خصصت مجلة «التاريخ» الشهرية الفرنسية في عددها الأخير، ملفاً كاملاً عن الحرية الفكرية في كلا العالمين الإسلامي والغربي. ونتبين منها أن هذه الحرية المباحة حالياً في الغرب، كانت ممنوعة أيضاً في العصور السابقة تماماً كما هو عليه الحال في عالمنا العربي والإسلامي المعاصر. فالباحث باتريك بوشرون، الأستاذ في جامعة السوربون، يقول لنا إن حرية الفكر في العصور الوسطى، كانت محصورة جداً ضمن حدود ضيقة دون أن تكون ملغاة تماماً. فالكنيسة المسيحية كانت تفرض على المفكرين خطوطاً حمراً لا ينبغي أن يتعدوها، وأولها: عدم المس بالعقيدة المسيحية أو دراستها دراسة عقلانية نقدية. فمَن تُسوّل له نفسه ذلك، كان جزاؤه العقاب الصارم والفوري. وأكبر دليل على ذلك، ما حصل لأحد أتباع ابن رشد في باريس: سيجير دوبرابان. فبعد أن اصدر المطران فتوى بإدانة أفكار ابن رشد وأرسطو، فإن هذا المفكر اضطر للهرب إلى إيطاليا، حيث وجدوه مقتولاً في غرفته، وضمن ظروف غامضة. وما هي الجريمة التي ارتكبها الرشديون في جامعة باريس آنذاك؟. لقد حاولوا الابتعاد عن الدين قليلاً والاهتمام بالفلسفة فقط. وهذا مناهض للفكر السائد في جامعات أوروبا إبّان القرون الوسطى، ومن بينها جامعة السوربون بالطبع. وكان هناك سقف أعلى للفكر لا يمكن لأحد أن يتجاوزه، يتمثل في ما يلي: الفلسفة ليست مهمة بحد ذاتها، إنما هي مجرد أداة لخدمة اللاهوت المسيحي. انها مجرد وسيلة لتقوية الإيمان بالعقائد المسيحية عن طريق استخدام العقل للبرهنة على صحتها. أما مَن يطالب باستقلالية الفلسفة عن اللاهوت، أو مَن يفضل ارسطو وابن رشد على البابا ورجال الدين، فعليه لعنة الله!..كان ذلك عام 1277، عندما أمر مطران باريس إيتيان طامبييه، بإدانة مائتين وتسع عشرة أطروحة فلسفية تدرس في جامعة باريس. فقد اعتبرها خارجة على الدين المسيحي، وبالتالي مهرطقة. وهكذا دخلت أوروبا في مرحلة طويلة من الصراع بين العقل/ والنقل، أو بين الفلسفة/ والدين.وفي عام 1487، أصدر البابا فتوى بإدانة كتب فلاسفة عصر النهضة، وبخاصة كتب بيك الميراندولي، وحظر على الناس قراءة هذه الكتب، بل وحتى امتلاكها أو طباعتها.وفي عام 1633، حصلت الإدانة اللاهوتية الشهيرة لغاليليو، لأنه يقول بدوران الأرض حول الشمس وليس العكس. وهذه الإدانة أرعبت ديكارت، فامتنع في آخر لحظة عن نشر كتبه. وراح الفيلسوف الفرنسي يمارس الرقابة الذاتية الصارمة على نفسه إلى درجة ان بعضهم اتهمه بالخور والجبن.لكنهم كانوا مخطئين، فالرجل الذي وصفه هيغل بأنه البطل المقدام للفكر، لم يكن جباناً، لكنه كان يعرف تماماً أن موازين القوى مختلة كلياً لغير صالحه: أي لغير صالح الفلسفة والعقل، لذلك اتبع سياسة التقية أو الرقابة الذاتية، كسلاح فلسفي فعّال لمناوشة الكنيسة المسيحية ورجال الدين. وقال كلمته الشهيرة: الفيلسوف يتقدم مقنّعاً على مسرح التاريخ.. بمعنى أنه لا يكشف أوراقه دفعة واحدة.فالتهور ليس ضرورياً، بل ويؤدي إلى عكس النتيجة. لذلك راح ينشر كتبه بدون توقيع في أحيان عديدة، أو بأسماء مستعارة. وهكذا استطاع أن يمشي في فتوحاته أو كشوفاته الفلسفية إلى مداها الأخير، وأن يقدمها كهدية للأجيال القادمة.ولو أنه كان متهوراً استفزازياً لقتلوه وهو في عزّ عطائه ولكنا خسرنا الفلسفة الديكارتية أو قسماً كبيراً منها. ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن سبينوزا، وفولتير، وديدرو، وعشرات غيرهم، وبالتالي فالمفكر الكبير ينبغي أن يحافظ على نفسه ليس من أجله هو، إنما من أجلنا نحن، ومن أجل تنوير البشرية وهدايتها إلى طريق الحقيقة.أما في ما يخص العالم الإسلامي الذي يعيش الآن نفس الحالة الظلامية التي كانت تعيشها أوروبا في العصور الوسطى، فإن التحديات المطروحة عليه هي ذاتها. ويرى المفكر التونسي عبد الوهاب المؤدب، أن كل ما أبدع من أشياء عظيمة في مجال الشعر والأدب والفكر، كان خارجاً على رجال الدين أو مضاداً لدوغمائيتهم الخانقة.ويضرب على ذلك مثلاً بشار بن برد، أو أبو نواس، أو الأخطل، أو عمر الخيام، أو المعري، أو ابن الراوندي، أو ابن عربي، أو ابن رشد، أو أبو بكر الرازي، أو ابن سينا.. إلخ.وبعض هؤلاء تم تكفيرهم ودفعوا الثمن باهظاً، لكن بعضهم الآخر نجوا بجلودهم. فبشار بن برد، وابن المقفع قتلا في حين انه لم يحصل أي شيء لابن الراوندي الذي كان أشد خطراً منهم.. والواقع أن الخليفة كان يستطيع في أي لحظة أن يهدد الفلاسفة والشعراء عن طريق وشاية الفقهاء والقضاة ورجال الدين بهم والتشكيك بعقيدتهم. وكان يستطيع أن يضع حدوداً لحرية التفكير لا يمكن لأحد أن يتعداها. لكن وحدهم الذين تعدوها أو اخترقوها، أصبحوا كباراً وخلّدوا أسماءهم على صفحة التاريخ.مهما يكن من أمر، فإن المفكر التونسي التنويري المحض، يعتقد بأنه كانت هناك حرية نسبية للفكر إبّان العصر الذهبي من عمر الحضارة العربية الإسلامية الكلاسيكية.. ولم يحصل الانغلاق الفكري الكامل إلاّ لاحقاً وعلى مراحل. عندئذ ابتدأ العالم الإسلامي يدخل فعلاً في الظلمات، وهي ظلمات لم نخرج منها حتى الآن، بل ربما كنا نعيش الآن أحلك لحظاتها.الانغلاق الأول، بحسب رأيه، حصل في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي: أي في زمن السلجوقيين الأتراك والمنظِّر الكبير لعهدهم: أبو حامد الغزالي (مات عام 1111). عندئذ اعتقد المسلمون بأنهم ختموا العلم أو وصلوا به إلى الذروة: ذروة المعرفة الكلية المطلقة التي لا معرفة بعدها. بالطبع فإن الغزالي هو بطل هذه المرحلة دون منازع. ولا تزال عناوين كتبه الرائعة ترنّ في آذاننا كالجواهر واللآلئ أو كالذهب المصفى: الاقتصاد في الاعتقاد، فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، مقاصد الفلاسفة، تهافت الفلاسفة، مشكاة الأنوار، القسطاس المستقيم، المنقذ من الضلال.. إلخ. هذا دون أن ننسى احياء علوم الدين.. لقد نجح الغزالي في بلورة تركيبة فكرية تدقيقية ضخمة يصعب تجاوزها، ولذلك أصبح دليلاً هادياً للمسلمين على مدار الألف سنة القادمة عن طريق بلورة أخلاق نظرية وعملية، وكذلك عقيدة ناجزة ونهائية. لكنه بإنكاره لمفهوم السببيّة وإغراقه في التصوف والغيبيات، قضى على مفهوم العقلانية وكل إنجازات المعتزلة والفلاسفة لمدة ألف سنة أيضاً. ولم يستطع ابن رشد أن يوقف تأثيره الكاسح على العالم الإسلامي عندما تصدى له في كتابه الكبير: تهافت التهافت. وهكذا راح العالم الإسلامي يغوص رويداً رويداً في الظلمات والتواكل والجهل والانقطاع عن حركة العلم والمعرفة. وكان أن تأخر المسلمون وتقدم غيرهم عليهم وسبقوهم بسنوات ضوئية.. وأما الانغلاق الفكري الثاني الذي أجهز على حرية الفكر في العالم العربي والإسلامي فقد حصل في المنعطف التاريخي الفاصل بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر. ثم يردف عبد الوهاب المؤدب قائلاً: ثم كانت الطامة الكبرى في عصرنا الراهن، ظهور حسن البنا وحركة الاخوان المسلمين التي عادت إلى أسلوب التكفير الذي دشنه الأزارقة الخوارج لأول مرة في تاريخ الإسلام بعد التحكيم بين علي ومعاوية. وقد نجح البنا في مصادرة المشروع الإصلاحي العقلاني الوسطي المنفتح للامام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، وقضى عليه في نهاية المطاف. ونحن الآن ندفع ثمن هذه المصادرة أو ذلك الاجهاض لكل هذه الحركة الإصلاحية الواعدة ولكل عصر النهضة أيضاً.[c1] كاتب سوري[/c]
|
فكر
الحرية الفكرية.. الحضور والغياب شرقا وغربا
أخبار متعلقة