مدارات
قال تعالى : (وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل : (125) التعصب لغوياً هو ما يلازم معنى الإجبار والقسر وذلك لقولهم : عصب الشيء بمعنى شدة وعصب القوم به بمعنى اجتمعوا وأحاطوا به والتفوا حوله، المتعصب هو الذي لا يقبل بالاختلاف والتعدد وينفر من التغيير والتنوع، أما المعنى الحرفي لكلمة التعصب في اللغة الإنجليزية (Prejudice) فهو الحكم المسبق.نشأ التعصب عند العرب نشأة اجتماعية وليست دينية كما حدث في أوروبا في الصراع بين المذاهب الدينية على وجه الخصوص بين (الكاثوليك والبروتستانت)، ثم تحول التعصب الاجتماعي إلى ديني وتجذر في ثقافتنا وبدأت بذوره تؤتي ثمارها المرة في المجتمعات العربية.يخيل لي أن الحقيقة كانت تسير في أروقة واسعة تنشر فضائلها على الناس والمجتمعات، تتعارك داخلها الأفكار بطرق سلمية تقوم بتحليلها وتصنيفها تمررها عبر ثقوب تسمي القناعات الشخصية وتبتعد أثناءها عن الأنانية وتعطي الفرصة الكبرى للعقل لإجراء مقارنة والقبول بالتنوع عبر النقاش المنهجي الحر، يوماً ما اصطدمت بكتلة من نار (ترقد تحت الرماد) أخذت تعرقلها وتعيق سيرها وتحاول امتلاكها واحتكارها، بدأت كتلة النار تغرد عضلاتها وارتفعت حدة صوتها وأغلقت عينيها وحاولت الإمساك بطرف الحقيقة وطمس بقية أجزائها، وأعلنت حق الوصاية عليها ونفي نسبية المعرفة وادعت بأنها اليقين المطلق غير القابل للشك وإمكانية الخطأ، مؤمنة في أعماقها أنها تدافع عن الحق وتتوهم تجسيدها للحقيقة، فسيطرت على كل فكر مخالف لفكرها وطلبت من مخالفيها الإذعان والتسليم وإلا عقابهم وعزلهم ونفيهم من الحياة، فكانت سبباً في نشر الأحقاد بين الناس.من المعروف إن التعصب سلوك مكتسب من الأسرة والبيئة التي تربى الإنسان فيها، ويشكل عائقاً كبيراً في طريق الحقيقة. وأسباب التعصب تعود إلى :- رفض المتعصب أن يكون في موضع المخطئ، التشبث بالرأي حتى النفس الأخير مهما كانت النتائج، يغلبه الخوف لظنه أن فشل رأيه ونجاح رأي الآخرين هو تقليل من قدرته وقيمته، فلا يسمح الكبر له بالاعتراف بالخطأ.- غياب التسامح عند المتعصب فلا يقر بحق الآخر في الوجود والمشاركة والعيش المشترك، والبعد عن الحيادية والموضوعية، وإدخال المجتمع في صراعات مذهبية وفكرية متشنجة.- التبلد الحسي عن المتعصب، فهو فاقد الإحساس بالآخر وينفي عنه صفة الإنسانية فلا يعطي لنفسه الفرصة لسماعه أو التفكر فيما يقوله الآخر، فأحكامه جاهزة ونهجه (أنا دائماً على حق).- التقيد بأحكام عاطفية والابتعاد عن التحليل المنطقي العقلاني، وعدم وضع جسر تنتقل عليه الأفكار وسد جميع المنافذ والسبل فيكون المتعصب بمثابة القاضي يقر قانون إعدام الرأي الآخر.- اليقينية المطلقة النابعة من مساحة ضيقة في عقل الإنسان معها يرفض وجود خيارات متعددة ويلوح برأيه يمنة ويسرة، وفرصة الآخرين الوحيدة هي إجابته بـ(نعم).مع التعصب تضيق الفرص بين أفراد المجتمع وتتأزم العلاقة فيما بينهم، ويكون السلاح الوحيد ضد مفهوم حرية الرأي فتغيب القناعات المبنية على أسس منهجية لتبدأ الحقيقة في الاختناق والاحتضار.أما أنواعه فمتعددة منها :البداية كانت مع التعصب القبلي المتأصل الذي تحكمه العادات والتقاليد والأعراف ليبقى الإنسان محصوراً داخل نسبه وقبيلته، النعرة القبلية تعني الرجوع إلى الأصل العرقي على أنه الأنقى، يقودنا ذلك إلى التعصب الاجتماعي القائم على البناء الهرمي في المجتمعات المكونة من طوائف وفئات ومذاهب متعددة ورفض المتعصبين إحداث أي حراك اجتماعي وتغيير طبيعة العلاقات القائمة بين أفراده، يمارس التعصب العرقي ضد القلة المهمشة ويتم تصنيف الأفراد على حسب الثروة والسطوة واللون ونوع المهنة، والنقطة الأخرى الأهم في التعصب الاجتماعي هو التمييز ضد المرأة التي يجعلها أدنى مرتبة من الرجل فتغدو “عودة” ناقصة عقل ودين، ونفي أحقيتها في العديد من القضايا المتعلقة بها.التعصب الديني أخطر أنواع التعصب في المجتمع وتتقوى بقية أنواع التعصب في ظل الهيمنة الدينية، ويؤدي بالضرورة إلى التعصب الفكري والثقافي، حيث تتخذ العديد من الجماعات الدينية الجامدة الدين غطاء لها وتختزله في تأويلها وما تقره من تفسير بـأنه هو الأصح والفهم الأسلم وتنتقص من الجماعات الدينية الأخرى وتكن العداء لأي تأويل مغاير لها في طريقة فهم الدين أو توجيه نصوصه وتكفر بقية الفرق والطوائف الدينية، ويصبح الدين احتكاراً لفئة معينة تعطي لنفسها الشرعية في استئصال تيارات الفكر العقلاني وتحبط أي محاولة للإصلاح الديني، هذا النوع من التعصب اقترن بالعدوانية والإرهاب القائم على أساس مذهبي وعقائدي.التعصب يدمر المجتمع بأكمله، ونتائجه الخطرة هي :قتل الحقيقة، وتؤيد التطرف والعنف حيث يبدأ بممارسة العنف اللفظي الذي يوقع الرعب في قلوب المخالفين، انتهاءً بممارسة العنف المادي كالتغريب واللجوء إلى الطرق الهمجية وإزهاق الآخر. مع التعصب يختنق العلم وينمو الجهل وأفكار سطحية ساذجة وتمارس أشكال التمييز والعنصرية المعادية للأقليات القومية والعرقية والدينية والثقافية واللغوية، واضطهاد اللاجئين والعمالة المهاجرة والمجوعات المهمشة في المجتمع.أخيراً أرى أن النقاش هو الطريقة المنهجية الصلبة التي من خلالها يتم تبادل الأفكار والآراء ونصل إلى مرحلة يعي فيها الأول رأي الآخر ويعي الآخر لرأي الأول ويقوم العقل بالتحليل والتصنيف وتجديد القناعات الشخصية للفرد عبر منهجية سليمة صلبة قائمة على الموضوعية والبعد عن الأنانية الفكرية وصولاً إلى الحقيقة التي لا تكون حكراً على فئة دون غيرها.[c1][email protected][/c]