيدة غزلية:خطرات قدك أم رماح أبيك ×××× مزقن قلب العاشق المنهوكنشر الصبا في مقلتيك شعاعه ×××× فسرى ضياء الحب في واديكيا بنت معتنق الصوارم والقنا ×××× تا الله ما هذا "الغليظ" ابوكانه يقول لعدن ان هذا الاستعمار الغليظ والبغيض لا يمكن أن يكون أباها الحقيقي ثم يقول بوضوح:عربية الاجداد أين عروبة ×××× كانت من الشر المقيت تقيك؟وعلي لقمان الذي حاول منافسوه وخصومه السياسيون تحريف معنى دعوته "عدن للعدنيين" والتي كان يناوىء بها الاستعمار الذي كان يعمل على قدم وساق على تجنيس الاجانب من اسيوبين هنود وغيرهم ليطمس عروبة عدن فادّعوا أنها دعوة انفصالية عن أجزاء الجنوب الاخرى هو نفسه الذي قال في قصيدة "الوحدة الواحدة" المنشورة في ديوان "انات شعب" الصادر عام 1962 م.اذا "عولقي" أنَّ أنَّت وان شكا ×××× فتى "عوذلي" رحبت بالعواذلوان ناح فيها "يافعي" مسهد ×××× يسهد جفنيها نواح القبائلبكى "عبدلي" من عدات فمزقت ×××× جوانحها الحرى دموع العبادلوضج "دثيني" فضجت توجعا ×××× وفي أهل "فضل" حبها للافاضلوصاح "ابن بيحان" فصاحت مكانة ×××× أصيبت بسهم في الملمات قاتلوكم طلبت في "حضرموت" مكانة ×××× لابنائها في وجه سر الغوائليوحدنا انا بلاد وأمة ×××× وان اغضب التوحيد كل البواطلأما الشاعر لطفي أمان فيقف أمام الصهاريج الشهيرة في عدن فيتغنى:هنا… هنافي هذه الاسداد من أرضنايرفق بالامجاد تاريخنافتغسل الاضواء آفاقناوتنتشي غناء أيامنافي حقبة غراء من دهرنا..وفي قصيدة أخرى يقول وهو هنا يبدأ بعدن وصنعاء ثم ينطلق الى العواصم والمدن العربية وكأنه يقول ان الوحدة اليمنية خطوة نحو الوحدة العربية الكبرى:يا لأرض القدس يحمي قدسها ألف نبييا لنهر النيل يروي كل قلب عربييا بلادي .. يا بلادي .. يا بلاد العربوالحقيقة أن كل شعراء عدن كتبوا عن الوحدة العربية وعن القضية الفلسطينية. وأما الوحدة اليمنية فقد كتبوا عنها كثيرا بعد زوال الاستعمار وكان الحكم الامامي قد زال قبله بينما تلكأ السياسيون في الحكم الشمولي فلم يمضوا الى الوحدة الا عام 1990 بعد زوال الاتحاد السوفييتي وسقوط سور برلين. يقول الدكتور محمد عبده غانم في نشيد "دياري" عام 1972 ولم يكن السياسيون في الجنوب يستسيغون مثل هذه الدعوة في واقع الامر:دياري دياري ديار اليمن ×××× ومن سفح صنعاء حتى عدنوهبنا لك الروح قبل البدن ×××× وقلَّت لك الروح منا ثمنويقول في قصيدة "في سبيل الوحدة اليمنية" عام 1973:الاهل أهلي والبلاد بلادي ×××× يمنية في حاضر أو باديلا فرق بين "عبادل" و"عواذل" ×××× و"بكيل في التاريخ والميلاداو بين "شمسان" الاشم وصنوه ×××× "ردفان" أو "ضوران" في الاطوادحييت يا وطني الحبيب ولم تزل ×××× وطن الكرام الصيد من شدادلك في النفوس مكانة قدسية ×××× رفعتك فوق النفس والاولادأما علي لقمان فيقول في احدى قصائده يخاطب علم الجمهورية اليمنية في الشمال في ذكرى ثورة 26 سبتمبر وقد نشرها عام 1973:وجدد العهد للاجيال في "سبأ" ×××× فمن هنا أشرق التاريخ يبتسموطيب الامل المرجو في وطن ×××× مهد الحضارة في أرجائه حرمواحرس خطى "تبع" في موكب ألق ×××× نجومه الزهر في الافاق تزدحمهدى وكل قبيل في الضلال هوى ×××× وضاء والظلم شرع الأرض والظلمووحد اليمن الميمون في زمن ×××× كل بما كسبت يمناه منسجممن عهد "بلقيس" هذا الشعب منتظر ×××× من يجمع الشمل في عز فيلتئموقد انتظر علي لقمان ورحل رحمه الله عام 1979 قبل تحقيق الوحدة.أما الشاعر محمد سعيد جرادة فقد كان في العادة يتحدث في قصائده عن انتصار ثوار الجنوب على الاستعمار ولكنه في قصيدة "اليمن" المؤرخة عام 1974 يقول بوضوح داعيا الى الوحدة متحدثا عن اليمن الكبير:شهداؤك الابطال قد رفعوا ×××× فوق النجوم لشعبك العلماسل عن ملاحمهم "ظفار" وسل ×××× "شمسان" أو "ردفان" أو "نقما"ستطل شمس غد على بلدي ×××× فياضة بالخصب والرغدوطلائع التحرير ما فتئت ×××× تحميه من غاز ومضطهدالمجد لليمن الكبير اذا ×××× ابناؤه ساروا يدا بيدأما الوحدة العربية التي كتب عنها شعراء عدن كثيراً، فيكفي أن نشير الى قصيدة لغانم بعنوان "الوحدة العربية" نالت جائزة عالمية عام 1942 من هيئة الاذاعة البريطانية عندما كانت بريطانيا توهم العرب أنها تؤيد وحدتهم ومنها:ان يومـا يعود فيه الى العرب اتحاد الجـدود يـوم عجيـبيوم يمشي ابن الرافدين ببيروت وصنعا فلا يقال غريبوقد تحققت الوحدة اليمنية بعون الله، فعسى أن تتحقق الوحدة العربية، ونحن نرى اليوم الوحدة الاوروبية تتحقق أمام أعيننا على الرغم من التباينات بين الدول الاوروبية في الجنس واللسان.
|
دراسات
دور شعراء مدينة عدن في الوحدة اليمنية
أخبار متعلقة