كنتُ قد تفاءلتُ كثيراً حينما ظننتُ أن مرحلة التكفير قد تلاشت من مجتمعنا منذ سنوات، أو على الأقل في الحراك العام المرصود؛ خاصة داخل المؤسسة الدينية المحلية الظاهرة على السطح، ولم تتبق إلا حالات التكفير التي يطلقها خفافيش الظلام في منتديات الانترنت، أو عند محرضي الإرهاب أو العمليات “الجهادية/الإجرامية” ضد الآمنين من الناس، وهما حالتان لا يُعول عليهما كثيراً،ولا يُلتفت إليهما كونهما تنطلقان من بؤرتين مشكوك فيهما لا من الناحية الفكرية ولا من الناحية الأمنية.حتى اكتشفت خطأ تفاؤلي المبالغ فيه مع فتوى تكفير الكاتبين عبدالله بن بجاد، ويوسف أبا الخيل مما أعاد عجلة الإصلاح الديني إلى الوراء، حتى جعل الكثير من المثقفين يعودون إلى الإحباط من جديد، وهو إحباط بدأ في الظهور منذ سنة ونصف تقريباً مع التراجع الخطير في الحريات العامة والحرية الإعلامية: المرئية والمقروءة والإلكترونية بشكل أخص.يبدو أن ذهنية التكفير أعقد مما كنا نتصور، إذ أن تأصيلها وثقلها التاريخي يجعل منها أكثر عمقاً وأكثر جذرية ضاربة في أعماق التاريخ الكهنوتي يعود بها إلى لحظاتها الأولى من الشعور الإيماني البشري وليس هذا خاصا بالرؤية الإسلامية عن غيرها بقدر ما هي رؤية التفكير الديني عموما في كل الأديان التوحيدية تقريباً خاصة بعدما تتحول الديانة إلى مؤسسة كهنوتية سلطوية كما حصل في تاريخ الكنيسة تجاه الأديان الأخرى أو تجاه ما أسمتها بـ”الهرطقات” ذات الرؤية العقلية في رؤيتها للوجود، ومعالجتها لابد من أن تطلق من أصولها الأولى، وهي الأصول التي تحتاج إلى أعادة نظر في مسلماتها وتفكيكها تفكيكاً معرفياً، وهذا باعتقادي ما حاول الكاتبين المذكورين أن يتعاملا من خلاله في رؤيتهما الجديدة للرؤية الدينية تجاه الآخر، وهي رؤية تتجاوز كثيراً الاعتقاد السائد في النظر إلى الأخر المختلف مذهبيا أو دينياً، وهي رؤية عميقة جداً (خاصة لدى يوسف أبا الخيل)، تحاول أن تعتمد النص كونه يحظى بمرجعية وثوقية لدى العموم الإسلامي، وإن كانت لا تأخذ النص بحرفيته وتصريحه المباشر بحكم معرفتها بتاريخيته التكوينية، بقدر ما تستنطق أبعاده الدلالية، ومقاصده الكلية، وتفجير طاقته التعبيرية، كما هو وصف بعض مفكري الحداثة العربية (إن كانت لدينا حداثة عربية)، وهو العمل الحقيقي _ في رأيي _ لإعطاء قيمة حقيقية للنص الديني بكافة تراتبيته التقديسية في المخيال الديني العام للشعوب العربية والإسلامية.الديانات التوحيدية الثلاثة إبراهيمية الأصل، وكونها إبراهيمية الأصل فإنما تنطق من نقطة واحدة وتتفرع لأكثر من فرع، تماماً كما هي المذاهب الإسلامية المختلفة، فقد كان المنطلق واحداً ، والفروع تختلف، ومن هنا فإن محاولة إعادة ربط الفرع بالأصل هي محاولة للبحث عن المشترك الديني والمذهبي في نوع من التقارب وردم الهوة بين الأطراف، وحينما يؤصل ذلك معرفياً فإن هذا الربط يصبح أكثر عمقاً وأصلب متانة؛ لكن تبقى المؤسسة الكهنوتية في كل الديانات بعيدة جداً عن هذا التفكير وهذه الرؤية المعمقة، ويصبح التفكير من خلال ذلك نوعاً من الكفر والزندقة يستوجب حد الردة.إن قراءة بسيطة لمنطلقات الديانات التوحيدية يمكن لها أن توجد أرضية مشتركة بينها جميعاً مع إقرار الاختلاف الكبير بينها، وحينما يحاول البعض أن يفكر من خلال النص الديني ويستنطق دلالاته في محاولة ردم الهوة بينها، فإن ذلك يستوجب الاحترام مهما كان اختلاف الرؤية وكان من المفترض أن يكون احترام من يجتهد أولى من تكفيره، وإذا كان حال الفكر الذي يحاول أن يؤصل الأمور من خلال النص فما بالك بالفكر الذي يتجاوز النص لإعطاء رؤية متجاوزة للرؤية الدينية..؟!.حصار التفكير من خلال التكفير حصار خطير جداً يجعل من محاولات الاجتهاد الفكري أو الديني في حال من التراجع الكبير، وهذا ما هو مشاهد تاريخياً منذ أن تحولت المنظومة الدينية الإسلامية إلى دوغمائية طويلة المدى، أنتجت ما سمي بفترة الانحطاط التي أنتجت هي أيضاً المنظومة المدرسانية الدينية المغلقة حتى فترتنا هذه ولم تنفع كافة السبل التنويرية باختراق هذا الحصار حتى الآن، وإذا كان حسب الرؤية الفقهية العامة، أن الاجتهاد ليس إلا في الأمور الفقهية فإن إقفال الاجتهاد العقائدي أيضا له الدور الأكبر في إقفال الاجتهاد الفقهي، إذ أن هذين الأمرين: الفقهي والعقائدي.. مرتبطان ارتباطاً وثيقاً تثبته وقائع التاريخ، ولعل المتصفح لتاريخ الفكر الإسلامي (المحايد طبعاً) سوف يدهش من كثرة الاختلاف العقائدي الذي أنتج الاجتهاد الفقهي في فترة العصور الذهبية الإسلامية، إذ أن المنطلقات الفكرية: العقائدية أو غيرها، دائماً ما تؤثر في الرؤية الفرعية، فالمقدمات الصحيحة تقود إلى النتائج السليمة حسب النظرة الديكارتية الصارمة، والجدل الكلامي كان أحد محركات الحضارة الإسلامية، وحينما انهار الجدل انهارت الحضارة الإسلامية كافة، كون الأفكار هي المنتجة للحضارة، تماماً كما هو في الفكر الأوروبي، فلولا الفكر لما قامت الحضارة الغربية المعاصرة.إن محاولات التفكير في خضم الحصار الذي يضربه الفكر التقليدي محاولات ذات ثمن باهظ ليس أقله فتاوى التكفير والحكم بالردة؛ بل يطال كافة المستويات: الشخصية، والفكرية، والحضارية. إذ أنه يجعل عملية التفكير محدودة محاطة بسياج قوي يمنع مرور الضوء إلى العين قبل أن يترجمه العقل صورة ذهنية، ومن هنا فسوف يبقى الحصار شديد المنعة حتى يتم تفكيك الذهنية التكفيرية في أصولها المعرفية قبل أي شيء آخر.ويجب ألا تمر فتاوى التكفير هكذا دون أن يسلط عليها ضوء النقد والنقد الجريء بدأ من الفكر الديني ذاته، حتى لا يكون لعبة في يد كل من له سلطة دينية لخطورة المسألة، وإلا عدنا إلى محاكم التفتيش من جديد، والتصفيات الجسدية التي حصلت طيلة تاريخ الفكر الإسلامي، خاصة من قبل من يتصور ذاته حارس العقيدة من صغار السن كما حصل لنجيب محفوظ رحمه الله، ذلك أنهم وقود سريع الاشتعال في يد من يوجههم إلى أي عملية، والتفجيرات التي حصلت في السعودية كانت تبدأ في شحنها الأيديولوجي من منطلقات التكفير.[c1]* كاتب سعودي[/c]
|
فكر
التفكير وحصار التكفير
أخبار متعلقة