محمود عبدالغني صباغ :هل مجتمعنا مصاب بفصام فيما يتعلق بمسألة مشاركة المرأة في فعالياته وضمن مؤسساته ؟ في الواقع أن ثمة دلالات عديدة تشير إلى حضور ذلك الفصام، يؤكده التناقض الواضح في المعايير التي تحكم العلاقة بين المرأة والمجتمع بعامّة.إن ثلاثة تصريحات صحفية أخيرة لثلاثة مسؤولين، كافية لإعطاء لمحة عن صور حضور ذلك الفصام، بل ولتأكيد الفرضية برمتها.تصريح أمين جدة، الأستاذ عادل فقيه، برفض إدارته توظيف نساء في وظائف هندسية، "لأن المجتمع لا يقبل بعد أن ترتدي امرأة خوذة عمل وتنزل إلى المواقع"، إنما ينطوي على نظرة تبخيسية لقدرات المرأة السعودية، وعلى وصاية تتجاوز أحقية المرأة - أي امرأة- لتحديد اختيارها بذاتها، وبما يلائم أولويات وطموحات كل حالة - وكأن المرأة، وإن حازت المؤهلات وتحلّت بالقدرات المطلوبة تبقى قاصرة، في حُكم ذلك "المجتمع" الذكوري، الذي لم يرض بعد، ولكنه سيرضى يوماً ما، وإن كنا لا نعرف متى وبأي معيارية تحديداً.ثم إن الأمين يعطي لنفسه الحق في الحديث باسم قطاعات المجتمع وقواه كلها، ودون أن نعرف مثلاً كيف تسنى له استطلاع آراء القوى الاجتماعية، أو معرفة اتجاهات التطلعات الوطنية الجديدة على أقل تقدير. وهذه جناية أخرى تقترفها بعض الفعاليات النخبوية، بدون وعي منها أحياناً، للتملص من دورها المفترض في حسم المسائل البديهية لمصلحة الصالح الوطني وتحولات المجتمع والبداهة العقلية، مقابل إيثار السلامة الاجتماعية الشخصية، وتحاشي (وَجَع) الرأس، أو تماهياً مع السائد الجامد، والوهم بضرورة إبقاء السائد سائداً.ولست أدري هل أذكر سعادة الأمين الكريم، بأن المجتمع بات يتقبل -بأريحية مريبة- وجود المرأة في الشوارع، متلحفة بالسواد وفي قيظ الظهيرة، متنقلة بين عربات الأجرة، لتراجع ضماناً اجتماعياً، أو لتتعقب معونة جمعية خيرية، أو حتى متسوّلة على بوابات المساجد وبوابات الأربطة ومنازل أهل الخير. فلم لا يتقبلها إذا كمهندسة متمكنة، أو مسؤولة إدارة معززة مكرمة، أو مفتشة في الأمانة تتكسب من مصدر دخل شريف، وهو الذي تقبلها متجولة بين ظهرانيه تبحث عن مصالحها في صيغة منكسرة ذليلة ؟. إن تكريم المرأة الحقيقي، لا يكمن في ترديد الشعارات الشهيرة، بأنها "جوهرة مصونة" أو "مكانها الحقيقي في بيتها"، بل يكون تكريمها الحقيقي في تمكينها وتعليمها ودفعها إلى صفوف القوى العاملة الوطنية؛ مؤهلة للعمل والإنتاج، وقادرة على خوض التحديات المهنية والتنموية، ومستقلة كينونةً واقتصادياً، لا تابعة معلّقة، محدودة الخيارات ومبخسة في حقوقها، خصوصاً في زمن بات يأتي فيه الجور من الأقربين قبل البعيدين.ثم ليت الأمين الكريم، وهو رجل مشهود له بالفطانة والذكانة والمعرفة العلمية ونحن -للأمانة- نعوّل عليه كثيراً - ليته اطلع على حالة مجتمعات خليجية مجاورة شبيهة اجتماعيا بل لربما أكثر تعقيدا في شكل مكوّناتها الاجتماعية، حيث ترأس مهندسة خليجية قطاع الهندسة المدنية والإنشاءات في سلطة دبي للموانئ، وترأس مهندسة خليجية أخرى الإدارة التنفيذية لجهاز سلطة منطقة جبل علي الحرّة برمّته.أما التصريح التالي، في سياق المقالة، فهو تصريح المدير التنفيذي للناقل الجوي الرسمي، المهندس خالد الملحم، الذي بات ينفي في كل مناسبة إعلامية، توجّه مؤسسته العريقة إلى توظيف نساء سعوديات في مهن الضيافة الجوية أو العمليات الأرضية، وكأن مجرد التفكير في ذلك هو خطيئة في حد ذاتها لابد من التطهر منها في كل مناسبة. ولأن التعليل الأساسي الذي يحضر دوماً، هو لصيانة المرأة السعودية "المكرّمة" دائماً، فإن تصريحاً كهذا يحدد شروط المرأة "المكرّمة" وما دونها من وجهة نظر المؤسسة، إنما ينطوي على تبخيس للمرأة الأجنبية العاملة فعلاً ضمن قوى الناقل الوطني البشرية، وهذه نظرة تمييزية لا تليق بكبير مسؤولي المؤسسة، فضلاً عن صدورها من رجل حصيف ومتعلم ونحن أيضاً نعول على منهجيته الإصلاحية.ولأننا نرى السيدات المحترمات والمحتشمات من كل الجنسيات، يعملن كمضيفات جويات في خطوطنا الوطنية منذ عقود، ولأننا نرى زميلات أخريات يعملن ضمن كادر "السعودية" في مواقع أرضية خارج الحدود، دون أن "نستنكر" بحكم العادة، بينما لانزال نستبعد المرأة المحلية "بنت البلد"، لأننا تأخرنا في خطوة إشراكها في القوة العاملة، وفي وظائف نِدية، فقط لأسباب شعاراتية -هي ليست من الشريعة حتماً- فهذه عوارض "فصام" لا انفصام فيها.أما التصريح الثالث، فهو التصريح الرسمي الصادر من تحت قبّة مجلس الشورى السعودي، الذي رفض مؤخراً دراسة قرار بمشاركة المرأة السعودية في الفرق الرياضية الرسمية، معلقاً في الوقت ذاته باسم نائب المجلس، على تهديد اللجنة الأولمبية الدولية بتجميد عضوية المملكة إذا لم تُستحدث فيها أنشطة رياضية نسائية في النشاطات العالمية، بأن "السعودية لن تخسر دينها وقيمها مقابل الإذعان لشروط لجنة إشرافية دولية". وابتداء، أقول، ليت نائب مجلس الشورى الكريم كان أكثر دقّة في تعليقه الرسمي، فنحن حتماً لا نخسر ديننا أو قيمنا، حين نشارك باقي أجناس العالم، وفيهم أمم وأفراد يدينون بالإسلام، إذا ذهبنا إلى تنمية بناتنا رياضياً وبدنياً وذهنياً؛ إذ ثمة رياضات عديدة، لن تحيد مشاركة المرأة فيها عن روح الإسلام، ولن يخدش وجودها حتماً من قيم المجتمع المحافظ - بل على العكس إن حضورها ذلك يعطي صورة عن حضارية الدين الإسلامي، وتسامحه، وصلاحيته لكل زمان ومكان.أين المانع من مشاركة وتأهيل بناتنا في مسابقات عدة لا تنطوي على ممارسة قد تكون مبتذلة ؟. إننا نقول هذا ليس إذعانا لتهديد اللجنة الدولية فحسب، بل انطلاقاً من الرغبات الحضارية، وانسجاماً مع كافة المقاصد البديهية للشريعة التي ترفض حتما هذا العزل الشائن للمرأة، واستمرار استبعاد مشاركتها في الفعاليات العامة كمبدأ نافذ، وتواصل قهرها باسم الدين والشريعة.في طابور عرض الدول المشاركة في دورة ألعاب آسيا الأخيرة بالدوحة ، كان وفد الفرق السعودية الرياضية المشارك، هو الوحيد الذي يخلو من وجود عنصر نسائي واحد في أي من الألعاب المشاركة. حتى أفغانستان وإيران، وباقي دول الخليج، وبقية الدول الإسلامية الآسيوية، تجاوزت هذا الحاجز التقليدي إلى غير رجعة. وهذا مؤشر دلالي لأولي الألباب، ومدعاة للخجل والإحباط لكل من يملك غيرة على الدين والوطن.في الرغم من تنامي الوعي بكون الإرث الفقهي الذي يستبعد المرأة، إنما هو تراكم لأحكام الفقه الموروث، وللعادات والمظالم الجاهلية دون النصوص التحريرية، تبقى مسألة إعادة حقوق المرأة البديهية عالقة معلقة بلا حسم جازم. إذ إن الوفد السعودي نفسه في طابور العرض كان قد شهد تجاوزاً من عناصر أفراده الذكور، لبعض الأحكام "الحرفية" لذات الفقه "الموروث"، كارتداء شورتات لا تراعي العورة المحددة في تفسير ذلك الفقه، وفي انسجام الأفراد مع الموسيقى التي هي في تفسير الفقه "الموروث" خطيئة محرّمة، وكل ذلك يعطي لمحة أخرى عن "فصامنا" حين التعاطي مع مسألة مشاركة المرأة الرياضية فقط، التي لا تقبل أي نوع من التسامح، على عكس المسائل الأخرى.إن المجتمعات المتحضرة، هي التي لا تخشى من تفوق المرأة وقيادتها لصفوفها، بل وتدعمها وتراعي احتياجاتها وتضع لها البرامج التمكينية، لتعيش مع الرجل في ندية وتكامل وتعاون على البر والتقوى.ونحن لايخالجنا أدنى شك أن هذا هو الفهم الحقيقي لروح الإسلام، وهو التفاعل الحي مع مقاصد شريعته السمحاء، ولكن من -يا ترى- يعقِلْ ؟[c1]* نقلا عن صحيفة "الوطن" السعودية[/c]
فصامنا في مشاركة المرأة
أخبار متعلقة