استميح القارئ الكريم، عذرا في أن تكون لي تأملات في وقت يسقط فيه أهلنا بلبنان وفلسطين شهداء آلة عسكرية إسرائيلية غاشمة، ففي مثل هذه الحالة لا يوجد وقت للتأمل، وإنما للفعل والحركة. وأسأله السماحة أيضا إذا كانت التأملات غاضبة لأن ذلك ـ بالضرورة ـ يخلق تناقضا في المفاهيم، فالتأملات في العادة باردة هادئة موضوعية تسمح للعقل بالتفكير والتدبير؛ أما الغضب فهو حالة عاطفية ينطلق فيها الغيظ بلا حدود، فلا يكظمه حكمة، ولا تحده تجربة. ولكن التأمل هو ما نعرفه ونعبر عنه بالكتابة، أما الغضب فإن مصدره هو ما نشاهده هذه الأيام من قصة أو سيناريو أو فيلم يكاد يكون صورة طبق الأصل مما شاهدناه خلال العقود الستة الماضية. ولمن قارب الستين من العمر مثلي، فإن مشاهدة نفس التجارب التي تمر بها الأمة بدون أن تتعلم مرة واحدة منها، هو أمر لا شك يدعو إلى الغضب، والغضب الشديد أيضا خاصة أن الأجيال الجديدة لا تعرف أكثر مما عرفته الأجيال القديمة.فهل توجد أمة في العالم تدخل معركة بعد معركة ثم بعد ذلك تطلب منذ اليوم الأول للقتال وقف إطلاق النار، فإذا لم تفلح تطالب بالهدنة، وإذا لم تنجح فإنها ترجو خلق ممرات آمنة لقوافل الإغاثة؟. وهل توجد أمة في العالم تطالب الدنيا بأسرها بالمساعدة على وقف إطلاق النار، وتلوم مجلس الأمن وجماعة الدول الثماني الغنية وجماعات الدول الكثيرة الفقيرة والقوى الكبرى والعظمى والمتوسطة والصغرى على عجزها عن فرض وقف "فوري" لإطلاق النار؛ ويكون كل ذلك في الوقت الذي يعلن فيه طرف المعركة العربي انتصاره على العدو فيكون أول طرف منتصر في تاريخ العالم يطالب بوقف القتال قبل تحقيق أهدافه في طرد القوات الغازية؛ وفي حالتنا الراهنة استعادة الأسرى الذين بدأت المعركة من أجلهم؟!. وهل توجد أمة تطلب من العالم المساعدة في كل شيء من أول الإغاثة وحتى استعادة الحقوق المشروعة، بينما لا تكف في نفس الوقت عن لعنته صباح مساء وتعتبره مجموعة من الكفار مرة، وجماعة من الصليبيين مرة أخرى، ودول تابعة وخاضعة للولايات المتحدة الأمريكية مرة ثالثة حتى ولو كانت الناتج المحلي الإجمالي لواحدة منها يفوق ما لدى الدول العربية مجتمعة ولديها من القنابل والصواريخ النووية ما يكفي لإبادة الأرض. وهل توجد أمة لا تتغير عندما تنقلب الدنيا رأسا على عقب، وتنتهي الحرب الباردة وتأتي العولمة، وتصعد فيها الهند والصين وتدخل كلتاهما في علاقات استراتيجية مع الغرب ومن حولهما دول آسيا؛ وتظل الأمة تعتقد طوال الوقت أنه لا جديد تحت الشمس، وما كان صالحا زمن الحرب الباردة لا يزال صالحا في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر؟!وهل توجد أمة في العالم تهيمن عليها وعلى روحها مجموعة من الراديكاليين الذين يأخذون الأمة من حلقها بسلسلة من الشعارات والهتافات والتقديرات المغلوطة والحسابات الخاطئة من كارثة إلى أخرى، ويحسبون عودة الاحتلال انتصارا طالما كان مصحوبا بالصمود والتصدي؟ وهل توجد أمة في العالم بعد نضال طويل ضد الاستعمار الفرنسي تحتفل لأن فرنسا وافقت على العودة بقواتها المسلحة إلى لبنان حتى ولو كانت ضمن قوات دولية "مقاتلة" تعمل ضمن إطار الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة؟ وهل توجد أمة في العالم يصبح فيها من يحافظون على بلادهم من العدوان، ويعضون بالنواجذ على سلامة أراضيها أو يستعيدون أراضيهم المحتلة، مجموعة من المتخاذلين الضعفاء العجزة، بينما من يعرضون بلادهم للتدمير والاحتلال أبطالا ترفع لهم الصور في المظاهرات ويهتف لهم على شاشات التلفزيون؟وهل يمكن في أمة من أمم العالم أن يجلس زعماء وقادة مثلما جلس أصحابنا لكي يقولوا بدون أن يطرف لهم جفن إن ما قاموا به كان نتيجة فشل عملية السلام، وكأن ما قاموا به هو بداية عملية حرب التحرير، أو أن عملية السلام لم تحرر سيناء وبعضا من الجولان وأراضي أردنية ومدنا فلسطينية؛ أو كأنهم لا يتحملون بعضا من المسؤولية في الأقل عن فشل عملية السلام هذه عندما قاموا بعملياتهم العسكرية بينما تجري عملية تسليم المدن الفلسطينية المحررة للسلطة الوطنية الفلسطينية؛ وهي المدن التي لم تلبث أن أعيد احتلالها مرة أخرى لأن جماعات الراديكاليين منا كانت تريد بكل الطرق إثبات فشل عملية السلام؟لماذا يحدث كل ذلك لنا دون غيرنا من الأمم ونسلم مصيرنا لمن يقودنا بالمهانة إلى أبواب الأمم المتحدة نطلب وقف إطلاق النار لكي نسمع المحاضرات عن طبيعة بلادنا وحضارتنا وثقافتنا وتخلفنا وعجزنا عن إدارة بلادنا؟ ومن المؤكد أنه لا توجد إجابة سهلة عن هذا السؤال، ولكن قديما قيل إن الأشرار ينتشرون لأن الأخيار يتوقفون عن إعلان مواقفهم، ويخجلون من الفخر بما يقومون به. وفي حالتنا، فإن الراديكاليين ينتشرون في ثياب مختلفة لأن المعتدلين والعقلانيين يصمتون حينما يجب الكلام، ولا يتحدثون عندما يجب الحديث. والقضية ليست أننا نستنكر السلوك الإسرائيلي العدواني المتغطرس والذي تعدى كل الحدود الإنسانية، ولا أننا ندين التقاعس الدولي عن إنقاذ شعب أعزل، ولكن الموضوع هو كيف نتعامل مع ذلك ونحرر أرضا ونقيم دولة مستقلة فيها مواطنون أحرار ليس فقط من المستعمر الأجنبي، أو من الاستبداد الداخلي، وإنما أيضا من حالات اللاعقلانية واللا منطق التي تزخر بها المنطقة العربية؟إن الأزمة اللبنانية الراهنة لم تكن الأولى، وبالتأكيد فإنها لن تكون الأخيرة، وعندما وقف عدد من الدول العربية موقفا منتقدا من حزب الله في بداية المعركة لم يكن ذلك تأييدا لإسرائيل كما قال البعض منا، وإنما كان طرحا ملتزما بواجب الحفاظ على الأرض العربية والشعب العربي اللبناني. ومن المدهش أن جماعة الراديكاليين العرب لم تجد غضاضة في الترديد الفوري لما تقوله إسرائيل في هذا الشأن وكأنه الحكمة بعينها بينما هو في الواقع لعب صهيوني على الحبال التي نصبتها الجماعات الراديكالية. وعلى أية حال، فقد التحمت الأغراض والأهداف فأعيد احتلال الجنوب اللبناني، ودمر لبنان، وتم استدعاء قوات أجنبية لفرض الوصاية على لبنان مرة أخرى حتى ولو لم يصفها أحد بهذا الوصف. وأصبح على الدول العربية المعتدلة العاقلة أن تعيد بناء لبنان التي أعادت بناءه منذ سنوات قليلة لكي يعاد هدمه مرة أخرى، فهل هذا هو ما نريده في قادم الأيام والأعوام، فتكون المهمة ليس تنمية البلاد العربية وإنما إعادة إعمارها؟والحقيقة أن ذلك ليس هو ما نريده، وبالتأكيد، فإن الذين أعلنوا احتقارهم للعقلانية والواقعية كانوا يصوتون للمغامرة والجنون. وما نحتاجه تصويت من نوع آخر، وفي وقت من أوقات الأزمة بدا وكأن المعتدلين والعقلاء استجمعوا قواهم لصالح الأمة، واتخذوا مواقف رافض لما تفعله إسرائيل، ولكنه في الوقت نفسه ناقدا لسلوك المغامرين الراديكاليين. ولكن مع مرور الوقت، واحتدام الأزمة، وسقوط الضحايا، وانتهاز إسرائيل للفرصة التي قدمها لها حزب الله على طبق من ذهب وتوغلها في الأراضي اللبنانية لكي تقوم بأعمالها الوحشية والبربرية، ما لبث الصوت أن خفت، وخلت الساحة إلا من المزايدين، وتكررت القصة العربية بحذافيرها التي تكررت بها على مدى ستة عقود، وحسبيَّ الله وهو نعم الوكيل!![c1]* مفكر مصري[/c]
|
فكر
تأملات غاضبة في الأزمة اللبنانية!
أخبار متعلقة