تنطلق العمليات الإرهابية لعـنـاصر تنظيم “ القاعدة “ من منظومة فكرية تحث على الجهاد المقــــــــدس ، وتهدي “ المجاهدين “ وعداً بالشهادة والجنة والبنات الحور، ولذلك فانها تُـوجب استخدام العنف لتحقيق هذه الغاية ، وتبرر قتل المدنيين بزعم ان الأبرياء منهم سيبعثون على نياتهم يوم القيامة .!! لا تقيم هذه الجماعات وزناً للحياة كقيمة إنسانية وهبها الله للناس ، ولا تضع حدوداً لساحات معاركها الجهادية ، ولا تعرف سقوفاً للأهداف التي تسعى إلى تحقيقها ، بدعوى ( ان الدين لا يجيز أن يبقى شبر على وجه الأرض لا يحكمه الإسلام ، ولا يجيز في الوقت نفسه أن يبقى إنسان بين البشر لا يدين بالإسلام ، فالله لم يرسل نبيه ( عليه الصلاة والسلام ) ليدعو ويبقى في مكانه ، بل قال له ولأتباعه : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، فالصراع مستمر على هذا الأساس ، والمعركة قائمة لهذا الغرض ) ، بحسب ما جاء في كتاب “ فرسان تحت بيارق النبي “ لأيمن الظواهري ، الرجل الثاني في قيادة الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والنصــارى، وهو ما كرره أيضا الشيخ عبدالله صعتر عضو مجلس شورى حزب التجمع اليمني للإصلاح في شريط صوتي أصدره عام 2002 ، و تناولته بالعرض والإشادة صحف حزب (الإصلاح) آنذاك !! . !! امّـا اخطر ما تتضمنه هذه التربية الفكرية التي تمتلئ بها كتب المتطرفين فهي الدعـــــوة الــى “ تدمير وإحراق كنائس النصارى واليهود و معابد المشركين واضرحة المبتدعين ، وعدم موالاة الأفكار العلمانية مثل حرية الصحافة وانشاء الأحزاب وحقوق المرأة، وهو ما يعني افساح المجال للمبتدعة المخالفين من اهل الفرق الضالة مثل الشيعة والمعتزلة والصوفية والأباضية واهل الرأي الذين خالفوا أهل الحديث وخرجوا عن اجماع السلف ، والمنافقين الذين يظهرون الاسلام ويبطنون الكفر .. فليس لهؤلاء عصمة في الدم والمال وإن تابوا، ولا تقبل شهادتهم ولا يُصلـّـى خلفهم ولا يؤخذ عنهم العلم ولا يــُـناكـَحون ولا يـُـعطى لهم الحق في الرأي .. فالمجاهدون والموحدون مأمورون بعداوة هؤلاء المبتدعين والتشريد بهم والتنكيل بمن انحاز الى جهتهم بالقتل فما دونه “ بحسب آراء ابن تيمية والشاطبي وابن القيم وابن رجب الحنبلي ومحمد عبدالوهاب وحمود الشعيبي وبن جبرين!!!! في هذا السياق لا يضع مدبرو وممـــــّولو ومرتكبو هذه العمليات الإرهابية أي إعتبار لما ينجم عنها من ضحايا بشرية وكوارث بيئية وخسائر اقتصادية وتداعيات سياسية وأمنية تلحق الضرر الفادح بالمجتمعات والدول والعلاقات الدولية والسلام العالمي. هكذا يبدو الإرهاب خطرا متعدد الأبعاد وتبدو مكافحته ضرورة متعددة الأبعاد ايضاً.. ولما كان الإرهاب الذي يمارسه تنظيم “ القاعدة “ ينطلق من مرجعية فكرية ملتبسة بالدين، فإننا أمام خطر ينطلق من ثقافة معادية للديمقراطية والتعددية والتنوع والتسامح ، فيما يستخدم العنف للتحريض على إثارة الحروب والصدامات بين الأديان والطوائف والمذاهب والحضارات والمجتمعات ، والاعتداء على اية مصالح او رموز مفترضة لأهل “ الكفر والشرك والبدع “ والموالين لهم ، وصولاً الىالقضاء على “ مخالفات الأمم الجاهلية وإقامة الحاكمية”، بحسب معتقدات أتباع هذا الفكر الضال !!ولئن كان هذا التحدي الإرهابي يهدد السيادة الوطنية واقتصاد البلاد ومصالح المجتمع ، فإن من شأن التهاون معه وتجاهل الأبعاد الخطيرة لمرجعيته الفكرية ووسائله وأهدافه ، أن يدمـّر السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية ، ويمهد الطريق لقلب نظام الحكم والقضاء على الديمقراطية التعددية ، وفرض حكم شمولي استبدادي متخلف على غرار نموذج “ طالبان “ الذي أنتج تنظيم “ القاعدة “ ، وكلاهما ابنان شرعيان لثقافة التطرف التي أنتجتها ايديولوجيا الجهاد الأفغاني .!! وعليه يخطئ من يعتقد بأنه سيكون بمأمن من خطر الإرهاب الذي سيحرق الأخضر واليابس في حال تمكنه من الحصول على ملاذ آمن في بلادنا ، الأمر الذي يتطلب اصطفافاً وطنياً عريضاً ضد الإرهاب ، تشارك فيه كافة القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والفاعليات الفكرية والدينية والإقتصادية والثقافية بشكل منسق ومتكامل . ولما كانت حقوق الإنسان هي الأخرى متكاملة ولا تقبل التجزئة ، يغدو صعباً على المرء ان يصدق اولئك الذين يدافعون عن مرتكبي جرائم الإرهاب بذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان، بينما يتناسون حقيقة أن اعمال أولئك القتلة والمجرمين والخارجين عن القانون تعد عدواناً صريحاً وسافراً على حقوق الإنسان وحقوق المجتمع في آن واحد .. كما يتجاهلون في الوقت نفسه أن المرجعية الفقهية و الفكرية للإرهاب تهدر أسمى قيمة إنسانية أعزها الإسلام ، وهي الحياة باعتبارها هبة الله للناس ، وتختلق الذرائع الواهية لقتل المدنيين من الشيوخ والشباب والنساء والأطفال ، وتنكرحقوق المرأة ، وتلغي ضرورة الاختيار ، وتدعو الى فرض الوصاية على العقل والحقيقة ، ومعاداة الحداثة ومصادرة الحرية وتنميط ينطلق مخططو وممولو ومنفذو العمليات الإرهابية من أفكار متطرفة ومنغلقة يحاول اصحابها إضفاء وتلفيق قداسة دينية زائفة عليها بهدف الحصول على نوع من الشرعية واليقين ! تعود جذور بعض هذه الأفكار المتطرفة الى تأويلات فقهية متشددة لمفاهيم سياسية سلفية تتعلق بالحاكمية والجهاد والعلاقة بين دار الإسلام و دار الحرب ، وهي تأويلات موروثة عن عهود مظلمة سادها الإنقطاع الحضاري و الإنغلاق والتشدد ، وغابت عنها شمس الحضارة و هيمنت عليها القساوة و البداوة !!جانب آخر من هذه الأفكار نشأ على تربة آيديولوجيا “ الجهاد “ الأفغاني التي جسدت مصالح سياسية لإرادات دولية وإقليمية مختلفة في ذروة الحرب الباردة بعد الغزو السوفييتي لأفغانستان اواخر السبعينات . وكانت هذه الآيديولوجيا الجهادية قد ولدت منذ البدء مشوّهةً إذْ كانت مصالح القوى المتحالفة في الحرب ضد الوجود السوفييتي في أفغانستان تقتضي إحياء الأفكار السلفية الأكثر تشدداً وتزمتاً وإنغلاقاً ، وفي مقدمتها تلك التي تتعلق بالتكفير والتفسيق والتبديع باعتبارها شرطا ً لازما ًً للتعبئة والحشد وإثارة مشاعر الكراهية الدينية ضد االشيوعية وحلفاء الإتحاد السوفييني في العالم العربي والإسلامي خلال حقبة الكفاح الوطني التحرري ضد الاستعمار والصهيونية . زاد من تشوُّه هذه الآيديولوجيا ان التخلف الشديد للبيئة القبلية الأفغانية ساعد على إختلاط وتزاوج المفاهيم السلفية الموروثة عن الفقه البدوي المتشدد في عصور التراجع الحضاري والانغلاق، بالأفكار التكفيرية الجهادية للجماعات الإسلامية الراديكالية التي استخدمت العنف والإرهاب لمحاربة الحكومات العربية والإسلامية في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين ، بذريعة انها تمثل طوائف ممتنعة عن تطبيق الشريعة الإسلامية، وما انطوت عليه تلك الأفكار التكفيرية من إباحة محاربة اهل الشرك والبدع، وقتل المدنيين والأطفال والنساء والشيوخ الذين تتمترس بهم الأجهزة المدنية والعسكرية للنظم التي تمتنع عن تطبيق الشريعة ، بحسب معتقدات الفقه السلفي المتشدد !! وبعد انتهاء الحرب في افغانستان وإنسحاب الجيش السوفييتي أنتجت آيديولوجـــيـا “الجهاد “ المشوهة حروباً اهلية دامية بين الجماعات والفصائل الجهادية الأفغانية، وممارسات إجرامية الحقت ضرراً جسيماً بكرامة الإنسان المسلــم في افغانستان ، وشوّهت صورة الدين الإسلامي تحت يافطة تطبيق الشريعة الإسلامية ، فيما واصلت الجماعات الجهادية التكفيرية ــ ذات المنشأ العربي والآسيوي ــ حروباً جهادية عابرة الحدود والقارات ضد الحكومات والمجتمعات العربية والإسلامية بدعوى امتناعها عن تطبيق الشريعة ، وضد العالم بأسره بدعوى الجهاد المقدس ضد فسطاط الكـفــر !!على هذا الطريق توّحدت هذه الجماعات في اطار “ الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والنصارى “ ، وانشأت جهازاً خاصاً مقاتلا ً باسم “ القاعدة “ لتحقيق اهداف الجبهة التي تتمثل في ( إقامة الحاكمية ومحاربة انحرافات الأمم الجاهلية مثل الأحزاب والنقابات والجمعيات النسائية والمصارف والغناء والموسيقى والتصويروالسينما والسفور والديمقراطية والانتخابات ) بذريعة انها كلها مخالفة لإجماع السلف والخلـف “ ، بحسب ما جاء في البيان التأسيسي الذي اصدرته هذه الجبهة في فبراير 1998م ، وكــذلك ما تضمنته الكتــب التثقــيفـيــة الـتي يتربـــى عليها مقاتلو تنظيـم “ القاعدة “ ، وما احتوت عليه الوصية الأخيرة لقائد هذا التنظيم أسامة بن لادن ، الذي كتبها بخط يده ومهرها بتوقيعه في نوفمبر 2001 م .صحيح ان ثمة تجاذبات حزبية وسياسية أحاطت بطرق تناول خطر ثقافة العنف على وعي وسلوك المنفعلين بهذه الثقافة التي تجسدت في أشكال مختلفة من التعبئة الخاطئة لضحاياها ، بيد ان هذه الثقافة المشوهة لاتنحصر فقط في الخطاب السياسي الذي تورِّط فيه بعض رجال الدين والدعاة المشتغلين في الحقل السياسي ، إذ ْ ان هؤلاء يمارسون نشاطا ً سياسيا ً وحزبيا بإمتياز ، رغم محاولة التماهي مع مشروعية دينية لا تحظى بإجماع كافة قوى المجتمع المدني ، خصوصا ًوإن الضالعين في توظيف الدين لأغراض سياسية بحتة ، يمارسونه من خلال أطر حزبية في ظل نظام ديمقراطي تعددي ، يتيح لكافة قوى المجتمع السياسية وفاعلياته الفكرية والثقافية فرص التمتع بكافة الحقوق الإنسانية والسياسية والمدنية التي يكفلها الدستور للمواطنين ، وفي مقدمتها حرية الصحافة والحق في تشكيل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني ، وإستخدام الآليات الديمقراطية للتعبير عن أفكارهم وبرامجهم السياسية ، وتداول السلطة او المشاركة فيها سلميا ً من خلال الإنتخابات المباشرة والحرة التي تشارك فيها الأحزاب والتنظيمات السياسية والمنظمات غير الحكومية والمواطنون والمواطنات عموما ً . ولمـّا كان قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية يمنع قيام أي حزب او تنظيم سياسي على أساس الإدعاء بإحتكار تمثيل الدين أو الأمة أو الوطن ، إنطلاقا ًمن حرص المُشـرَّع على سلامة الممارسة الديمقراطية ، ومراكمة المزيد من التقاليد والخبرات التي تصون مرجعية الأمة كمصدر للسلطة ، فإن أي ادعاء باحتكار تمثيل الدين أو استخدامه لممارسة وصاية غير مشروعة على الدولة والمجتمع والفضيلة والأخلاق ونمط حياة وسلوك المواطنين، يعد تجاوزا ً خطيرا ً للدستور الذي ينظم قواعد الممارسة السياسية ، وانتهاكا ً خطيرا ًلمبادئ الديمقراطية وقيمها ، الأمر الذي يلحق ضررا ً بالأسس الدستورية للنظام السياسي القائم في البلاد ، ويفسح الطريق لزعزعة الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي والأمن والاستقرار .ان مستقبل الديمقراطية الناشئة في اليمن يتوقف على مدى النجاح في إنضاج المزيد من شروط تطورها اللاحق ، عبر مراكمة خبرات وتقاليد تؤسس لثقافة سياسية ديمقراطية ، وتمحو من ذاكرة المجتمع رواسب الثقافة الشمولية الموروثة عن عهود الاستبداد والتسلط ، بما تنطوي عليه من نزعات إستبدادية تقوم على الإقصاء والإلغاء والتكفير والتخوين والزعم باحتكار الحقيقة ، وعدم قبول الآخر ورفض التعايش معه ، الأمر الذي يفضي في نهاية المطاف الى تسويق مشروع إستبدادي غير قابل للتحقيق بالوسائل الديمقراطية ، ويبرر بالتالي العدوان عليها من خلال استخدام العنف بوصفه الوسيلة الناجعة للإقصاء والانفراد .لا ريب في أن أطرافا ً سياسية بعينها تتحمل مسؤولية مباشرة عن الخطاب التكفيري التحريضي الذي أدّى الى انتشار التطرف لدى بعض المنفعلين بهذا الخطاب ، وأنتج من بين صفوفهم بعض القتلة والمجرمين القساة الذين تورطوا في ارتكاب جرائم إرهابية ، بيد أن الأمانة التاريخية توجب الإشارة الى أن رواسب ثقافة العنف والتطرف ، وبقايا نزعات الاستبداد والإقصاء والإلغاء والإنفراد والأحادية ، ليست حكرا ً على طرف سياسي دون آخر ، وإن كان ثمة من لم يساعد نفسه بشكل خاص والمجتمع بشكل عام على التخلص من تلك الرواسب . بوسعنا القول ان ثقافة الاستبداد في مجتمعنا اليمني والمجتمعات العربية امتلكت أجهزتها المفاهيمية من خلال طبعات مختلفة للإيديولوجيا الشمولية التي اشتغل مثقفوها على أدوات وأطر تتسم بالإفراط في تبسيط الظواهر والوقائع والإشكاليات والتناقضات القائمة في بيئة الواقع ، والسعي الى إخضاعها للأطر الفكرية والأهداف السياسية للإيديولوجيا ، بما هي منظومة جاهزة ونهائية من الأفكار والأهداف والرؤى والتصورات والآليات والتهويمات التي تسعى الى السيطرة على وعي وسلوك الناس ، وصياغة طريقة تفكيرهم وتشكيل مواقفهم واستعداداتهم ونمط حياتهم على أساسها . ولمـّا كانت الايديولوجيا ــ سواء كانت ذات لبوس ديني أو قومي أو اشتراكي ــ تنزع دائما ً الى ممارسة الوصاية على الحقيقة والمعرفة ، إذ ْ تزعم باحتكار الحقيقة وتسعى الى أدلجة المعرفة ، فإنها تـُعطـَّـل في نهاية المطاف دور العقل كأداة للتفكير والتحليل ، حين ترى العلة في الواقع لا في الأفكار والتهويمات التي تؤثر على طريقة فهم الواقع والتفاعل معه .. بمعنى فرض سلطة الصنم الإيديولوجي بصرف النظر عن لبوسه ، وما يترتب على ذلك من إفتقاد الموضوعية والعجز عن معرفة الواقع وإكتشاف الحقيقة !! من نافل القول ان جميع القوى السياسية والتيارات الفكرية ــ بدون إستثناءــ توّرطت بأشكال ومستويات مختلفة في إنتاج ثقافة العنف والتعصب عبر تسويق مشاريع سياسية شمولية ذات نزعة إستبدادية وإلغائية أضاعت فرصا ً تاريخية لتطور المجتمع ، وأهدرت طاقات وإمكانات هائلة ، وخلقت جراحا ً غائرة وطوابير من ضحايا الصراعات السياسية وأعمال العنف والحروب الأهلية والإغتيالات السياسية والتصفيات الجسدية التي كان يتم تبريرها سياسيا ً وايديولوجيا ً سواء بذريعة الدفاع عن الوطن والثورة ، أو بذريعة مناهضة القوى الرجعية ، أو بذريعة حراسة الدين ومحاربة الكفر ، بما في ذلك فكرة (( التـتـرس )) الدخيلة على الإسلام ، والتي تجيز قتل المدنيين من الشيوخ والنساء والأطفال والشباب الذين يعيشون أو يتواجدون في محيط الطائفة المتتنعة ، ويوفرون لهذه الطائفــــــة (( المرتدة )) فرصة التترس.. والمثير للدهشة ان الذين روجوا لهذه الفكرة الفاشية زعموا بأن ((العلماء أجمعوا على قتل هؤلاء المسلمين من أجل دحر الكفر عن دار الإسلام )) بدعوى أنهم سوف يبعثون يوم القيامة على نياتهم ![c1]* عن / صحيفة ( 26 سبتمبر )[/c]
|
فكر
إرهــاب مُــلتبس بـالـديـن
أخبار متعلقة