تشهد البلاد جدلاً صاخباً حول مشروع المبادرة الرئاسية التي اقترحت تعديلات دستورية تشمل شكل نظام الحكم وتعزيز مشاركة المرأة في الحياة السياسية وتطوير آليات العملية الانتخابية على طريق تعميق العملية الديمقراطية الجارية في اليمن، باتجاه تعديل التشكيل الحزبي للجنة العليا للانتخابات ووضعها تحت الإشراف الكامل للقضاء. صحيح أنّ نقاشاً يدور الآن على مستويات مختلفة حول مضمون وأبعاد المبادرة الرئاسية بأشكال متفاوتة، لكن ذلك لا يمنع من تناول بعض عناصر هذه المبادرة، وخاصة ما يتعلق بتنظيم العملية الانتخابية التي أريق في محرابها مداد كثير في أوقات سابقة، وقيل عنها كلام أكثر حول ضرورة ضمان نزاهة العملية الانتخابية، وحياد واستقلالية اللجنة العليا للانتخابات التي ينيط بها الدستور والقانون مهام الإدارة والإعداد والإشراف والرقابة على إجراء الانتخابات العامة والاستفتاء العام.اللافت للنظر أنّ طرفي الحوار (الحزب الحاكم وحكومته من جهة، وأحزاب المعارضة من جهة أخرى)، حاولا تبرير التباين في رؤية كل منهما للتعديلات المراد إدخالها على قانون الانتخابات الحالي بالحرص على ضمان حرية ونزاهة الانتخابات بوصفها واحدة من أهم الأدوات الدستورية والقانونية لممارسة الديمقراطية في المجتمع.ترى أحزاب المعارضة أنّ تمثيل ما تسميه (الأحزاب الفاعلة) ضروري لضمان حيادية اللجنة العليا للانتخابات ولجانها الفرعية، ومنع خضوعها لضغوط آليات السلطة التي يتداخل عملها مع طبيعة عمل اللجنة بوصفها جهازاً تنفيذياً يعتمد في أداء مهامه على مختلف الأجهزة الحكومية، وفي مقدمتها الأجهزة الإعلامية والمالية والأمنية التي تتوقف على حياديتها نزاهة الانتخابات.والثابت أن أحزاب المعارضة شددت في أوقات سابقة على أهمية تمثيل الأحزاب في عضوية اللجنة، كما عارضت بشدة فصل أي عضوٍ من أعضاء اللجنة العليا، حيث أنّ من شأن ذلك إضعاف هيبتها، وتسويغ سياسة (الترهيب والترغيب) التي تقول المعارضة إنّ الحزب الحاكم يلجأ إلى ممارستها بقصد صرف اللجنة عن مهامها وتطويعها لمصالحه الانتخابية! ولذلك فإنّ أحزاب المعارضة كانت - وأعتقد أنها لا زالت - ترى في تمثيلها داخل عضوية اللجنة العليا ولجانها الفرعية في المديريات والمراكز ضماناً إضافياً لمنع وقوع أي عضوٍ من أعضاء اللجنة تحت طائلة الخوف من الفصل إن هو التزم بالحياد والاستقلالية! في هذا السياق أيضاً تطرح أحزاب المعارضة عدداً من القضايا التي يمكن الاتفاق أو التوافق حولها مع المؤتمر الشعبي العام بصفته حزب الأغلبية، خصوصاً تلك التي تطالب بدور فعال للجنة العليا للانتخابات من خلال حيادية المال العام ووسائل الإعلام الحكومية، وعدم استخدام وسائل النقل والممتلكات الحكومية لأغراض الدعاية الانتخابية للأحزاب ومرشحيهم، بالإضافة إلى التحديد الدقيق للموطن الانتخابي ومشاركة المعسكرات في الانتخابات.لا يُخفى على المراقبين الذين تابعوا قبل الانتخابات البرلمانية لعام 2003م ما دار حول هذه القضية من حوارات وخلافات وحملات إعلامية متبادلة بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة، أنّ المؤتمر الشعبي العام كان دائما ً يتحفظ على مشاركة الأحزاب والتنظيمات السياسية بصورةً قانونية في عضوية اللجنة العليا للانتخابات لأسباب عديدة، أهمها أنّ مشاركة الأحزاب في اللجنة المشرفة على الانتخابات تنفي استقلاليتها وحياديتها، وتضعف وحدتها وفاعليتها، وتفتح باباً لتوجيه عملها من خارجها.. لأنّ ممثل كل حزب ملزم بالرجوع إلى قيادة حزبه، وتنفيذ توجيهاته بشأن أسلوب عمل اللجنة.. ويتفق أحد أجنحة الحزب الاشتراكي اليمني الذي يمثله محمد حيدره مسدوس وحسن باعوم مع الحزب الحاكم في وجهة النظر هذه.ومن نافل القول إنّ الحزب الحاكم كان يتحفظ على المطالبة بتمثيل ما تسمى «الأحزاب الفاعلة» فقط في عضوية اللجنة، انطلاقا ً من قناعته بأن معيار فاعلية أو عدم فاعلية أي حزب من الأحزاب هو رصيده الانتخابي في مقاعد مجلس النواب والمجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني، وأنّ الإخلال بهذا المعيار يتعارض مع مبادئ الديمقراطية ومعاييرها الجوهرية في الصميم!وقد سبق للحزب الحاكم ان أبدى قلقاً واضحاً بسبب عدم وجود نص صريحٍ في القانون النافذ، يحاسب أي عضوٍ في اللجنة عند إخلاله بواجباته، أو خروجه عن الحيدة والاستقلالية، وما يترتب عن ذلك من خللٍ قد يعرض عمل اللجنة للشلل أو الفوضى.ولعل ذلك يفسر إصرار الحزب الحاكم قبل تشكيل اللجنة العليا للانتخابات على التمسك بضرورة أن ينص قانون الانتخابات على صلاحية رئيس الجمهورية بفصل أي عضوٍ في حالة فقدانه أحد الشروط القانونية التي يتوجب توافرها في عضوية اللجنة.من جانبه لا يتردد الخطاب السياسي والإعلامي للحزب عن القول بأنّ تمثيل ما تسمى (الأحزاب الفاعلة) في عضوية اللجنة العليا للإنتخابات ينطوي على نوعٍ من الفساد الذي يسيء إلى سمعة الأحزاب السياسية، خصوصاً أحزاب المعارضة التي يتهمها الحزب الحاكم بتوزيع حصصها في اللجان الفرعية على الأقارب والمحاسيب من خارج تلك الأحزاب.والأخطر من ذلك، أنّ أحزاب المعارضة (الفاعلة) التي تشدد على ضرورة مشاركتها في اللجنة العليا واللجان الفرعية تكون مكشوفة وعارية تماماً في معظم الدوائر الانتخابية نتيجة ضعف قاعدتها أو عدم وجود قاعدة لها نهائياً، فتلجأ إلى المغالطة، وفي أحسن الأحوال تقوم باستعارة قوائم وفيرة من البشر فيما بينها لإشغال الحصص الكبيرة المقررة للأحزاب (الفاعلة) في عضوية اللجان الفرعية.. وفي حالات كثيرة يتم اللجوء إلى أساليب ووسائل غير قانونية لمعالجة العجز عن إشغال الحصص المقررة لها.وبوسعنا القول إنّ أساليب الإحتيال التي تلجأ أحزاب المعارضة (الفاعلة) للتعامل بها عند إشغال حصصها المقررة في اللجان الانتخابية الفرعية، تتحمل المسؤولية الكبرى عن عدم فاعلية من يفترض أنّهم يمثلون أحزاب المعارضة في مئات اللجان الفرعية المترامية على طول وعرض الجمهورية.يمكن القول إنّ التشكيك بنزاهة الانتخابات وعدم حيادية الجهاز التنفيذي المعني بتنظيم وإدارة الانتخابات وتوجيه الاتهامات الفورية للسلطة بتزوير نتائج الانتخابات، تكاد أن تكون سمة رئيسية لمواقف القوى السياسية التي تفشل نهائياً في الوصول إلى المؤسسات التمثيلية المنتخبة، أو تحقق نتائج متواضعة لا تساعد هذه القوى على الحضور الفاعل في السلطة أو في الهيئات التمثيلية.ومما له دلالة عميقة، أنّ هذه الظاهرة التي تبرز على السطح فور إعلان نتائج الانتخابات ليست حكراً على اليمن فقط، بل تكاد أن تكون ظاهرة عامة، وملازمة لكل الانتخابات في البلدان العربية والنامية عموماً.. بل أننا في اليمن تميزنا عن غيرنا من البلدان الأخرى في أنّ الأحزاب السياسية اعتادت الطعن في نزاهة الانتخابات، برغم مشاركتها في عضوية اللجنة العليا للانتخابات ولجانها الفرعية!!!وما زلنا نتذكر آلاف الطعون التي رفعها إلى القضاء ثلاثة أحزاب كبيرة في اليمن بعد إعلان نتائج انتخابات عام 1993م البرلمانية، والتي يروق لمعظم أحزاب المعارضة وصفها بأنّها كانت من أفضل النتائج توازناً منذ قيام الوحدة اليمنية والشروع في بناء نظام ديمقراطي تعددي.والمثير للدهشة أنّ تلك الأحزاب التي تقدمت إلى القضاء بآلاف الطعون، كانت تشارك بفعالية في عضوية اللجنة العليا للانتخابات، من خلال شخصيات قيادية تاريخية ومجربة. وبينما كان حبر الطعون لم يجف بعد، اتفق قادة تلك الأحزاب على سحب تلك الطعون بوثيقة خطية ممهورة بتواقيعها، كانت مقدمة لاتفاق سياسي على تشكيل حكومة ائتلافية غير منسجمة.في الاتجاه نفسه لم تسلم نتائج الانتخابات البرلمانية لعامي 1997 من تهمة التزوير التي وجهها حزب الإصلاح وأحزاب المعارضة الأخرى، كمقدمة لخروج حزب الإصلاح من حكومة الائتلاف وانتقاله إلى منطقة وسط بين السلطة والمعارضة.. وكذلك الحال بالنسبة للانتخابات البرلمانية لعام 2003، حيث لم تسلم هي الأخرى من تهمة التزوير على الرغم من نجاح بعض أحزاب المعارضة وخصوصاً الحزب الاشتراكي في إحراز رصيد مشجع من المقاعد على حساب تراجع رصيد حزب الإصلاح الذي اتهم المؤتمر بتزوير النتائج.. مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ المؤتمر الشعبي العام يفسر تراجع رصيد حزب الإصلاح في جميع المحطات الانتخابية الأخيرة بأنّه يعود إلى مشاركة الحزب الاشتراكي فيها بعد عدوله عن قراره بمقاطعة الانتخابات العامة عام 1997م، نافياً أن يكون هذا التراجع نتيجة ما يسميه حزب الإصلاح تزويراً!!! يتضح مما تقدم أنّ أحزاب المعارضة درجت على التشكيك بنتائج كافة الانتخابات التي شهدتها البلاد منذ عام 1993م على رغم مشاركتها في اللجنة العليا للانتخابات ولجانها الفرعية التي نظمت وأدارت جميع تلك الانتخابات، مما يلقي ظلالاً من الشك حول مصداقية الرأي الذي يقول بأنّ مشاركة الأحزاب في عضوية هذه اللجنة ولجانها الفرعية يعد ضماناً قوياً لحياديتها واستقلاليتها.. الأمر الذي يؤكد حقيقة أنّ جذور المصاعب والاختلالات التي تبرز في مجرى العملية الانتخابية تكمن في بيئة أخرى بعيدة عن إدراك واهتمامات الأطراف المعنية ؟
|
فكر
نحو تطوير آليات العملية الانتخابية (1-2)
أخبار متعلقة